نبيل شبيب
الأزياء بين القيم والمال والأذواق تاريخ عالم الأزياء وتطورها المعاصر ونظرة إسلامية لها
شملت الثورة الصناعية عالم الأزياء، ولكنها لم تقض تماما على الموروث من العصور الطبقية الأوروبية السابقة، إنّما انقسم المجتمع الحديث في ظلها بمنظور عالم الأزياء إلى قسمين، قسم المستهلكين من العامة، وهو ما تزوده حركة صناعة المنسوجات والملبوسات بما يحتاج أو لا يحتاج إليه تحت تأثير (الموضة) من جهة، ومفعول الدعاية من جهة أخرى، وقسم الطبقة المترفة، التي لم تعد تتمثل في النبلاء والإقطاعيين والأسر المالكة، وإنّما في الأثرياء الذين أوجدتهم الرأسمالية الغربية.
معظم ما اعتمد عليه قطاع الأزياء في عهد الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، كان مستوردا، فكانت البلدان الآسيوية المصدر الرئيسي للمنسوجات والأقمشة بأنواعها، وكانت البلدان الإفريقية المصدر الرئيسي للجلود. ولم يتبدّل هذا الوضع تلقائيا..
إنما كان (1) النظام الاقتصادي العالمي الذي صنعته الدول الغربية موازيا لحركة استقلال المستعمرات، وتحت عنوان المنظمات الدولية، وعلى وجه التخصيص صندوق النقد الدولي والمصرف المالي العالمي..
وكانت (2) تركيبة قوانين الحماية التجارية والجمركية وأنظمة الضرائب في البلدان الغربية..:
عنصرين رئيسيين للضغط تدريجيا على حركة الاستيراد من البلدان المستعمرة سابقا، وقد أصبحت تسمّى بالنامية، حتى بات ركود حركة الإنتاج فيها من جهة، وتخفيض أسعار المنتجات الغربية بدعمها المالي الرسمي من جهة أخرى، من أسباب ذلك الخلل الكبير في العلاقات المالية بين الدول الصناعية والنامية، وبالتالي صارت الضغوط أو "الابتزاز" وسائل علنية لفتح أسواق الجنوب الاستهلاكية أمام المنتجات الصناعية، بما فيها المنسوجات والملبوسات. ومن هنا كان أحد المطالب الرئيسية للدول النامية في المفاوضات الدولية حول حرية التجارة إزالة هذا الخلل، وإلغاء الحماية القائمة في الغرب مقابل ما يطالب به الدولَ النامية على صعيد مصنوعاته واستثماراته باسم حرية التجارة.
في هذه الأثناء كانت الدول الأوروبية قد انتقلت من القرن الميلادي التاسع عشر الذي فتح الأبواب على مصراعيها أمام تطوّر الأزياء وتنوعها وتحررها من القيود السابقة، وجعل من لندن وباريس عاصمتين رئيسيتين لصناعتها ومراكز تصميمها، إلى القرن الميلادي العشرين الذي ارتبط التطوّر الصناعي فيه بثورة الطباعة وما رافقها على الصعيد الدعائي، فكان ميلاد المجلات النسائية في العشرينات من القرن الميلادي العشرين، بمثابة محطة جديدة على هذا الطريق الذي أوصل إلى الوضع الراهن لعالم الأزياء، وتلا ذلك تحوّل الأفلام السينمائية إلى ميدان جديد لصناعة "نماذج" يحتذيها الجيل الشاب، فأصبح الممثلون والممثلات هم الميدان الأول لطرح أزياء مبتكرة جديدة، من حيث الألبسة والمظهر عموما –كتسريحة الشعر- فكان ما تظهر به: مارلين مونرو وبريجيت باردو أو ألفيس بريسلي وجيمس دين ومارلون براندو، هو المنطلق لما ينتشر أو يُنشر عن طريق وسائل الإعلام أولا، وعن طريق دور الأزياء الغربية ثانيا.
وبتعبير آخر.. لم تعد لغة "العرض والطلب" أو لغة "الحاجة الاقتصادية وتلبيتها" وغير ذلك من المعايير المعتبرة في تطوّر القطاعات الاقتصادية، بل ولم تعد الأذواق العامّة والعادات والتقاليد الشعبية أيضا هي العامل الحاسم في وجهة تطوّر عالم الأزياء اقتصاديا واجتماعيا، إنّما أمسكت أو شاركت على الأقل في الإمساك بدفّة التوجيه في هذا العالم قوى أخرى، مالية وغير مالية.
ورغم ما يوصف بالنكسة التي أصابت حركة الأزياء وتطورها قبيل الحرب العالمية الثانية، إلا أنّ ازدهارها منذ أواخر الخمسينيات الميلادية جعل منها أحد القطاعات الصناعية الكبرى في الغرب، وعاد بعض مصمميها الأوائل ـ مثل ديور وشانيل ـ من المنفى إلى فرنسا؛ ليصنعا مع أقرانهم ما عُرف في الغرب بالمظهر الجديد (new look)والذي بدأ مسيرته على مستويين: (1) تبسيط الألبسة المنتشرة على مستوى العامة، و(2) التركيز على المرأة وربط شعارات "تحريرها" بموجات التعرّي المتوالية، بدءا بأزياء السباحة، مرورا بأزياء السهرة، وانتهاء بالأزياء اليومية، وهو ما لعبت فيه التطورات التي عُرفت بثورة الطلبة عام 1968م دورا رئيسيا، إذ جعلت من عنصر "الحرية الجنسية" على مستوى الشبيبة محورا رئيسيا لتحرير المرأة ولتطوّر العلاقات الاجتماعية، كما كانت هذه هي الفترة التي أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية خلالها مصدرا إضافيا لعالم الأزياء الجديدة إلى جانب البلدان الأوروبية، ولا سيما إيطاليا وفرنسا وبريطانيا، وكان من تأثير ذلك في هذه الأثناء، أنّ توجيه تصميم 70 في المائة من قطاع الألبسة يستهدف في الدرجة الأولى فئة من الأعمار من الجنسين ابتداء من المراهقة المبكرة حتى العشرينيات.
كما تحوّلت وسائل الإعلام، والسينما، والحركة السياحية، إلى مصدر أوّل لابتكار أزياء جديدة باستمرار، تحوّلت أيضا إلى وسائل لترويجها، وكلّما تمّ الترويج لزيّ جديد ـ كما كان فجأة بظهور "بنطال" نسائي ـ سرعان ما تتحرّك آليات وسائل الإعلام والأفلام لتجعل من نشره في أنحاء العالم وسيلة فعّالة لتكوين الثروات الرأسمالية الكبرى. وبدأت تسيطر عناوين "ماكسي.. ميدي.. ميني" على تحديد العنصر المميز في مواسم الأزياء على التعاقب، حتى إذا أدّت المطلوب منها بدأ التقلّب ما بين الأقمشة الملوّنة والأقمشة الرقيقة، فأصبح عنوان أزياء السبعينيات الميلادية ما عُرف بظاهرة "الأزهار والقوّة" (flower-power)، ثمّ نُشرت في معممة "الثورة الجنسية" في الربع الأخير من القرن الميلادي العشرين، الأزياء التي باتت تطرح "التعرّي" كهدف بحدّ ذاته، جنبا إلى جنب مع استهداف جيل الشبيبة، ومع تحوّل دور الأزياء "الغربية المحلية" إلى ما يشبه الشركات المتعدّدة الجنسيات فبات نشر أزيائها في بقية أنحاء العالم جزءا من "الغزو" الاقتصادي باسم حرية التجارة، والهيمنة على الأسواق مع ما يتربط بذلك من هيمنة على صناعة الأذواق باسم "العولمة".
ومع استهداف الشبيبة في أزياء الملبوسات "اليومية" وتحوّل عالم الأزياء إلى أحد القطاعات الاقتصادية الرئيسية في ظاهرة "العولمة، أصبحت "صناعة" الأزياء كسواها من الصناعات الحديثة تعتمد على الإنتاج بكميات ضخمة، وآلة دعائية عملاقة، وحركة أموال شديدة التعقيد، وإن كانت حصيلتها في صالح "فئة الرأسماليين" واضحة للعيان. ولم يوقف ذلك عجلة تطوّر عالم الأزياء وفق مسيرته التاريخية بالصورة التي أوجدت في النهاية "دور الأزياء" بالصورة المعروفة حاليا، والتي تقوم على عنصرين، أوّلهما الفئة المترفة ـ مع زوال الحدود الجغرافية في تكوّنها - وثانيهما أنّ ما يُنشر من تصاميم في العروض الموسمية، وتقتنيه أو تقتني معظمَه تلك الفئة بأموال تعادل الدخل السنوي للملايين من البشر، لا يجري تقليده في القطاع الإنتاجي للاستهلاك العام، ولكن يجري تحويله إلى "رموز" تترك بصماتها على التصميمات المخصصة للاستهلاك العام، للتأثير بواسطة وسائل الترويج المشار إليها على الأجيال الشابة من المستهلكين في الدرجة الأولى.
وتكشف المقارنة بين تطوّر الأزياء من حيث أشكالها، على امتداد عصور التاريخ، وحتى نهاية القرن الميلادي العشرين، أنّ شيئا من التأثير للأذواق والأفكار السائدة في كل عصر من العصور، كان يعكس ملامحه على "نوعية" التصميمات الغالبة على ألبسة الطبقات المترفة فيه، كما أنّ الاحتياجات المعيشية والقيم السائدة، وربما الأذواق أيضا، كانت تلعب دورها في انتشار أزياء شعبية دون سواها في هذه المنطقة دون تلك من العالم.
أمّا في العقود الأخيرة من القرن الميلادي السابق، فقد انهارت البقية الباقية من القواعد المنطقية في نشأة التصميمات الجديدة، وبات عنصر الغرابة هو "المعيار" للقول إنّها جديدة، إلى جانب عنصر التعرّي، الذي حوّل عروض الأزياء الموسمية إلى عروض للأجساد فحسب.
لقد تحوّلت الأزياء بذلك من مادّة إنتاجية لتحقيق منفعة محدّدة يساهم الجمال في تحديد شكلها ومظهرها مع مراعاة تعدّد الأذواق واختلافها، إلى وسيلة من وسائل الصناعة الإنتاجية للتأثير على صياغة الإنسان بما يتفق مع "احتياجات" الفئة المهيمنة على المال في عصر العولمة، وعلى صياغة أذواقه وفق المهمّة المطلوبة منه.
رغم كثرة ما ينشر عن قطاع الأزياء، فمما يثير الاستغراب عدم توفر معلومات دقيقة تعطي صورة شاملة عن الجانب المالي فيه، من حيث الميزانيات والنفقات والعائدات والأرباح والخسائر. وحتى الحديث عن كل مجال من مجالاته الأربعة الرئيسية، المنسوجات والملبوسات والأحذية والجلود، لا يكاد يخرج من التعميم إلى مستوى الإحصاءات والأرقام الشاملة، كما هو الحال في قطاع الطاقة بفروعها المتعدّدة مثلا.
قد يدور الحديث مثلا عن أنّ إيطاليا في مقدّمة الدول الأوروبية على صعيد الملبوسات، أمّا الوصول إلى صورة إجمالية قريبة من الواقع بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي بمجموعه مثلا، فيحتاج إلى عمليات حسابية، ومقارنات مضنية، وتقديرات عديدة.. وملاحظة الاختلاف في المصطلحات من بلد إلى بلد. ومع ذلك يمكن تكوين تصوّر عام عن الجانب المالي لقطاع الأزياء من خلال الأرقام المتوفرة عن بعض ميادينه في بعض البلدان الغربية، مع ملاحظة أنّ المرتبة الأولى عالميا في قطاع الأزياء، لا تحتلها دولة غربية، وإنّما الصين الشعبية، وهو ما يعود إلى أنّها أكبر دول العالم سكانا، وبالتالي استهلاكا للمنسوجات والملبوسات عموما.
في الغرب تحتل إيطاليا المرتبة الثانية عالميا بميزانية تعادل 48 مليار أويرو. ويشتغل في هذا القطاع 700 ألف شخص في 7 آلاف شركة.. بينما يبلغ عدد العاملين في هذا القطاع في الاتحاد الأوروبي بمجموعه أكثر من مليونين و600 ألف شخص، ومع انضمام عشرة دول أخرى إلى الاتحاد يصل هذا العدد إلى 6 ملايين شخص.
ولتقدير حجم السوق الاستهلاكية للأزياء، يمكن أخذ بريطانيا مثالا، حيث يبلغ حجم الإنفاق السنوي على الملبوسات فقط أكثر من 45 مليار أويرو، يضاف إليها زهاء 20 مليارا قيمة الأقمشة، ويعمل في هذا الميدان زهاء 400 ألف شخص. بينما يبلغ حجم النفقات على الملبوسات والمنسوجات في ألمانيا حوالي 56 مليار أويرو سنويا، وكان حجم ميزانية الشركات العاملة في قطاع الملبوسات حوالي 11 مليار أويرو.
ويُلاحظ أنّ الاستهلاك الفردي السنوي للملبوسات والأقمشة في البلدان المذكورة ـ وهي الأثرى من سواها عموما - يعادل وفق الأرقام المذكــــورة ما يراوح بين 600 و900 أويرو سنويا، وهذا تقدير المعدّل الوسطي، فإذا حذفنا من المجموع الكلي ما تستهلكه الطبقة المترفة التي ترتبط أسماء دور الأزياء الكبرى بها، فقد لا يتجاوز الإنفاق الفردي الوسطي حدود ثلاثمئة أويرو سنويا.
لا يسهل الوصول إلى رقم محدّد حول استهلاك الطبقة المترفة للأزياء الباهظة الأسعار، ولكن يمكن استخلاص صورة تقريبية عندما نلقي نظرة على ميزانيات تلك الشركات المعدودة في مصاف الأكبر والأشهر في عالم الأزياء، والمتخصصة في أغلى الثياب والعطور وقطع الزينة والأحذية والملبوسات الجلدية وكذلك بعروض الأزياء الموسمية.. وعددها في أوروبا أربعون شركة، منها 14 إيطالية، و9 ألمانية، و 5 بريطانية، و4 فرنسية، والباقي من الدانيمارك وبلجيكا وهولندا، كبراها شركة (lvmh) الفرنسية والتي تتفرّع عنها شركة كريستيان ديور، وتليها شركة آديداس الألمانية للملبوسات الرياضية، ثمّ بينيتّون الإيطالية، فمارتسوتو الإيطالية أيضا، ثم ليفي شتراوس البلجيكية.. ويبلغ حجم العائدات السنوية لهذه الشركات الخمس الكبرى معا حوالي 10 مليارات أويرو، بينما يبلغ حجم عائدات الشركات الأربعين الكبرى معا زهاء 30 مليار أويرو.
وبغض النظر أن قسما من منتجات هذه الشركات منتشرة في الأسواق الاستهلاكية عموما، إلاّ أنّ ميزانياتها من صنع نسبة محدودة من "المنتجات" مخصّصة لعدد محدود من تلك الفئات المترفة، من الدول الرأسمالية والنفطية في الدرجة الأولى، وكذلك من بعض الدول النامية التي نشأت فيها أيضا طبقات فاحشة الثراء رغم انتشار الفقر على أوسع نطاق على مستوى الشعوب.
ومع إضافة ما يوجد من شركات يابانية وأمريكية من هذا المستوى، يمكن الوصول بحجم العائدات لهذه الشركات إلى حوالي المئة مليار دولار على وجه التقدير، ولا يعتبر الرقم نفسه كبيرا بالمقارنة مع ما أصبح يدور في حركة الأموال العالمية في ظل زيادة سرعة العولمة أضعافا مضاعفة خلال السنوات الأخيرة، وإن كان يعادل ما بين ثلث عائدات الدول النفطية الأعضاء في منظمة البلدان المصدرة للنفط معا ونصف تلك العائدات، على حسب تأرجح أسعار السوق.. ولكنه لا يتجاوز في النهاية حجم ما تتأرجح حوله ثروة بعض أقطاب الصناعات الكبرى الأخرى، كما هو معروف عن ثروة "بيل جيتس" مؤسس شركة مايكروسوفت.
إنّما تبدو الأهمية الأكبر لهذه الأرقام من قطاع عالم "أزياء المترفين" إذا صحّ التعبير، من زاوية مفعوله على الطبقة التي تمسك بمقاليد توجيه الاستثمارات، وتطوير الصناعات، وتحديد المسار الاقتصادي لبلدان بأكملها، وهو مفعوله يمكن أن يراوح ما بين محض الترف المترع بالفساد الأخلاقي، وبين انتشار الفساد الاقتصادي من رشوة ومحسوبية وسواها.
لها أون لاين