علي محمد الغريب
السوريون والسوريات حالهم مع النظام المستبد صورة من صور البطولة والنضال الأسطوري، ففيها الكثير من قصص الرجولة والتضحية و الإباء الذي لا يكاد يصدقه عقل!
ولعل هذه الحالة كانت نتاج القصص التراكمية التي كونت غضبا مكتوما، ورفضا ونفورا من النظام القمعي الذي كان أفراده ينالون من معارضيهم بمنتهي القسوة ليكونوا عبرة لغيرها.
الكثير من الدماء والأرواح التي أزهقها هذا النظام كانت لعنة عليه داخل سورية وخارجها، ومن هذه النماذج المجاهدة "بنان على الطنطاوي" أم أيمن، زوجة الداعية والمجاهد الشيخ عصام العطار رحمها الله تعالى.
ففي عام 1981 اغتالت عصابات النظام السوري السيدة المجاهدة في ألمانيا، بعدما فرت وزوجها بدينهما، وكان لوقع قصتها من المرارة في قلوب المسلمين، فضلا عن قلوب ذويها القريبين جدا منها، بالدرجة التي حولتها صفحة ماثلة وشهادة حية على بشاعة هذا النظام وفساده وبطلان صلاحيته!
وإن كانت السيدة أم أيمن وجدت من يبكها كونها ابنة الشيخ علي الطنطاوي الذي يعد من أركان البيان والفقه في العالم الإسلامي، وزوجة ركن آخر في الدعوة والجهاد في سبيل الله وهو الشيخ عصام العطار؛ فإن هناك مئات الأسماء الأخرى التي واجهت مصير أم أيمن، ولم تجد من يحمل قضيتها ويخرجها للعلن لتكون عارا يلاحق النظام الأسدي الذي فسد وأفسد، وقتل الأبرياء بلا رحمة!

كانت السيدة "بنان" رحمها الله أديبة ومثقفة كأبيها، وقد نشرت العديد من المقالات في الصحف والمجلات الإسلاميّة، وكانت تؤمن بأنّ للمرأة دوراً اجتماعيّاً وثقافيّاً لا يقل أهميّة عن دور الرجل، ومهمة دعويّة مؤتمنة عليها، إلى جانب دورها الطبيعي في رعاية الأسرة وتربية الأجيال، وقد صدر لها كتاب عنوانه: "دور المرأة المسلمة".

تزوّجت من الأستاذ عصام العطار المراقب العام الثاني لجماعة الإخوان المسلمين في سورية، الذي ضيّق عليه النظام السوري في أعقاب استيلاء البعث على السلطة عام 1963 واضطهده، فكانت كلّما طرقوا دارها وانتزعوا زوجها ليلقوه في غياهب السجون، وقفت بجرأة وشموخ أمام كلّ الإجراءات القمعيّة التعسّفيّة إلى جانب الحق والقوّة والحريّة التي بشّر بها زوجها.

وفي العام 1981م، اقتحمت مخابرات النظام السوري شقة جارتها (الألمانيّة) وأجبروها على أن تحدثها في الهاتف أنها قادمة لزيارتها، حينها فتحت "بنان" الباب فاقتحم ثلاثة من القتلة منزلها بمدينة آخن الألمانيّة، وعندما لم يجد القاتل زوجها المعارض للنظام لتنفيذ جريمته، أطلق عليها خمس رصاصات، أصابتها في العنق، وفي الكتف، وفي الإبط، فسقطت مضرجة بدم الشهادة.

والذين قرؤوا نتاج الشيخ على الطنطاوي، أو استمعوا لأحاديثه التلفزيونية أو الإذاعية سيدركون حجم الغصة التي لم تكن تفارق قلبه بسبب ابنته بنان، وعلى الرغم أنه لم يكن يتحدث كثيرا، لكن الحزن كان حاضرا في نفسه دائما برغم روحه المرحة.

ويستعيد الشيخ الطنطاوي ذكرى مقتل ابنته في مذكراته فيقول: إن كل أب يحب أولاده، ولكن ما رأيت، لا والله ما رأيت من يحب بناته مثل حبي بناتي... ما صدّقت إلى الآن وقد مر على استشهادها أربع سنوات ونصف السنة، وأنا لا أصدق بعقلي الباطن أنها ماتت، إنني أغفل أحيانا فأظن إن رن جرس الهاتف، أنها ستعلمني على عادتها بأنها بخير لأطمئن عليها، تكلمني مستعجلة، ترصّف ألفاظها رصفاً، مستعجلة دائما كأنها تحس أن الردى لن يبطئ عنها، وأن هذا المجرم، هذا النذل.. هذا... يا أسفي، فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يطلق على مثله، ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدّد الجارة (الألمانيّة) بالمسدس حتى طرقت عليها الباب لتطمئن فتفتح لها، ثم اقتحم عليها، على امرأة وحيدة في دارها فضربها ضرب الجبان، والجبان إذا ضرب أوجع، أطلق عليها خمس رصاصات تلقتها في صدرها وفي وجهها، ما هربت حتى تقع في ظهرها كأن فيها بقية من أعراق أجدادها.

ويواصل الشيخ وصف الجريمة فيقول: ثمّ داس القاتل بقدميه النجستين عليها، ليتوثّق من موتها كما أوصاه من بعث به لاغتيالها، دعس عليها برجليه ليتأكد من نجاح مهمته، قطع الله يديه ورجليه، (آمين) لا بل ادعه وأدع من بعث به لله، لعذابه، لانتقامه، ولعذاب الآخرة أشدّ من كل عذاب يخطر على قلوب البشر.

وقتها خرجت الصحف والمجلاّت الألمانيّة على الملأ تصف جريمة الاغتيال المدبرة وصفاً صادقاً وعطوفاً، وألقي القبض على الجاني، فانهار واعترف بجريمته، وأدلى بمعلومات في غاية الأهميّة عن الجهة التي أرسلته لتنفيذ ما أقدم عليه.

أما الشيخ عصام العطار فكان أشد الناس حزناً على زوجته، فيصف حسن عشرتها معه: "كانت إذا أحَسّتْ في نفسها، أو أحَسّتْ منّي في حِوارِنا ونقاشِنا في بعض الحالاتِ النادرةِ بَوَادِرَ زَعَلٍ أو غضب لم تسمح لهذا الحوار والنقاش أن يستمرَّ ويشتدّ، وانفردتْ بنفسها ساعةً تطولُ أو تقصر تقرأ القرآن - كما تَعَوَّدَتْ- بقلبها وعقلها ولسانها ودموعها. ثم تنهض أَهْدَأَ ما تكونُ حالاً، وأرضى ما تكونُ نفساً، وأكثرَ ما تكونُ انشراحاً ونشاطاً.

وقد رثاها الشيخ عصام بالعديد من المقالات والقصائد الشعرية، فرثاها بقصائد باكية رقيقة، جمعت في ديوان عنوانه: (رحيل) ومما قال فيه:

بنان" ياجبهةَ الإسلام دامية

مازال جرحك في قلبي نزيفَ دمٍ

"بنان" ياصورة الإخلاص رائعةً

ويا منال الفِدى والنبل والكرم

عشنا شريدين عن أهلٍ وعن وطنٍ

ملاحماً من صراع النور والقيم

الكيد يرصدنا في كل منعطفٍ

والموت يرقبنا في كل مقتحم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
ـ موسوعة ويكبيديا.
ـ مذكرات علي الطنطاوي.
ـ مواقع إنترنت.

JoomShaper