نبيل شبيب
الأزياء بين القيم والمال والأذواق تاريخ عالم الأزياء وتطورها المعاصر ونظرة إسلامية لها(3/3)
كانت وما تزال قضية الأزياء موضع الحديث في بلادنا الإسلامية من زاوية القيم في الدرجة الأولى، والمقصود هنا ما يفهم من كلمة القيم على أكثر من صعيد، انطلاقا من العقيدة ومفعولها في صياغة المجتمع وشخصية الفرد، حتى وإن ضعفت نسبة الالتزام الديني، وكذلك تلك القيم التي يشترك فيها الإسلام مع التصوّرات البشرية الوضعية السائدة، وهذا ما يمسّ جوانب اجتماعية واقتصادية، وما يرتبط من ذلك بالأزياء وارتباطها بالثراء والفقر، داخل المجتمع الواحد، وعلى مستوى الأسرة البشرية.
لا يخفى أنّ تركيز الأزياء في العالم الغربي على المرأة، وانتقال ذلك في ظل الهيمنة الغربية عالميا إلى مناطق أخرى من العالم، جعل من عالم الأزياء عالم صراع على المرأة نفسها، مع تحوّلها إلى أداة من أدواته في الوقت نفسه.
هذه النظرة الصادرة في الأصل عن تصوّر إسلامي يتلاقى مع الفطرة البشرية، غابت في الغرب في حقبة ما سمّي "الثورة الجنسية" في السبعينيات والثمانينيات الميلادية، ولكن لم تعد مسلّما بها منذ التسعينيات الميلادية على الأقل. على أنّه من الخطأ المضيّ مع بعض الصور التي يجري تناقلها في كتابات إسلامية منذ فترة عن وجود ما يشبه ثورة مضادة، وكثير من هذه الكتابات يستشهد بمواقف فردية، منها على سبيل المثال:
- وصف امرأة ألمانية ناشطة في ميدان المرأة وتدعى "آليس شـفارتسر"، بأنّها "امرأة ألمانية تحمل راية الدفاععن الحقوق الإنسانية للمرأة في مواجهة استغلالها في تجارة الخلاعة".
- أو قول عالمة اجتماعية أمريكية تُدعى (اندريا دوراكن) تحت عنوان "خلاعة": بدافع اللذة يربطوننا وكأننا قطع لحم،ويعلقوننا على الأشجار، ويصورون الاغتصاب ويعرضونه في السينما وينشرونه في المجلات.
- أو حديث عارضة أزياء فرنسية "فابيان" ـ أسلمت ـ عن بيوت الأزياء بقولها:إن بيوت الأزياء جعلت مني مجرد صنم متحرك، مهمته العبثبالقلوب والعقول.. فقد تعلمت كيف أكون باردة قاسية مغرورة فارغة من الداخل.. لاأكون سوى إطار يرتدي الملابس، فكنت جماداً يتحرك ويبتسم، ولكنه لا يشعر، ولم أكنوحدي المطالبة بذلك، فكلما تألقت العارضة في تجردها من بشريتها وآدميتها زاد قدرهافي هذا العالم القاسي البارد، أما إذا خالفت أياً من تعاليم الأزياء فتعرض نفسهالألوان العقوبات، التي يدخل فيها الأذى النفسي والجسماني أيضا.
وإذا كانت هذه الأقوال تصوّر الواقع بما يتفق مع التصوّرات الإسلامية، فهي لا تصوّر أكثر من حالات فردية في المجتمع الغربي، لا شكّ في أنّها تتزايد بصورة مطّردة ومتسارعة، ولكنها لم تصل قطعا إلى مستوى "ثورة مضادّة" للثورة على القيم العقدية والاجتماعية في الغرب، والتي كانت الأزياء في مقدّمة وسائلها.
على النقيض من ذلك ما تزال دور الأزياء الكبرى والشركات التجارية العالمية في هذا القطاع، تسير على النسق الذي سارت عليه منذ نشأتها الأولى، وما تزال المرأة هي المستهدفة أكثر من الرجل على هذا الصعيد، ولا يزال الكشف عن جسد المرأة هو المعيار الرئيسي في صناعة الأزياء. على أنّ الظاهرة الأخطر على هذا الصعيد أنّ الأزياء الغالية الثمن كانت تستهدف إلى الآن النساء في أعمار ما بين الشباب والكهولة، لضمان توفّر القوة الشرائية في الدرجة الأولى، وهذا ما بلغ حدّ الإشباع، فبدأ التعاون بين دور الأزياء وتلك الشركات على طرح الجديد الذي يستهدف النساء الأصغر سنّا بالتدريج، حتى أصبحت الفتيات في سنّ المراهقة هنّ المستهلك الرئيسي للملبوسات المصنوعة بكميات ضخمة، وبأسعار منخفضة، ولكن بتوجيه مباشر من مصمّمي الخطوط العامّة للأزياء للطبقة المترفة. وليس من السهل في تلك السنّ المبكرة تحريك القيم في مواجهة أساليب الاستهواء المتبعة، لا سيّما في البلدان الغربية التي نشأت على ذلك عبر قرون عديدة.
بدلا من ذلك دخلت دور الأزياء وشركاتها في ساحة "صراع القيم" على صعيد آخر، فتحت هذا العنوان بدأ التعاون فيما بينها للتوصل إلى اتفاقات تستهدف مقاطعة المنسوجات والملبوسات التي يشارك الأطفال والناشئة في إنتاجها بدعوى حماية الأطفال من العمل قبل "السن القانونية".. وفق المفهوم الغربي للكلمة، كما كان عام 1995م، ثم بإضافة صناعة الأحذية عام 2000م. ولا شكّ في ضرورة توفير الظروف المادية والاجتماعية التي تسمح بزوال هذه الظاهرة، ولكن من العسير عند التأمّل في خلفيات ذلك فصل هذا المطلب عن الدوافع المادية، فقد بات ذريعة لمنع استيراد المنسوجات والملبوسات من كثير من البلدان النامية، التي يعتبر الفقر فيها هو السبب الرئيسي في تشغيل الأطفال، وتعتبر مكافحته بصورة مباشرة ـ وليس زيادته عبر المقاطعة - هي الوسيلة الفعالة لمكافحة تلك الظاهرة.
في منتصف عام 2000م عندما أقدمت عارضة الأزياء المصرية "أمينة شلباية" على افتتاح معرض للأزياء في مصر، عللت ذلك بالتخلّف في هذا القطاع، مشيرة إلى وجود 20 ألف مجلة متخصصة (بالموضة) في الغرب مقابل أربع مجلات من هذا النوع في البلدان العربية.
والواقع أنّه لم تنقطع الجهود على امتداد عشرات السنين لتقليد الغرب وأزيائه وتقليعاته في مختلف الميادين ذات العلاقة بالمرأة والأسرة إلى بلادنا الإسلامية، دون النظر في تباين الخلفيات التاريخية والحضارية والعقدية والخلقية، بل ودون النظر أيضا في العواقب التي يشكو الغرب منها على كثير من هذه الأصعدة.
ومن وراء الفارق الملحوظ بين نظرة الإسلام التوجيهية التربوية على صعيد الأزياء، وبين النظرة الغربية المنبثقة عن التاريخ الغربي، نستطيع أن نميّز في عصرنا الحاضر على سبيل المثال الفارق بين:
- النظرة الغربية لزيّ المرأة، خاصة أنّه يتمثل فيما "يظهر محاسنها ومفاتنها"، ويجري التعامل مع هذه النظرة كأمر مفروغ منه لا يحتاج إلى نقاش..
- والنظرة الإسلامية للأزياء عموما فيما ثبتته القيم التي تدور حول "اللباس والزينة".
وكما نعاصر في مختلف الميادين الأخرى، الفكرية والخلقية والاقتصادية والسياسية والمعيشية، ما تصنعه ظاهرة "الغزو الغربي" كما نصفه أحيانا، أو ظاهرة الصراع الذي فرضته في واقع البشرية تطلّعات الهيمنة الغربية على مختلف مرافق معيشة الإنسان، نعاصر تلك الظاهرة في عالم الأزياء أيضا.
إنّ توجّه فريق من الأثرياء إلى اقتناء بعض ما تطرحه دور الأزياء الغربية بأسعار يتجاوز بعضها أضعاف ما يجري تخصيصه لرعاية أيتام بلد بأكمله، هو سلوك لا يمكن أن ينفصل عن المواجهة القائمة بين النظرتين الإسلامية والغربية..
وإنّ إصرار بعض دور النشر المشبوهة على تمويل ما يسمّيه أصحابها "مجلات نسائية" إلى أوراق دعائية محضة لسلوكيات الغرب في عالم الأزياء والزينة، مهما تناقض مع واقع المرأة في البلدان الإسلامية، لا ينفصل أيضا عن ساحة الصراع تلك..
ويسري شبيه ذلك على ما نرصده من حرب شعواء على انتشار الحجاب الإسلامي في جيل الفتيات الناشئ على وجه التخصيص، وقد أصبحن إلى حدّ ما بين نارين إذا صحّ التعبير، توقد أوار الأولى أنظمة حكم لا تتورّع عن مطاردة المحجبّات في المدارس والجامعات وأماكن العمل، أو "تحرّم" شاشة "التليفزيون" عليهن قدر الإمكان.. وتوقد أوار الثانية نظرات ضيّقة لا تراعي "المرحلية" ولا تعرف مكانا لعنصر الجمال والزينة، فتطلق على الألبسة الإسلامية المنتشرة حديثا وصف "حجاب السفور" بعد أن وصلت الفتيات بها إلى بعض الفضائيات مؤخرا.
وبالمقابل قد لا يكون الحلّ في قيام الشركات التركية المتخصصة بالأزياء الإسلامية بتوظيف عارضات أزياء غربيات لعرض الأزياء الإسلامية، فهذا وإن حمل غرضا دعائيا، فإنّه لا يخرج في نهاية المطاف عن صورة "شاذة" من صور تقليد الغرب على هذا الصعيد.
ومن العسير استبعاد عنصر القيم في هذا الصراع الدائر، وإن طرح بعضهم دعواته إلى التبعية للغرب في أزيائه تحت عناوين "حيادية" ظاهريا، مثل القول إنّ اللباس الغربي لباس عملي، فلا أحد يجهل أنّ استهداف القيم لا ينطلق من "شكل اللباس" وإنّما من تحديد وظيفته في حياة المرأة والرجل، سيّان بعد ذلك ما هو الشكل الذي يختاره، ما دام يراعي القيم من جهة، ولا يصل إلى مرحلة الشذوذ والتناقض مع العرف القويم والغرض القويم من ارتدائه من جهة أخرى.
صحيح أنّ العامل المادي في صناعة الأزياء وتسويقها هو العامل الأبرز للعيان والأبعد تأثيرا في الواقع الاجتماعي للشعوب والبلدان، ولكن لا مجال لاستيعاب أبعاده الراهنة والمستقبلية، دون الرجوع به إلى الأرضية التي يقوم عليها، والتي تدور على محورين رئيسيين، محور القيم، وبالتالي تأثيرها على توظيف الطاقة المالية في عالم الأزياء باعتباره قطاعا اقتصاديا، ومحور التاريخ وتفسيره لاختلاف تطوّر نظرة الفرد إلى الأزياء باختلاف تكوينه الحضاري عبر محطات التاريخ.
وسبق الحديث عن أنّ أوّل ما يمكن رصده دون بحث طويل: أنّ موازين أهل الغرب المرتبطة بالأزياء قائمة في مجملها على عنصرين اثنين، برزا على أرض الواقع بمقدار اضمحلال مفعول القيم في مجالات الحياة الفردية والاجتماعية، وهما:
* الشكل الظاهري للأزياء.. لا سيما النسوية منها.
* ظهورها في أوساط الفئة الموصوفة بالطبقة العليا في المجتمع.
ومقابل غياب تأثير القيم أو اضمحلاله على هذا الصعيد في الغرب يعود بنا القرآن الكريم في عالم الأزياء إلى عناصر أخرى، أهمها:
1- العنصر الوظيفي.. ابتداء من تسمية الأزياء "لباسا" فهي -دون تمييز بين الذكر والأنثى - لستر العورة أولا، والتي يندرج كشفها منذ بدء الخليقة تحت عنوان "السيئات" كما توحي اللفظة المعبّرة عنها في الآية الكريمة: ((فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا))[20 الأعراف].
2- العنصر الثاني الذي يثبّته القرآن الكريم هو العنصر الاجتماعي مع بُعدِ الثراء والفقر المنبثق عنه، فاللباس هو أحد العناصر الأربعة الرئيسية في حقوق الإنسان المادية المكفولة للفرد، اللباس والمأوى والطعام والشراب: ((إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى* وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى))[118 و119 طه].
3- العنصر الثالث هو الربط على صعيد القيم ما بين اللباس ووظيفته الأساسية وبين التقوى الواجبة في سائر الأحوال: ((يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ))[27 الأعراف].
4- عنصر الجمال أو عنصر الزينة.. وهو العنصر الذي يتطلّب شيئا من الاستطراد لغيابه في أذهان الناس، لا سيّما عند إنكار ما أصبح عليه تقويم "جمال الأزياء" حديثا وربطه بالتعرّي أكثر من ربطه بالجمال بحدّ ذاته، بينما تركّز على عنصر الجمال في الثياب والمظهر عموما، بمعناه القويم، الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، كقوله تعالى: ((يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ)) -31 الأعراف- وقد فسّرها المفسرون بالثياب، ويؤكّد أنّ عنصر الجمال مقصود في تعبير الزينة قولُه تعالى: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)) -32 الأعراف- كما يؤكّدها الحديث النبوي، فيما أخرج أحمد ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان فيقلبه مثقال حبة من كبر. قال رجل: يا رسول الله إنه يعجبني أن يكون ثوبي غسيلا، ورأسي دهينا، وشراك نعلي جديدا، وذكر أشياء حتى ذكر علاّقة سوطه، فمن الكبر ذاك يارسول الله؟ قال: لا، ذاك الجمال، إن الله عز وجل جميل يحب الجمال، ولكن الكبرمن سفه الحق وازدرى الناس". وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: لما خرجت الحرورية أتيت عليافقال: ائت هؤلاء القوم. فلبست أحسن ما يكون من حلل اليمن، فأتيتهم فقالوا: مرحبا بك يا ابن عباس ما هذه الحلة؟! قلت: ما تعيبون علي؟ لقد رأيت علىرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل. وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عمر عن رسول الله صلى اللهعليه وسلم قال "إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله عز وجل أحق من تزين له، فإنلم يكن له ثوبان فليتزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود".
ويمكن أن نكتفي بهذا القدر مع التنويه بوجود عناصر أخرى عديدة، منها على سبيل المثال ودون استرسال:
(5) عدم التركيز على نوعية اللباس.
(6) حدّ الكفاية كما هو معروف عن السلوك الإسلامي في العهد الأوّل.
(7) مراعاة العرف.. وغير ذلك ممّا ينسجم مع تعاليم الإسلام وقيمه وأخلاقه.
إنّنا نعايش بذور ثورة مضادة داخل البلدان الإسلامية في اتجاه يربط الأزياء بالقيم، ولكنّها ما زالت في بداياتها الأولى، وما نحتاج إليه هو ربط تطوّر "عالم الأزياء" في بلادنا، وربط الإقبال المتزايد على الزيّ الإسلامي من جانب جيل الفتيات في كثير من هذه البلدان، بمنظومة القيم التي ننطلق منها، وبالواقع الذي تعيشه شعوبنا، بما يجمع في وقت واحد بين الاحتياجات الفعلية بالمنظور الاقتصادي والمعيشي، وعناصر الجمال والبساطة، والتعاليم الدينية، والأعراف والعادات التي لا تتناقض مع تلك التعاليم.
لها أون لاين