الكاتب: خميس النقيب
أَعجبُ من نساء وُلِدْنَ في العطاء، وشاركْنَ في البناء، وحملْنَ اللواء وترسمْنَ طريق الفداء، وفرحْنَ بطاعةِ ربِّ الأرض والسماء! في شدَّتهنَّ، في كربهنَّ، في محنتهنَّ، لا يتخلفْنَ أبدًا عن تلبيةِ النِّداء، وحتى تكون الصورةُ أكثرَ جمالاً وضياءً!
منذُ اللَّحْظة الأولى تبادر أمُّ المؤمنين خديجة بمشاركةِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - دعوتَه، فتُؤمِن به حين كفَر به الناس، وتُعطيه حين حرَمه الناس، وتواسيه حينما تخلَّى عنه الناس، عندما قصَّ عليها ما رآه في غار حِراء تعيش بجوارحِها كلها معه، وتُطمئنه وتهدِّئ من رَوْعه، وتُبشره وتسعده؛ ((واللهِ لن يخزيك الله أبدًا؛ إنَّك لتحمِل الكَلَّ، وتَقْرِي الضيف، وتَكْسِب المعدوم، وتُعين على نوائبِ الحق))؛ لذلك هذا عطاءُ الله لها؛ ((أتاني جبريلُ فقال: يا رسولَ الله، هذه خديجة قد أتتْك معها إناء فيها إدام أو طعام أو شَراب، فإذا هي قد أتتْك فاقرأْ عليها السلام من ربِّها ومنِّي، وبشِّرْها ببيت في الجنة من قصَب، لا صخَبَ فيها ولا نصب))؛ (صحيح)، انظر حديث رقم (69) في "صحيح الجامع".
كانتْ سُميَّة مِن الأوَّلين الذين دخلوا في الدِّين الإسلامي، وسابعَ سبعة ممَّن اعتنقوا الإسلام بمكةَ بعدَ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبي بكر الصديق، وبلال وصهيب، وخَبَّاب وعمَّار ابنها، ذاقوا أصنافَ العذاب، وأُلبِسوا أدرعَ الحديد، وصُهِروا تحتَ لهيب الشمس الحارقة؛ عن مجاهد قال: أوَّل شهيد استشهد في الإسلام سُميَّةُ أمُّ عمار، قال: وأوَّل مَن أظهر الإسلامَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو بكر، وبلال، وصهيب، وخبَّاب، وعمَّار، وسُميَّة أم عمار وزَوْجها، كانتْ سمية أَمَةً لأبي حذيفة بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، تزوَّجتْ مِن حليفه ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس العنسي.

أم عمَّار بن ياسر (سمية) أوَّل شهيدة في الإسلام، وهي ممَّن بذلوا أرواحَهم لإعلاءِ كلمة الله - عزَّ وجلَّ - يجب ألا تُنسَى، أعطَتْ حياتها، وبذلتْ رُوحها، وفدَتْ دِينَها وعقيدتَها، أمام ظلم الظالمين وبطْش الجبَّارين، احتملتِ الأذى في ذاتِ الله، وكان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يمرُّ بهم وهم يُعذَّبون فيقول: ((صبرًا آلَ ياسر، فإنَّ موعدكم الجنة))؛ حسن صحيح.

إنَّه عطاءُ الله لهم، وبُشرَى رسولِ الله لهم.

وهذه امرأةٌ أضْناها المرضُ وأنهكها البلاءُ، لكنها تقاوم وهي تتطلع إلى رِضا خالقِها ورازقها؛ عن عطاءِ بن أبي رَباح قال: قال لي ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما -: ألاَ أُريك امرأةً من أهل الجنة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء؛ أتتِ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالت: إني أُصْرَع وإنِّي أتكشَّف، فادع الله تعالى لي، قال: ((إنْ شئتِ صَبرتِ ولكِ الجنة، وإنْ شِئتِ دعوتُ الله تعالى أن يعافيَك))، فقالت: أصْبر، فقالتْ: إني أتكشَّف فادعُ الله ألاَّ أتكشَّف فدَعَا لها؛ متفق عليه.

اختارتِ الصبرَ على المرض مقابلَ الجنة، لكنَّها شريفةٌ عفيفة رغمَ أنَّها رَبِحت الصفقةَ، إلا أنها لا تُريد أن تتكشَّف، لا تريد أن يراها أجنبي، مريضة وهي في طريقِها إلى جنة ربِّها، لكنَّها تحب الحجاب، تحبُّ الالتزام، تحبُّ الإسلام، درس متجدِّد مع تجدُّدِ الأيام.

وهذه امرأةٌ معاصرة على درْب هؤلاءِ الصالحات تَسير؛ رجلٌ نجَّاه الله من الغرَق في حادث الباخِرة "سالم إكسبريس" يحْكي قصَّةَ زوجتِه التي غَرِقَتْ في طريق العودة من رِحلة الحج يقول: صرَخ الجميع: (إنَّ الباخرة تغرق)، فصرختُ فيها، هيَّا اخرجي، فقالتْ: واللهِ لن أخرج حتى ألبسَ حِجابي كاملاً، فقال: هذا وقت حِجاب!  اخرُجي، فإنَّنا سنهلِك! قالت: واللهِ لن أخرجَ إلا وقد ارتديتُ حِجابي بكاملِه، فإنْ مت ألْقَى الله على طاعَة، فلَبِستْ ثِيابها وخرَجَتْ مع زوجها، فلما تحقَّق الجميعُ من الغرق تعلَّقتْ به، وقالت: استحلفك بالله هل أنتَ راضٍ عنِّي؟ فبكَى الزوج، ثم قالتْ: هل أنتَ راضٍ عنِّي؟ فبكَى، فقالت: أريد أن أسمعَها، قال: والله إني راضٍ عنك، فبكَتِ المرأة الشابَّة، وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسولُ الله، وظلَّتْ تُردِّد الشهادةَ حتى غرقت.

فبكَى الزوج وهو يقول: أرْجو مِن الله أن يجمعَنا بها في الآخِرة في جناتِ النعيم.

امرأة شابَّة التزمَتْ دِينها، وأرْضَتْ ربَّها وهي في انقطاعٍ مِن الدنيا وإقبالٍ على الآخِرة، تبْحَث عن رِضا زوجها، وهي تعلم أنَّ رضا الزوج مِن رِضا الله رغمَ أنها تُصارِع الموتَ، إلاَّ أنَّها لم تتخلَّ عن طريقها الذي شرَح الله له صدرها، وعليه أحياها وأماتها، ليتَ نِساءَ المسلمين يتعلمْنَ الدرس، ويحفظْنَ العهد، وينصُرْنَ الدِّين، ويطلبنَ جَنَّة ربِّ العالمين.

اللهمَّ ارحمْ أموات المسلمين، واحفظْ نساء المسلمين، واشرحْ صدورهنَّ لتعاليم الدين.

اللهمَّ ارزقْنا القلْبَ السليم والعقل الحكيم، والخُلُق العظيم، اللهمَّ وفِّقْنا للعمل بكتابِك وسُنَّة حبيبك، والجهاد في سَبيلك، امنحْنَا التقوى، واهدنا السبيل، وارزقنا الإلهام والسداد والرشاد، اللهمَّ ارزقْنا الإخلاص في القول والعمل، ولا تجعلِ الدنيا أكبرَ همِّنا ولا مَبْلغ عِلمنا.

JoomShaper