علي محمد الغريب
أن تقرأ عنها أو تكتب عنها يتملكك شعور بالرهبة والهيبة والحنين؛ الرهبة من تأمل حياة امرأة عظيمة بقامة أم عبدالله بن الزبير بن العوام أول مواليد المدينة المنورة بعد الهجرة، وداحض فرية اليهود بعقم نساء المسلمين!
ويتملكك شعور بالهيبة من تأمل حياة امرأة عايشت النبي صلى الله عليه وسلم وتكحلت عيناها برؤيته، واستمعت لصوته وتعلمت من توجيهاته، وساهمت وهي فتاة صغيرة في نجاح أعظم حدث غير حياة البشرية، يوم شقت نطاقها، وساعدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباها في التخفي عن عيون المشركين.
ويتملكك شعور جارف بالحنين لهذا الزمن العبق بالنقاء والحب والرحمة والطهارة الخالصة، زمن مفعم بكل القيم الإنسانية ويتحلى بالذوق والتعامل الراقي في أعلى صورة وأبهاها!
إنك حين تنظر لواقع أكثر بناتنا اليوم وواقع "البنت" أسماء بنت أبي بكر تشعر بفصام عجيب، فصام يجعلك في حيرة، وتتساءل من أين ضربتنا هذه الرجعية والتخلف؛ رجعية جعلت إيمان البعض يهتز بمجتمعاتنا وحضارتنا، لكنك حين تعود إلى المعين الأصلي تجد أننا أمة أهدت نساءها النور والحياة والحرية، وهي أمة جديرة أن تسود طريقة تربية نسائها على البشرية لينعم العالم بالحياة في ظلال رقيها وطهارتها.
كانت السيدة أسماء رضي الله عنها من السابقات للإسلام، فقد أسلمت وهي مازالت صبية صغيرة لم يتجاوز عمرها 14 عاما، ومنذ أسلمت شاركت بمواقف مفصلية في حياة الدعوة الوليدة، فقد شاركت النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبا بكر الصديق بمدهما بالمؤنة أثناء وجودهما في الغار، حين حملت الطعام لهما ولم تجد ما تحمله، ففكت قطعة قماش كانت تتمنطق بها وشقتها نصفين، وصرت الطعام في جزء وتمنطقت بالآخر، فأطلق عليها النبي صلى الله عليه وسلم ذات النطاقين.
ولما خرج أبوها الصديق مهاجرا برفقة صاحبه محمد صلى الله عليه وسلم، أخذ ماله كله ولم يترك لعياله شيئا، فلم علم بذلك والده أبو قحافة وتناهى إلى عمله أنه أخذ ماله فقال لأسماء: والله إني لأراه قد فجعكم بماله بعد أن فجعكم بنفسه.
فقالت له أسماء رضي الله عنها: كلا يا أبتِ إنه قد ترك لنا مالاً كثير، ثم أخذت حصى ووضعته في الكوة التي كانوا يضعون فيها المال وألقت عليه ثوبا، ثم أخذت بيد جدها المكفوف، وقالت: يا أبت، انظر كم ترك لنا من المال، وقد فعلت ذلك خوفا من أن يبذل لها ولأخوتها شيئا من ماله؛ لأنها تكره أن يصل وأخوتها شيئا من مال جدها الذي كان لا يزال مشركا في هذا الوقت.
ومما يروى عن شجاعتها وكتمانها سر المهاجرين، أنه في أحد الأيام وبينما كانت نائمة أيقظها طرق قوي على الباب، وكان أبو جهل يقف والشر والغيظ يتطايران من عينيه، سألها عن والده، فأجابت: إنها لا تعرف عنه شيئاً فلطمها لطمة على وجهها طرحت منه قرطها.
إن حياة هذه السيدة العظيمة أسماء رضي الله عنها حافلة بالمواقف، وكلها مواقف فارقة في حياة الدعوة، فقد هاجرت وكانت حاملاً بعبـد الله بن الزبيـر، وكانت تقطع الصحراء اللاهبة مغادرة مكة إلى المدينة على طريق الهجرة العظيم، وما كادت تبلغ (قباء) عند مشارف المدينة حتى جاءها المخاض ونزل المهاجر الجنين أرض المدينة في نفس الوقت الذي كان ينزلها المهاجرون من الصحابة، وحُمِل المولود الأول إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقبّله وحنّكه، فكان أول ما دخل جوف عبـد اللـه ريق الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمله المسلمون في المدينة وطافوا به المدينة مهلليـن مكبرين، داحضين بذلك زعم اليهود بأن المسلمين عقموا ولن يلدوا!
وكما كانت فتاة مجاهد صاحبة فطنة كبيرة وقدرة على مواجهة الظروف الصعبة، كانت زوجة تحسن التبعل وتخاف على زوجها وتحسن إليه وتخضع له وتراعى مشاعره وتحفظ غيرته، وروى عروة عنها، قالت: تزوجني الزبير وما له شيء غير فرسه، فكنت أسوسه وأعلفه، وأدق لناضحه النوى، وأستقي، وأعجن، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على رأسي - وهي على ثلثي فرسخ فجئت يوما، والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ومعه نفر، فدعاني، فقال: إخ، إخ، ليحملني خلفه؛ فاستحييت، وذكرت الزبير وغيرته. قالت: فمضى. فلما أتيت، أخبرت الزبير. فقال: "والله، لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه!".
ومثلما كانت زوجة طيعة حصيفة، كانت أما شجاعة مجاهدة حين صلب عبدالله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه، فعن ابن عيينة، عن منصور بن صفية، عن أمه، قالت: قيل لابن عمر: إن أسماء في ناحية المسجد - وذلك حين صلب ابن الزبير - فمال إليها، فقال: إن هذه الجثث ليست بشيء، وإنما الأرواح عند الله; فاتقي الله واصبري. فقالت: وما يمنعني، وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
فلم تفت الشيخوخة في حيوية روحها وتوثبها الدائم لنصرة الحق برغم أنها صارت امرأة عجوز ووهن جسمها، فقبيل مصرع عبد الله بن الزبير بساعاتٍ دخل عليها عبدالله رضي الله عنه وقال: السلام عليك يا أُمَّه ورحمة الله وبركاته.
فقالت: وعليك السلام يا عبدا لله. ما الذي أقدمك في هذه الساعة، والصخور التي تقذفها منجنيقات الحَجَّاج على جنودك في الحرم تهز دور مكة هزًا؟!
قال: جئت لأستشيرك.
قالت: تستشيرني.. في ماذا؟!
قال: لقد خذلني الناس وانحازوا عني رهبة من الحجاج أو رغبة بما عنده، حتى أولادي وأهلي انفضوا عني، ولم يبق معي إلا نفر قليل من رجالي، وهم مهما عظم جلدهم فلن يصبروا إلا ساعة أو ساعتين. وأرسل بني أمية يفاوضونني على أن يعطونني ما شئت من الدنيا إذا ألقيت السلاح وبايعت عبد الملك بن مروان، فما ترين؟
فقالت: الشأن شأنك يا عبد الله، و أنت أعلم بنفسك. فإن كنت تعتقد أنك على حق، وتدعو إلى حق، فاصبر وجالد كما صبر أصحابك الذين قتلوا تحت رايتك. وإن كنت إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت. أهلكت نفسك، وأهلكت رجالك.
قال: ولكني مقتول اليوم لا محالة.
قالت: ذلك خير لك من أن تسلم نفسك للحجاج مختارًا، فيلعب برأسك غلمان بني أمية.
قال: لست أخشى القتل، وإنما أخاف أن يمثِّلوا بي.
قالت: ليس بعد القتل ما يخافه المرء، فالشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ! فأشرقت أسارير وجهه وقال: بوركتِ من أم، وبوركت مناقبك الجليلة؛ فأنا ما جئت إليك في هذه الساعة إلا لأسمع منك ما سمعت، والله يعلم أنني ما وهنت ولا ضعفت، وهو الشهيد علي أنني ما قمت بما قمت به حبا بالدنيا وزينتها، وإنما غضباً لله أن تستباح محارمه. وها أنذا ماض إلى ما تحبين، فإذا أنا قتلت فلا تحزني علي وسلمي أمرك لله.
قالت: إنما أحزن عليك لو قتلت في باطل.
قال: كوني على ثقة بأن ابنك لم يتعمد إتيان منكر قط، ولا عمل بفاحشة قط، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يكن شيء عنده آثر من رضى الله عز وجل. لا أقول ذلك تزكية لنفسي؛ فالله أعلم مني بي، وإنما قلته لأدخل العزاء على قلبك.
فقالت: الحمد لله الذي جعلك على ما يحب و أُحب. اقترب مني يا بني لأتشمم رائحتك وألمس جسدك فقد يكون هذا آخر العهد بك!
إن السيدة أسماء رضي الله عنها وغيرها من نساء العصر الأول جديرات أن تتوقف أمامهن فتياتنا والتزود من سيرتهن ومسيرتهن، وتعلم فنون الحياة في المراحل المختلفة من حياتهن.
كانت حياة أسماء سلسلة مشحونة بالأحداث العظيمة، وكانت فيها كلها المرأة الحكيمة، وكانت امرأة المهام الصعبة بحق، منذ نشأتها ودخولها ضمن أول 17 مسلما كونوا بنية المجتمع الجديد، وحتى وفاتها وقد تجاوزت التسعين من عمرها وكف بصرها، ويذكر ابن سعد أنها: ماتت رضي الله عنها بعد ابنها بليال عام 73 من الهجرة الشريفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
ـ الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر.
ـ موقع السيرة النبوية.
أسماء بنت أبي بكر سيدة المهام الصعبة!
- التفاصيل