الكاتب: عبد الحكيم الأنيس
في سنة 194هـ شهدتْ مدينةُ بخارى ولادةَ طفلٍ، فرح به أبوه وسمّاه "محمداً" وكان قد سمَّى أخاً له من قبل "أحمد" تبركاً باْسمِ النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان هذا الأب ويُسمَّى "إسماعيل" رجلاً صالحاً ورِعاً، حجَّ إلى بيت الله، وزار النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ورأى إمامَ دار الهجرة مالك بن أنس، وروى عنه بعضَ الأحاديث، ولم يلبث أنْ أدركه الموتُ قبل أنْ يشبَّ "محمد" فقال ـ وهو على فراش الموت ـ كلمةً تدلُّ على تديُّنه الصادق، وورعه الشديد، قال: إنّه لا يعلمُ في ماله درهماً مِن حرام، ولا درهماً مِن شبهة. وانتقل إلى ربه، وهو مطمئنٌ على أجساد نبتتْ من الحلال أنَّ الله لن يضيعها.
واحتضنتْ زوجةُ إسماعيل ولديها، وقامتْ عليهما أحسنَ قيام، ولكن حصل ما كدَّر عيشها، وأرَّق ليلَها وأطال همَّها، فقد ذهبَ بصرُ "محمد" ابنها الصغير، وبات لا يَرى شيئاً، وما مِن شيء أقسى على قلب الأمِّ مِن مرضٍ عارض ينزلُ بأحد أبنائها فكيف بعلة كهذه، قد تلازم الإنسانَ في حياته كلها، وتصرفُهُ عن العلم، وتحولُ بينه وبين حرية الحركة، ومتعة السفر، ولذة الحياة، وجمال الدنيا؟
ماذا تصنعُ تلك الأم، وهذا محمدٌ وليدُها المدلَّل جالسٌ لا يتحرك، وإذا قام تعثّر في مشيته، وأصبح محتاجاً إلى المساعدة في شؤونه كلها! ماذا تصنعُ!
وهنا ألهمها الملهمُ الكريمُ الذي لا تُغلق أبوابُه، ولا يُسدل حجابُه، ولا تنقطع عطاياه، ولا تنفد مواهبُه، ألهمها كما يُلهِم القلوبَ المنكسرة والنفوسَ الضارعة، أنْ تلجأ إليه، وتتوسلَ بكرمه وجوده.
واستجابتْ أمُّ محمد لإلهام ربها ونداء قلبها، وكانت إذا أسدلَ الليلُ أستاره، وأخلد محمدٌ وأخوه إلى النوم، وحلَّ السكونُ على بخارى، كانت تقوم فتتوضأ وتقفُ بين يدي مولاها باكيةً داعيةً شاكيةً إليه ما نزل بعيْنَي (محمدٍ) من عمى، وما نزل بقلبها مِن همٍّ، وما نزلَ بالبيت مِن حزن.
ودامتْ على ذلك مدةً، وقد استطابتْ هذه الوقفة بين يدي الله تبثُّه نجواها، وترفعُ إليه شكواها، وتطرقُ بابَهُ الكريم، ولا بُدَّ لباب الكريم إذا طُرق مِن أنْ يفتح.
وذات ليلة قامتْ أمُّ محمد فصلَّتْ ودعتْ، ودعتْ، وألحتْ في الدعاء، ثم أدركتها سِنةٌ من النوم، وإذا بها بإبراهيم الخليل عليه السلام يقول لها: (يا هذه، قد ردَّ اللهُ على ابنك بصرَه بكثرة دعائك) واستيقظتْ وقلبُها يخفق من هذه الرؤيا وبشارِتِها ووضوحها، وجلستْ تنتظرُ الصباحَ بفارغ الصبر.
وأُذن لصلاة الفجر، وأيقظتْ أمُّ "محمد" ولديها للصلاة، وهنا كانت المفاجأة ورأتْ صدقَ الرؤيا ... لقد أبصرَ "محمد" وقام يتوضأ وحده، وبكت الأمُّ وسجدتْ لله تبلُّ مصلاها بدموعها ...
وكأنها أرادت أنْ تشكر اللهَ عند بيته، فأخذتْ ولديها وانطلقوا إلى مكة، فحجُّوا وذلك سنة (210هـ)، ورجعت الأمُّ وأحمدُ إلى بخارى، وظلَّ "محمد" هناك يطلب العلم.
ثم طاف البلادَ: العراق والشام ومصر، وأخذ عن (1800) شيخ، وظهر نبوغُه، وتميَّز على أقرانه، وطار اسمُه في الآفاق، وألَّف المؤلفات الرائعة، وعلى رأسها كتابه "الجامع الصحيح المُسْند المختصر من أمور رسول الله صلى اله عليه وسلم وسُنَنِهِ وأيامه" المعروف بـ "صحيح البخاري" الذي حظي بثناءٍ ما بعده ثناء، فقيل عنه: إنَّه أصح كتابٍ بعد كتاب الله!
وله كتاب "الأدب المفرد" الذي لا يستغني عنه مسلمٌ يريد أنْ يتأدَّب بآداب الإسلام.
وكان إلى جانب مواهبه العلمية موهوباً في الرمي:
يقول كاتبُه: (كان يركب إلى الرمي كثيراً، فما أَعلمُ أني رأيته في طول ما صحبتُه أخطأ سهمُهُ الهدفَ إلا مرتين، بل كان يُصيب في كل ذلك ولا يُسبق).
وما زال يترقَّى في مراتب العلم، ومنازل العمل، ومدارك الفضل، حتى أصبح وجودُه زينةً للأمة، وأيامُهُ مواسمَ للخير، تحتفلُ بقدومه البلاد، ويتمنّى رؤيتَه العلماء.
وكان في الناس مَنْ يود أنْ يهبه مِنْ عمره، فهذا العالم الجليل يحيى بن جعفر البيكندي يقول: (لو قدرتُ أن أزيد مِن عمري في عمر محمد بن إسماعيل لفعلتُ، فإنَّ موتي يكون موتَ رجلٍ واحد، وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهابُ العلم).
وفي ليلة عيد الفطر سنة (256هـ) استأثر اللهُ بروح محمد بن إسماعيل، فعاد إلى ربه راضياً مرضياً.
وفي حدود سنة (730هـ) زار الرحالةُ ابنُ بطوطة قبرَه في بخارى، ورأى أسماءَ مصنّفاته مكتوبةً على شاهد القبر.
وقبل سنوات احتفلتْ أوزبكستان بذكراه التي لم تغب أبداً.
رحم اللهُ محمدَ بن إسماعيل، وحسبُه أن كتابه "الصحيح" يأخذ مكاناً مهماً في مكتبات جميع العلماء على وجه الأرض. ورحم أباه الذي لم يُطعمه إلا حلالاً.
ورحم أُمَّه التي ربَّت فأحسنت التربية، وإليها يعودُ الفضل في عودة النور إلى بصر محمد، فملأ الدنيا نوراً وبَصارة.

JoomShaper