ياسر محمود
هي نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ولدت بمكة المكرمة سنة 145 هـ.
كان أبوها واليا على المدينة أيام أبي جعفر المنصور الذي عزله وصادر ماله وحبسه، وذهبت هي إلى بغداد حيث كان أبوها سجينا، حتى جاء الخليفة المهدي وأطلق سراحه ورد إليه أمواله.
ولما بلغت نفيسة مبلغ الزواج تقدم لخطبتها ابن عمها إسحاق المؤتمن بن الإمام جعفر الصادق، فرضيت به زوجا لها، وأنجبت منه القاسم وأم كلثوم، وكانت نعم الزوجة المخلصة الأبية التقية.
نفيسة العلم
وقد نشأت نفيسة في البلد الحرام وعاشت مع أحفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأثرت بهم، وسارت على نهجهم، فحفظت القرآن الكريم وهي صغيرة السن، وأقبلت على فهم آياته وكلماته فتعلمت التفسير، كما حفظت كثيرا من أحاديث جدها صلى الله عليه وسلم وروته عنه، حتى روى عنها الإمام الشافعي.
وانتقلت مع زوجها إلى المدينة المنورة، حيث عاشت فيها آمنة مطمئنة، وفتحت بيتها لطلاب العلم، تروي لهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفتيهم في أمور دينهم ودنياهم، حتى أطلقوا عليها اسم "نفيسة العلم والمعرفة".
وفي عام 193هـ وصلت إلى مصر بصحبة والدها وزوجها، واستقبلها المصريون استقبالا حافلا، وسُر أهل البلاد بقدوم حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقرت في الفسطاط بدار ابن الجصاص، وهو إذ ذاك كان من أعيان مصر.
وكان أهل مصر يقدرون مكانتها وعلمها، فكانوا يذهبون إليها، يلتمسون عندها العلم والمعرفة، بل كان يقصد دارها كبار العلماء، فقد تردد عليها الإمام الشافعي، وكانت تستقبله من وراء حجاب، وتناقشه في الفقه وأصول العبادة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحين مرض الإمام الشافعي أرسل إليها يسألها الدعاء له بالشفاء، ووافته المنية بعد أيام، وكان أوصى أن تصلي عليه، فصلت عليه بعد أن صلى عليه الرجال، وحزنت لأجله حزنا شديدا.
زهد وورع
عرفت نفيسة الدنيا على حقيقتها وأيقنت أنها زائلة، فأعرضت عنها، وزهدت فيها، فأقبلت بوجهها إلى الله تستغفره، وتتوسل إليه، وتطلب منه العفو والغفران.
واستمرت في حياة الزهد والعبادة، تقوم الليل، وتصوم النهار، حتى طلب منها زوجها ذات يوم أن تترفق بنفسها، فقالت: من استقام مع الله، كان الكون بيده وفي طاعته.
وكانت لا تأكل من غير مال زوجها تعففا وتورعا، واشتهرت بأنها مستجابة الدعوة، حتى أن الإمام أحمد بن حنبل كان يطلب منها الدعاء له.
وحين تكاثر الناس على بيتها، خافت أن يشغلوها عن عبادتها، فقررت ترك مصر والعودة إلى المدينة، فتوسل الناس إليها، وتدخل والي مصر في الأمر، ورأى أن يخصص لها بيتا في درب السباع، وأن ينظم زيارة الناس إليها يومي السبت والأربعاء فقط.
كما داومت نفيسة على زيارة بيت الله الحرام، وقيل: إنها أدت شعيرة الحج ثلاثين مرة، وكانت تتعلق بأستار الكعبة وتقول: "إلهي وسيدي ومولاي.. متعني وفرحني برضاك عني".
نصرة المظلوم
وكانت رضي الله عنها تجير المظلوم، ولا تهدأ حتى ترفع الظلم عنه، وتعد ذلك جهادا، فقد روي أن رجلا ثريا بغي بعض أولي الأمر عليه، فاستجار بها، فساعدته في رفع الظلم عنه، وواجهت ظالميه حتى استرد حقه، ودعت له بالخير والبركة، فأهداها الرجل مائة ألف درهم شكرا لها، واعترافا بفضلها، فوزعتها على الفقراء والمساكين، وهي لا تملك ما يكفيها من طعام يومها .
صبر يرفع الدرجات
وبعد عدة سنوات من الإقامة في مصر، مرضت السيدة نفيسة، فصبرت ورضيت، وكانت تقول: "الصبر يلازم المؤمن بقدر ما في قلبه من إيمان، وحسب الصابر أن الله معه، وعلى المؤمن أن يستبشر بالمشاق التي تعترضه، فإنها سبيله لرفع درجته عند ربه، وقد جعل الله الأجر على قدر المشقة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم".
وقالت أيضاً: "لقد ذكر الصبر في القرآن الكريم مائة وثلاث مرات، وذلك دليل على قيمة الصبر، وعلو شأنه، وحسن عاقبته".
وفي صحن دارها، حفرت لنفسها حفرة تشبه القبر استعدادا للقاء خالقها، وكانت تنزل فيه وتصلي كثيرا، حتى قيل أنها قرأت فيه المصحف مائة وتسعين مرة.
حسن الختام
ولما أحست أن النهاية قد اقتربت، أرسلت إلى زوجها إسحاق المؤتمن تطلب منه الحضور، وكان في المدينة المنورة .
وفي اليوم الأخير كانت رضي الله عنها صائمة كعادتها، فألحوا عليها أن تفطر رفقا بها، وهي تعالج سكرات الموت، لكنها أصرت على الصوم رغم لحظات الاحتضار، وقالت: واعجبا، منذ ثلاثين سنة، أسأل الله تعالى أن ألقاه وأنا صائمة، أأفطر الآن؟! هذا لا يكون .
ثمَّ راحت تقرأ بخشوع من سورة الأنعام، حتى وصلت إلى قوله تعالى: }لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{ (الأنعام: 127).
وفي هذه اللحظة فاضت روحها إلى بارئها، فبكاها أهل مصر، وحزنوا لموتها حزنا شديدا، وحينما أراد زوجها أن ينقل جثمانها إلى المدينة، منعه الناس ودفنت في مصر
نفيسة بنت الحسن.. العالمة الزاهدة
- التفاصيل