نبيل شبيب
لا يكاد يوجد قطاع اقتصادي مثير للجدل، متعدد الوجوه، حافل بالتناقضات، كقطاع الأزياء.. لا سيّما وأنّ المفهوم منه اقتصاديا هو سائر ما يتعلّق باللباس والزينة، ويتحدّث المختصون عن شموله قطاعات المنسوجات، والملبوسات، والأحذية، والجلود.. وإن كانت الأنظار تتجه مع ذكر كلمة "أزياء" عادةً إلى دور الأزياء وعروضها الموسمية. والواقع أنّ هذا الانطباع ناجم عن تناقض يستوقف المرء تلقائيا، عندما تُسلّط الأضواء ويتركّز الاهتمام على "فساتين" نسائية يعادل قماش الواحد منها أحيانا، ما لا يكاد يستر جزءا من جسد فقير إفريقي أو آسيوي، بينما يعادل ثمن الواحد منها دخل قرية أو مدينة بكاملها لعام كامل في كثير من تلك البلدان النامية. ولكنّ هذا الجانب لا يلغي أنّ ما يوصف بقطاع الأزياء في الوقت الحاضر يشمل فيما يشمل عموم الملبوسات اليومية، لا الصارخة منها فقط، وأنّ هذا القطاع يمثّل أحد ميادين الصراع التجاري المتواصل بين بلدان العالم في الشمال والجنوب.
إنّ الخوض في عالم الأزياء يعني الخوض في عالم لا حدود لمعالمه الرئيسية فضلا عن تفاصيله، ولا يمكن تثبيت نقاط انطلاقه أو وسائله وغاياته، ولا ينحصر في جانب واحد من جوانب الضرورات والحاجيات والتحسينيات في حياة الإنسان، كما أنّه يخترق الحدود التي صنعها اختلاف الأوطان وتعدّد الانتماءات، ويتمرّد غالبا على كل منطق تمليه الأذواق والقيم والتصوّرات والعادات.
وعند النظر في الطرق والوسائل المتبعة في اختراق هذه الحدود جميعا، لا يكاد يمكن التوصّل إلى مقاييس والرجوع إليها، من باب النفع والضرر مثلا، أو القبح والجمال مثلا آخر، بل حتى الثراء والفقر مثلا ثالثا، إنما يجد المرء نفسه أمام عالم هلامي الشكل والمضمون، كالسراب في مظهره والصخر في مفعوله.
ورغم أنّ قطاع الأزياء أصبح - إلى جانب الطعام والمسكن والسلاح - يمثل أكبر قطاع اقتصادي يستهلك أموال الأفراد والأمم، فلا أحد يستطيع أن يجزم: هل هو من صنع الأفراد والأمم، أم أنّه آلية من آليات صنعها؟ وهل يحدّد الإنسان ما ينبغي أن تكون عليه منتجات "قطاع الأزياء" الاستهلاكية، أم أصبحت هي التي تحدّد للإنسان ما ينبغي أن يكون عليه وما عليه أن يصنع بها؟!
وأوّل ما تفرض التناقضات نفسها أمام الباحث في الموضوع أنّه يجد مفردات لا حصر لها، ترتبط جميعا بعنوان "الأزياء" العريض، ولكنّه يتيه في بحورها فور الخوض فيها، وقد أصبحت لها في البلدان الغربية خاصّة "معاجم" قائمة بذاتها، فإذا أمسك المرء بإحدى تلك المفردات، ونظر في تلك المعاجم، لا يجدها تلتقي على تعريف ما، إلاّ في حدود من يفسّر الماء بعد الجهد بالماء، وإن أبرز أنّه "سائل".. أو أنّه مركب كيمياوي من الأوكسجين والهيدروجين.. أو أنّه سرّ الحياة وإكسيرها، أو أنّه المادة التي تغطي أربعة أخماس المعمورة وتعطيها اسم الكوكب الأزرق.. أو سوى ذلك من ألوان التعريف والتوصيف.
من ذا يميّز مثلا بين كلمات الأزياء و"الموضة" والملبوسات والزينة تمييزا علميا أو عمليا دقيقا؟..
ومن ذا يفصل منهجيا بين قطاع الأزياء الاقتصادي في عروض الأزياء المتعاقبة مع فصول السنة عاما بعد عام في بعض عواصم العالم، وقطاع المنسوجات والملبوسات الذي كان وما يزال ساحة رئيسية من ساحات الصراع التجاري العالمية؟..
ومن ذا يمكن أن يوفّق بين نظرات "أفراد معدودين" يصمّمون موسما بعد موسم ما ينبغي أن يرتديه الرجال والنساء والأطفال حسب أذواقهم هم.. وحسب تطلّعاتهم إلى المال والشهرة أيضا، وبين ميادين التسويق العالمية لبضاعتهم، وما يتخلّل ذلك من حملات دعائية ومهرجانات ومناورات مالية ومفاوضات، تفرض نتائجها نفسها فرضا على مواطن عديدة من العالم، بغض النظر عن احتياجاتها الفعلية ومنطلقات أهلها وأذواقهم وقيمهم؟..
هل يكفينا مثلا أمام هذا العالم المتمرّد المتناقض أن نعطي من منطلق إسلامنا الأولوية لمعتقداتنا وتصوّراتنا في مواجهة "غزو الأزياء" لبيوتنا وأعرافنا وعاداتنا وجيوبنا؟..
وكيف نضبط العلاقة ما بين عناصر تؤثّر فيما يصنعه عالم الأزياء الاقتصادي، وبين عناصر الجمال والزينة في إطار منظومة القيم التي ننطلق منها، خاصّة إذا أردنا أن نصل بكلماتنا إلى أجيال ناشئة في بلادنا، ذكورا وإناثا، أو أن نصل إلى جيل ما تزال له كلمة الفصل في صناعة القرار إنتاجا واستيرادا وتصديرا، وإن كان قراره يصطدم بأذواقنا فضلا عن تصوّراتنا وقيمنا، وبغض النظر عن واقع اقتصاديات شعوبنا وتطلّعات بلادنا المستقبلية؟..
ألا نجد أنّ كلماتنا ستتيه آنذاك في بحور هائجة مائجة بمعنى الكلمة، من جزء لا بأس به من الوسائل الإعلامية، يتميّز أكثر من سواه بالصخب، بينما الأصل في وسائل الإعلام أن تحمل رسالة ما، وأن تكون وسائل للتوعية ونشر المعرفة .. دون هياج، ولكن لا يسري ذلك على هذا الجزء بالذات، وقد بات وجوده مرتبطا بعالم الأزياء، إمّا مباشرة، أو مع انتحال أوصاف أخرى من عالم المرأة، والأسرة، والتربية، والمجتمع.. وجميع ذلك ممّا يدخل في قطاع الإعلام، هو عند التزام المنهجية في البحث جزء من قطاع الأزياء الاقتصادي، من قبيل ما هو معروف عن "المصانع" التي تقدّم قطع الغيار أو تؤمّن الشحن أو تنشر الدعاية لقطاع صناعة السيارات مثلا!..
قد لا يبقى في نهاية المطاف أكثر من محاولة ـ تستهدفها هذه السطور - لتسليط الأضواء على عالم الأزياء أو بعض جوانبه، وما يدور فيه علنا ومن وراء ستار، وما يرتبط بذلك اقتصاديا واجتماعيا، ومن يتحكّم به ماليا وسياسيا.. ثمّ ندع لذوي الألباب أن يحدّد كلٌّ موقفه وسلوكه على حسب موقعه من هذا العالم، ويحدّد بذلك الأسلوب الأمثل للتعامل معه ومع ما يتوفّر له من معلومات عنه.
يتطلّب النظر في واقع الأزياء الراهن، لا سيّما في التناقض بين جوانب الثراء والفقر على صعيدها، التأمّل في نشأة هذا القطاع على هذا النحو.. وليس على نحو آخر، لا سيّما في مواطن الهيمنة عليه في الوقت الحاضر.
فأوّل ما نسجّله ونحن نحاول الإحاطة بعالم الأزياء مع الحذر من الغرق فيه: أنّ للنظرات الراهنة إليه جذورا تاريخية، كما أنّ للمسارات التي يحدّدها - أو يريد أن يحدّدها المسيطرون عليه للإنسان - عوامل عديدة مرتبطة بالمستقبل، ومعالم ما سيشهده من جولات صراع جديدة تتابع ما سبقها.
الغربيّون المهيمنون في الوقت الحاضر عموما، ومن ذلك على قطاع الأزياء عالميا، يعودون بتاريخها إلى عصور "عتيقة" نسبيا من العصور الأولى للصين والفراعنة ومن عصور الإغريق والرومان، وأحيانا إلى بعض الشعوب والقبائل التي استوطنت أوروبا من قبل. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن يقوم التمييز بين زيّ وآخر لديهم، أو بين عصر وعصر، وبالتالي بين مراحل "تطوّر" الأزياء، على عنصرين اثنين، هما: شكلها الظاهري، وانتشارها في أوساط الطبقة الاجتماعية المهيمنة.
وقد نجد في النصوص التاريخية عن تطوّر الأزياء بعض ما يتناول بصورة عابرة ما يوصف حاليا بالأزياء الشعبية، فنجد أنّها قد تميّزت بعضها عن بعض من حيث المظهر، ولكن غالبا ما ارتبط ذلك بالاحتياجات الواقعية للفرد والمعطيات المتوفرة في بيئة معيشته، كالظروف الجوية، وأنواع المهن والأعمال الأكثر انتشارا في حقبة من الحقب التاريخية، بالإضافة إلى مفعول القيم التي تمثل غالبا عاملا مشتركا بين "عدّة شعوب" وأحيانا عامل تمييز بينها وبين شعوب أخرى.
ولا نجد في النصوص التاريخية الغربية عن تطوّر الأزياء إلا القليل عن مفعول الفقر والثراء، ليس بسبب غيابه في تحديد نوعية الأزياء وانتشارها، وإنّما بسبب "تغييبه" في الدراسات التاريخية نتيجة التركيز على "أزياء الطبقة المهيمنة"، فإن ورد الحديث مفصّلا عن أزياء شعبية، ورد في دراسات "علم تاريخ الشعوب" بعيدا عن المحور الاقتصادي لتطوّر الأزياء بحدّ ذاتها.
رغم التركيز على القارة الأوروبية نجد في التأريخ الغربي لعالم الأزياء لمحات تعود به إلى عصور مصر في عهد الفراعنة وإلى الصين، إلا أنّها لا تفصّل في ذلك من الزوايا الاقتصادية أو الاجتماعية، بل تكتفي بالإشارة إلى "مظهر" الأزياء التي كانت سائدة في الطبقات المهيمنة آنذاك.
وعلى الصعيد الأوروبي يبدأ التأريخ للأزياء الأوروبية بعصر الرومان والإغريق ويشير المؤرخون إلى أنّ الألبسة كانت آنذاك بسيطة أشبه بقطعة قماش كبيرة، ولكنها تعكس درجة البذخ في بلاط القياصرة، بينما كان العامّة يرتدون قمصانا كتانية لا تتميّز بما يلفت النظر. ولم يتبدّل ذلك كثيرا فيما يسمى عصر الرومانسية، حيث كان "محرّما" على طبقة من الطبقات أن ترتدي ألبسة مميّزة للطبقة الأخرى، وبرزت في المجتمع الأوروبي آنذاك طبقة النبلاء، والطبقة الكنسية، وطبقة الفلاحين. وسرى التمييز على نوع الأقمشة كالحرير المحرّم على الفلاحين، وكذلك التمييز في اختيار الألوان، فكان اللون الأحمر خاصا بالنبلاء، واللونان الأبيض والأزرق خاصين بالكنيسة، بينما لا يرتدي اللون الذهبي إلا "عليّة" القوم من الطبقتين.
ولم تتبدّل هذه الصورة كثيرا في بداية العصور الوسيطة الأوروبية حتى العصر الغوطي، حيث بدأت تتكون طبقة اجتماعية متوسطة من التجار والمهنيين، وأصدرت الطبقة الحاكمة من النبلاء ورجال الكنيسة سلسلة من القوانين التي تمنع أنواعا معينة من الألبسة عن الطبقة الجديدة، ولكن دون جدوى، فلم تعد ألبستها مقتصرة على القمصان والفساتين البسيطة المظهر.
وفي فترة حرب المئة عام بين بريطانيا وفرنسا سرت على البلاط الملكي الفرنسي أشدّ الأنظمة المتعلقة بنوع اللباس، لمختلف المناسبات، وعلى حسب الدرجة التي يصل إليها عضو طبقة النبلاء الحاكمة. وينسب المؤرخون إلى تلك الفترة ولادة النواة الأولى للأزياء الرسمية فيما بعد على صعيد الشرطة والجيش وبعض الهيئات الرسمية. وفي عصر التنوير الأول (1449-1525م)، ظهرت الأزياء الفضفاضة وبدأت تميل خلاله إلى الألوان المزركشة، وانتشرت على المستوى الشعبي، ولكن بقي لعامل الثراء مفعوله في التمييز بين فئة وأخرى من السكان، وفي تلك الفترة أيضا بدأ يظهر الاختلاف بين ألبسة النساء والرجال تدريجيا، بما في ذلك اختيار الألوان، وأصبحت السراويل مخصصة للرجال، بينما امتنعت النساء عن ارتدائها وأقبلن على الفساتين والتنانير، وهو ما بقي سائدا إلى أواسط القرن الميلادي العشرين.
وتميّز عصر التنوير الثاني (1525-1620م) بالثياب الطويلة الفضفاضة المزوّدة لدى النساء بأكتاف عالية، وكانت أسبانيا في مطلع تلك الفترة عاصمة الأزياء الأوروبية، نتيجة نشوء الإمبراطورية الاستعمارية الأسبانية آنذاك، وبعد وصول "كريستوف كولومبوس" إلى أمريكا عام 1492م، ولكن عادت فرنسا إلى مركز الصدارة مجدّدا مع نهاية عصر التنوير الثاني، لأسباب سياسية أيضا، نتيجة ظهور امبراطورية الفرنجة وسيطرتها على أوروبا في عهد "شارلمان"، وفي تلك الفترة عادت الأنظمة المتشدّدة في بلاط الملوك والأمراء إلى الظهور، مع فرض ألبسة رسمية غيّبت عنصر التنوّع في الأزياء إلى حدّ كبير، بينما أصبحت الأزياء شبه المفروضة على النساء أقرب إلى وسائل التعذيب وفق وصف بعض المؤرخين مثلا للمشدّات التي ظهرت آنذاك، ويمكن القول إنّ تلك الفترة كانت بمثابة فترة ميلاد "مفاهيم الأزياء" وفق ما أصبحت تعنيه كلمة (الموضة) حاليا. كما كان لحرب الثلاثين عاما (1618-1648م) دورها أيضا في التأثير على تاريخ الأزياء عندما اضطر ملوك الأسبان إلى تبديل ألبسة الجنود الضيقة مستعينين بنوعيات أخرى من الألبسة المنتشرة بين العوام.
ويوصف عصر الباروك بالعصر الذهبي في تاريخ "الأزياء"، وخلاله كان ميلاد أشهر الأزياء الفرنسية وأشدّها بذخا وترفا، وقد غزت بقية القارة الأوروبية، بما في ذلك أسبانيا نفسها، وكان التأثير الأكبر لذلك للملك لويس الرابع عشر، فبات سائر أمراء أوروبا وأميراتها حريصين على اتباع ما ينتشر في البلاط الفرنسي، بدءا بتسريحة الشعر، مرورا بالثياب، وانتهاء بالأحذية. وبلغ هذا التأثير ذروته في عهد لويس السادس عشر، الذي كان يشهد يوميا احتفالات "ملكية" بمناسبة ودون مناسبة، وفي عهده انتشرت عادة عدم ارتداء زيّ واحد في حفلتين ملكيتين، ممّا لا يزال كثير من النساء يصنعنه هذه الأيام، بالإضافة إلى الحرص على أن يكون الثوب المصمّم لإحدى الأميرات فريدا من نوعه فلا يصمّم مثله لأخرى، وهو ما يعتبر حاليا السبب الرئيسي في ارتفاع سعر الثوب الواحد أحيانا في دور الأزياء الشهيرة، إلى ما يعادل ميزانية دولة صغيرة!..
ويبدو أن النزاعات التاريخية بين فرنسا وبريطانيا لعبت دورها أيضا في أن نوعية الألبسة على مستوى العامة اتخذت بالتدريج وانطلاقا من بريطانيا في القرون الميلادية التالية وحتى القرن الميلادي التاسع عشر أشكالا مضادّة تماماً لما نشرته أزياء البلاط الفرنسي من قبل، ثم ما عرفه العصر "الكلاسيكي" من بعد، وكان قد شهد عودة الأزياء إلى شبيه ما كان سائدا منها في عصر التنوير الأول.
وفي القرن الميلادي التاسع عشر فقط بدأ عالم الأزياء يتخذ أشكالا جديدة على محورين حدّدت نتائجهما الوضع الراهن لقطاع الأزياء:
الأول: مفعول الاستبداد التقنيني الذي تدخّل في سائر الميادين بما في ذلك الألبسة، فكان العامّة يتجنّبون إثارة غضب الطبقات الحاكمة، ممّا ساهم في انتشار الألبسة الاعتيادية، التي لا تتميّز بالأبهة والبذخ..
والثاني: ميلاد الصناعة الحديثة للملبوسات والمنسوجات، ويقابله تخصّص دور الأزياء الرئيسية بملابس الطبقة المترفة.
(رابط: رحلة مصوّرة في عالم الأزياء عبر عصور التاريخ – النصوص المرفقة بالصور بالإنجليزية).
لها أون لاين
تاريخ عالم الأزياء المعاصر.. ونظرة إسلامية له 1/3
- التفاصيل