حسين محي الدين سباهي

ينقضي جانب كبير من حياة الطفل في اللعب أي في تسلية نفسه والمتعة بتسلية الآخرين إيَّاه، ومن ثم كانت مختلف لعبه وأصحابه والمنوال الذي يملأ به وقته أمور بالغة الأهمية، ويلقى الطفل خلال اللعب أوَّل دروسه في ضبط العضلات وتدريب الحواس وإنماء المدارك، هذا إلى أن التدريب والخبرة يسيران جنباً إلى جنب، لهذا كان من اللازم أن نلم بأنواع الخبرة التي ينبغي أن يمر بها الصغير، وبصنوف الأدوات التي تيسِّر أمر التدريب.
والطفل قبل الثانية من عمره لا يحفل كثيراً بغيره من الأطفال، إذ هو يرنو ببصره إلى الإفادة والتعلم من الكبار البالغين، ومن الأصحاب الذين يكبرونه، ومن المحيط العجيب الذي يعيش فيه، بل إن الحظ لو واتاه لأتيحت له فرصة للتعلم من الرضيع الصغير الذي وكلت إليه العناية بجانب من شأنه على أنه بعد سن الثانية يبدأ في ملاحظة غيره من صغار الأطفال، وهو يقتصر على أن يرقبهم أثناء انصرافه إلى لعبه الخاص، لكنه يرتاح إلى وجودهم على كثب منه.


وقلَّما يندفع الأطفال من تلقاء أنفسهم إلى اللعب جماعات وهم بعد في رياض الأطفال، لكن وجودهم معاً يكسبهم عادات أساسية مثل «متاعي ومتاعك».. «عش واترك الآخرين يعيشون»..
وبعد سن الثانية لا ينبغي أن يقتصر الطفل على صحبهِ الكبار فحسب مهما بلغ عَطفهم عليه أو حِكْمَتهم في رعايته أو ملاعبتهم إِيَّاه، فإذا لم يكن بُدْ من أن يكون في حياته جانب كبير من صُحْبَة الكبار، وجب أن يلتزم هؤلاء قاعدتين لابُدَّ من التزامهما في كل صلة تقوم بين الكبار والصغار: حيث تحتم القاعدة الأولى عدم التدخل في شأن الطفل أثناء انصرافه إلى عبثه ولعبه إلاَّ إذا استلزم نظام طعامه أو نومه ذلك، أو تعرض هو للخطر.
أما القاعدة الثانية فتحتم وجوب خضوعنا لزعامة الصغار إذا أرادوا اللعب معنا، نتقبل الفكرة أو الخطة التي يرسمونها ولا نفرض عليهم مانَوَدُّ نحن في اللعب، هذا بالإضافة إلى ما يجنيه الطفل من معلومات جديدة من ملاحظته أشكال استجابتنا على مختلف الأفكار التي يبديها هو، وفيما بعد الثانية ينبغي أن يصرف الشطر الأكبر من أوقات لعبه مع غيره من الأطفال الذين يماثلونه في السن أو يزيدون عنه قليلاً، والشطر الأصغر مع الأطفال الذين يصغرونه أو الذين يكبرونه بكثير، على أنه بعد سن الثالثة يكون من الخير أن ندعه يقضي بالتدريج جانباً أكبر من وقته مع مَنْ يصغرونه من الأطفال، ففي هذا تدريب على ضبط النفس والسماحة وبذل العَوْن والعطف والحنان وغير ذلك من الصفات اللازمة لخيره وخير الناس.(5)

 

• اللعـب .. أسطورة حب، يتمنى كل طفل أن يعيشها :

يؤكد الخبراء أنَّ اللعب وسيط تربوي فعَّال، لتشكيل شخصية الطفل. فعالم الطفولة عالم غريب عجيب ولكن كل شيء فيه جميل ومحبب، واللعب مفتاح حياة أطفالنا، معه يكبرون وتتفتَّح أذهانهم، وتبدأ نشاطات لانهاية لها، وهو عملية نمو تبدأ مع الطفل منذ حركاته الأولى، ومع تطور ذكاء الطفل يصير أكثر تعقيداً، فاللعب بالدُمَى يجتذب الطفل، منذ مرحلة مبكرة، ويصل إلى ذروته في العام السابع أو الثامن من العمر.
وبعد التحاق الطفل بالمدرسة، تبدأ اهتماماته باللعب في التغير، فخلال العام الأول أو العامين الأولين، في الحياة المدرسية، يجري التداخل بين أنشطة اللعب المميَّز لمرحلة الطفولة المبكرة من سن (3-6) سنوات، وتلك المميِّزة لمرحلة الطفولة الوسطى من سن (6-10) سنوات.
تظل أنشطة اللعب المحببة إلى الصغار في الطفولة المبكرة قائمة لسنوات قليلة وتنمو في الوقت نفسه اهتمامات جديدة للعب. ففي البداية يكون الطفل شغوفاً بألعاب الجري، ثم تصبح الألعاب الرياضية القائمة على قواعد محددة هي تسليته المفضَّلة بعد ذلك، ولكن الطفل قد يتطور لعبه في نوع معين من الألعاب، منذ الطفولة، وحتى سن أكبر قليلاً، فمثلاً لعبة المكعبات تقتصر في المرحلة الأولى على الحمل وتجميع مجموعات غير منتظمة، أما في المرحلة الثانية، فتتطور إلى تكوين صفوف وأعمدة من هذه المكعبات، وفي المرحلة الثالثة تنمو قدرة الطفل على عمل نماذج منها، وتتضح بعض الطرق التي يتبعها في بنائه للمكعبات. وفي المرحلة الأخيرة يقوم ببناء تكوينات حقيقية، تُعبِّر عن معانٍ متكاملة، ويستطيع إعادة البناء مرَّة أخرى.
عندما يكبر الطفل يجد نفسه مطالباً بالإقلال من الوقت الكثير، الذي يقضيه في اللعب، فهناك وقت للمدرسة وللمسؤوليات المترتبة عليها، لذلك يجب عليه التنسيق بين دراسته ولعبه، وهذا جانب مهم يجب على الأسرة أن تهتم به وتُنميه لدى الطفل، حتى يستطيع أن يستمتع بلعبه حين يلعب، ويرضى عن دراسته حين يدرس، وبعد أن يبدأ الأطفال بالنمو، عاماً بعد عام، يظهر تحوّل كيفي في نشاط اللعب لديهم، حيث يتناقص النشاط الجسمي المبذول في اللعب كلَّما كبر الطفل، في حين يزداد الميل إلى أنشطة اللعب ذات الطابع العقلي والمعرفي، فالطفل في السنوات المدرسيَّة الأربع الأولى يُفضِّل الألعاب الرياضية النشطة، ويسيطر عليه في سن المراهقة المبكرة، والطفولة المتأخرة، أشكال معينة من اللعب مثل مشاهدة التلفزيون والقراءة، وإجادة ألعاب رياضية معينة. ويتناسب هذا التغير الكيفي، في عملية النمو العقلي والمعرفي، والذي يبدأ بالمظاهر الحسيَّة الحركية، في مرحلة المهد، حتى يصل في مرحلة المراهقة، مع المستويات التجديدية للذكاء الإنساني.
وكثيراً ما يصاب الآباء والأمهات بالحيرة عند رؤيتهم لأطفالهم، يمضون الساعات الطويلة، وهم منهمكون في لعب متواصل وحركة لا تهدأ ورغم طول الوقت فإنهم لا يملون ولا يتوقفون، وإزاء هذه الحالة فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل اللعب حاجة ضرورية وصحية للطفل، يجب العمل على إشباعها لتحقيق النمو والانطلاق والاستكشاف، أم أننا يجب أن نلفت نظره وانتباهه إلى أشياء أخرى أكثر جديَّة ؟ الأمر الذي يدعو لمعرفة ماهو اللعب ؟ وما ضرورته ؟(8)

• جـوهـر اللعـب وطبيعتـه :

إنَّ اللعب هو ذلك النشاط الحر، الذي يُمارس لذاته، وليس لتحقيق أيّ هدف عملي، وجميع الأطفال يقومون باللعب إلاَّ إذا منعتهم من ذلك حالة جسديَّة أو نفسيَّة غير صحيَّة، مثل مرض جسدي، أو عاهة ما. وثمة أشكال مختلفة للألعاب: فهناك الألعاب الحركية، والتعليمية، والتمثيلية، والتركيبية، وتحمل الألعاب الإبداعية والدورية (التي تتطلب القيام بدور معيَّن) أهمية كبيرة في نمو الأطفال، من السنة الثانية حتى السابعة، مِمَّا حَدا بالعَدِيدْ من العلماء أمثال «ليونتيف، والكونين، وزابار، وجيتس»، لأن يطلقوا على اللعب الدوري اسم النشاط الرائد للطفل، في مرحلة ما قبل الدراسة.
إن الأهمية الكبرى للعب في حياة الأطفال الصغار، وتنوعه وتشابهه عند أطفال من شتى البلدان، وفي مختلف المراحل التاريخية، وطول الوقت الذي يقضيه الأطفال في ممارسة هذا النشاط، كل ذلك دفع العديد من العلماء للبحث عن تفسير طبيعة هذا النشاط الطفولي المدهش وأصله، ولعلَّ أكثر نظريات اللعب شيوعاً وانتشاراً في القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، هي نظرية «غروس»، حيث اعتبر أنَّ اللعب هو إعداد العضوية الفنية إعداداً لا شعورياً للحياة. فالطفلة في عامها الثالث تستعد، بصورة لا شعورية، للقيام بدور الأم حين تضع دميتها، وتهدهدها كي تنام، وهكذا فإن مصدر اللعب هو الغرائز، أي الآليات البيولوجية. ولقد اعتمد وجهة النظر هذه كثير من العلماء، مع تعديلات طفيفة، حيث فسَّر كل من (شيلروغ وسبنسر) اللعب على أنه تصريف بسيط للطاقة الزائدة التي يختزنها الطفل، ولمَّا كانت هذه الطاقة لا تنفق في العمل فقد تجلَّت في اللعب.
أما العلماء أمثال (سيكورسكي، وكابتيرف، وشينسكي) فقد فسَّروا طبيعة اللعب بصورة مغايرة، ومن مواقع مختلفة تماماً، واعتبروا اللعب نشاطاً إنسانياً أصيلاً، ثم جاءت (كريسكايا ومكارنكو) وغيرهم ليضعوا تحليلاً عميقاً للعب، وليُفسِّروا نشاط الأطفال تفسيراً صحيحاً.(4)

• خصـائص ألعـاب الأطفـال :

أولاً: اللعب شكل من أشكال الانعكاس الفعَّال لحياة المحيطين بالطفل، وقد بيَّنت دراسة الأشكال الأوَّلية، للعب ونموه عند الأطفال الصغار، أنها تنشأ على أساس التقليد والأفعال التلمسيَّة للأشياء. فعندما يقوم الأطفال بلعبة رجال الفضاء والأطباء، الذين يعالجون الناس من أفدح العلل، التي لم يتوصل بعد لإيجاد العلاج لها، فإنهم يَحِلّون مشكلات مهنية، وهي مشكلات عميقة جداً، أي أن الطفل يعكس في اللعب حياة الراشدين، وكلَّما كانت إمكانات الفعل النشط كبيرة، كان اللعب أكثر متعة، ولذلك فمن الأفضل أن يكون طبيباً عوضاً عن أن يكون مريضاً، وممثلاً بدلاً من أن يكون مشاهداً، وسائقاً لأن هذا أمتع بكثير من أن يكون راكباً.
وهذا يعني أن معظم ألعاب الأطفال ليست مجرد لهو وتسلية، بل إنها تشكل حلم الطفل إزاءَ غَدِهِ، وبحثه الأول عن رسالته في الحياة، وسعيه لأن يقتدي بأكثر سلوك الكبار إجلالاً وبأَجَلِّ أعمالهم.
ثانياً: إن اللعب يتحقق عن طريق الأفعال المركَّبة، ليس بالحركات المتقطعة (كما هو الحال في الأشغال والكتابة والرسم). وتتضمَّن هذه الأفعال الكلام: فالأطفال الكبار يضعون خطة اللعبة ومحورها، ويُطلقون على اللاعبين أسماء معينة، ويطرحون أسئلة خاصة بكل منهم، ويُطلِقون أحكاماً على سلوك الشخصيات الأخرى ويُقوِّمونها، لمَّا كان الطفل يستعيد، من خلال أفعاله وكلامه، حياة الراشدين الفنية والجذابة والممتعة، فإنه يُقبل عليها بحماس منقطع النظير، «فالممرضة» تقلق على صحة المريض، «والطيَّار» يهبط بطائرته على الجليد بشجاعة، وقلَّما نصادف بين الأطفال الذين يلعبون لعبة الجواسيس الجبناء الذين يقعون في الأسر من «باحوا للأعداء» بالسر، بغض النظر عن أن للألعاب قوانينها الصارمة.
ثالثاً: إن للعب، مثل أي نشاط إنساني آخر، طابعاً اجتماعياً، وهذا ما يجعله يتغيَّر مع الظروف التاريخية لحياة الناس، وبما أن ألعاب الأطفال تعكس الحياة، فإنها تتغيَّر تبعاً لتغيّرها.
رابعاً: يعتبر اللعب شكلاً من أشكال الانعكاس المبدع لواقع الطفل، لذا لا يمكنك أن تتصور طفلاً صغيراً لا يحب الألعاب. ولكن الأطفال حين يلعبون فإنهم لا يحاولون نسخ الواقع نسخاً ميكانيكياً وببغاوياً، بل يُضمّنون ألعابهم الكثير مما يختلقونه ويتخيلونه ويُركِّبونه من بنات تصوراتهم. ولعلَّ حرية الاختلاق والإمكانات غير المحدودة على التأليف، التي لا تخضع لاهتمامات الطفل ورغباته وإرادته، هي مصدر السعادة العميقة والدائمة التي يحملها اللعب الإبداعي للأطفال. وتعكس هذه الألعاب الحياة الحقيقية للناس بما تحتويه من أحلام ومشاريع وابتكارات رائعة. فهناك الراديو والتلفاز والآلات ذاتية التشغيل، وهي لا حَدَّ لها بالنسبة لخيال الطفل الخصب على الأقل، ولذلك فإن الطفل يستطيع الوصول إلى كل شيء، وعمل كل شيء من خلال اللعب.
وفي لعب الأطفال الإبداعي يتعانق الواقع مع الخيال، والسعي لاسترجاع الواقع مع الخيال، والسعي لاسترجاع الواقع بدقة (هذا يحدث) و (هذا لا يحدث) مع التشويهات المقصودة للواقع على نحو مدهش.
وبقدر ما يتمتع الأطفال بإمكانات أكبر على الاختلاق وإعادة التكوين المبدع للواقع المنعكس، بقدر ما يكون اللعب أكثر متعة وإرضاء للاَّعبين أنفسهم. فإذا شاهدتم وأنتم تطلّون من النافذة، أن بعض الأطفال يقفزون من سطح مكان مرتفع إلى كومة الرمال، فلتعلموا أنهم فتحوا باب السفينة الفضائية ببسالة، وقفزوا من هوَّة الكون السحيقة. وخلال هذا الخيال فإن اللحظة التي يجب فيها القفز عن السطح تستدعي توتراً وتحفيزاً للإرادة. ولعلَّ من الخطأ أن نقطع عليهم رحلتهم الخيالية بصورة حمقاء، لأنهم في هذه الأعمال يشبّون، وكم تهذبت لديهم من الخصال خلال الألعاب.
خامساً: اللعب هو استخدام للمعارف ووسيلة لتدقيقها وإغنائها، وطريق للتدريب، ونمو لقدرات الطفل وقواه المعرفية والأخلاقية: فلكي يبدأ الطفل اللعب (في المخزن) أو (المكتبة) أو (سكة الحديد) لابدَّ من أن يعلم شيئاً عن كيفية عمل البائعين والمشترين، كما لابدَّ من أن يعلم ما يعمله الناس في محطة القطار، ومن يعمل هناك. فإن مراقبة الأطفال لحياة الراشدين وعملهم تسبق لعبهم عادة. فعندما يقود المربي الأطفال في الرحلة ويعرِّفهم على عمل العاملين بورشة الخياطة، ونشاط عمَّال السكك الحديدية وعمَّال الطباعة، إنما يقدِّم لهم إمكانية تكوّن انطباعات محددة عن هذا الجانب أو ذاك من الحياة العملية للناس.
غير أن هذه الانطباعات غالباً ما تكون فجَّة وغامضة، ممَّا يجعل النظر فيها أمراً ضرورياً. ومن هنا يمكن اعتبار الألعاب بالنسبة للأطفال وسيلة لتحليل ما تكوَّن لديهم من انطباعات. وبما أن الأطفال لا يستعيدون في أفعالهم الظاهرة الاجتماعية التي رأوها، فإن أسئلة المربي وملاحظاته وأفعاله تساعد الأطفال على تحليل الانطباع المنعقد، وتكشف لهم عن جوانب الحادثة، التي لم يروها أو لم يدركوها بشكل صحيح عن طريق إدخالها في لعبهم، فالأطفال يستوعبون ظواهر الحياة المعقَّدة حين يتلقون إجابات عن تساؤلاتهم وفي الوقت الذي يجري فيه الدخول في التفصيلات تصبح معارف الأطفال أكثر تعميقاً وترابطاً. كما أنهم يعرفون ما يحيط بهم على نحوٍ أعمق لدى توقفهم عن اللعب تنظيماً تربوياً سليماً ووسيلة فعَّالة لنمو الملاحظة، والذاكرة، والتفكير، والخيال المبدع، والإرادة، عند الأطفال، فالطفل حين يقوم بهذا الدور أو ذاك، فإنه يخضع عن طيب خاطر، للقواعد التي تنظم هذه الشخصية في الحياة. لذا فقد ظهر اتجاه يستهدف توظيف أساليب التربية القائمة على مبدأ اللعب الحر والنشاط الذاتي، لمساعدة الطفل على اكتشاف بعض المهارات، التي لا يستطيع أن يكتسبها من خلال اللعب الحر وحده. وهذا التدخل المقصود في عملية التعلّم يتم بطريق غير مباشر، وذلك بإعداد وتهيئة البيئة التربوية المناسبة، والتخطيط المسبق للأنشطة والخبرات، وتوفر الإمكانات والمواد والأدوات اللازمة لتحقيق الأهداف المنشودة للبرامج والأنشطة المختلفة.
سادساً: إن اللعب في شكله الواسع هو نشاط جماعي: فجميع المشتركين في اللعب يتعاونون فيما بينهم، كما أن لعب الأطفال الكبار الموسَّع يُوَحِّد جميع المشتركين فيه تحت فكرة واحدة. ويحمل كل لاعب قسطاً من الخيال والخبرة والفعالية، لتطوير الفكرة الجماعية، ويخضع في الوقت نفسه للقواعد التي يُمليها عليه الدور الذي أخذه على عاتقه.
ولعلَّ معاناة الأطفال الذين يستهويهم النشاط الإبداعي المشترك، واللعب الذي يعكس الحياة، بكلِّ ما فيها من مغامرات ومخاطر وأفراح واكتشافات هي القاسم المشترك بينهم جميعاً. ومع أن الأطفال يعرفون دوماً أن الكثير ممَّا يجري هو مجرد (تمثيل) أو (اختلاق)، فإن ذلك لا يمنعهم من معاناة مشاعر حقيقية أثناء إسهامهم في حياة الراشدين، التي يلاحظونها وهذا يعني أن ظروفاً ملائمة للغاية تولد في اللعب ومن شانها تنمية العلاقات الجماعية والمشاعر الإنسانية لدى الطفل. كما أنَّ أسمى خصائص الإرادة، وأنبل المشاعر الإنسانية، تتكوَّن في هذه الألعاب، وعلى هذا النحو يصبح اللعب وسيلة فعَّالة من وسائل معرفة الواقع ونمو أفضل صفات الشخصية.(6)

• وظـائف اللعـب :

اللعب هو الفرصة الوحيدة التي يستطيع الطفل من خلالها أن يتصرف بعيداً عن الممنوعات والأوامر والتنبيهات، التي وضعها الآباء والكبار بشكل عام واللعب يؤمِّن للطفل جواً من الحرية، ويهيئ له أن يعيش أحداثاً، رَغِبَ في أن تكون قد حدثت له، ولم تحدث، فتخيَّلها عن طريق اللعب. وفي ذلك يقول عالم النفس «فرويد»: إنَّ الطفل يندفع إلى اللعب نتيجة معاناته الشعور بالنقص. فانعدام قدرته على أن يكون طبيباً أو سائقاً أو مربياً، بشكل فعلي، يدفعه إلى القيام بهذا الدور في اللعب، وفي هذه الحياة الخيالية احتيال الطفل على أهوائه ورغباته. والأطفال يكتسبون من اللعب خبرات ومهارات حركية تعطيهم الثقة بالنفس وتجعل نموَّهم سليماً. فللذين يرغبون أن يروا، دائماً، في ألعاب الأطفال العنصر العقلاني، نقول أن هذا العنصر موجود، فإذا كان الأطفال أثناء جلوسهم على شاطئ النهر، يحلمون في وقتٍ ما أن يبحروا على جناح موجات المحيط الخضراء، فإنهم يتعلمون بدأب كبداية عبور هذا النهر ذاته، الذي يجلسون على شاطئه سباحة، وعندما تغمرهم مياهه الباردة السريعة الجريان، وهذا الطموح يتطلب إرادة قوية، فإنهم يتصورون أنفسهم بحَّارة بواسل. واللعب يكسب الطفل معارف جديدة، وعلى استعمالات متعددة لشيء واحد. فالأطفال لا يقومون بنسخ اللعبة حرفياً مهما كان عدد مرَّات إعادتها كبيراً إنهم في كل مرة يلعبون من جديد وبصورة جديدة، فهنا يسقطون شيئاً ما، وهناك شيئاً جديداً يضيفونه بينما يفصلون في موقع آخر.
ومادامت معالجة الموضوع المختار قائمة، فإن اللعبة تعيش وتغتني بفكر الأطفال وأحلامهم وخيالهم. وعندما يكتمل الموضوع، أي عندما لا يتمكَّن الأطفال أنفسهم من إدخال أشكال جديدة. فإن اللعبة تتوقف وينتهي اللعب. واللعب يساعد الطفل على التخلص من الصراعات الداخلية ويخفف من حِدَّة التوتّر والإحباط. ومن العبث أن نجبر الطفل على القيام بعمل لا ينبع منه تلقائياً، لأنه يكون ضد طبيعته، وبعيداً عن فطرته. وخير مثال على ذلك هو المشاجرات الوهمية، التي يقوم بها الأطفال ويتخيلون، مثلاً أنهم يضربون مَنْ هم أكبر سناً منهم «لعبة المدرسة» التي يقوم الأطفال بدور المعلم والطلاب، ولعبة «بيت بيوت» التي يتقاسم الأطفال فيها أدوراً مختلفة، وكذلك الأماكن فلكلٍ بيته وأشياؤه، وهناك الأم والأب والابن والجار والجارة ومعلمة المدرسة، ويقومون بأفعال مختلفة، وكل ذلك بشكل إيهامي، وفي هذا النوع من اللعب يتدرب الطفل على أدوار مختلفة إضافة إلى نموِّه الاجتماعي.
ويخطئ الأهل حين يمنعون أطفالهم من ممارسة هذا النوع من اللعب الإيهامي، ظناً منهم أنه قد يعلّم الطفل الكذب أو يغرقه في الخيال ويبعده عن الواقع. وهذا طبعاً غير صحيح، لأن اللعب الإيهامي مهم، ولأن الطفل حين يمسك شيئاً يشبه البندقية ويطلق منها النار، أو حين يمسك شيئاً يشبه الإبريق ويتعامل معه على أنه إبريق شاي، إنما يعبّر عن ذلك بشكل رمزي.
والرمزية في التعبير، هي الأساس لكل تفكير ناضج فيما بعد، وبذلك فإن تشجيع الطفل على هذا النوع من اللعب إنما يقدم له فرصة تنمية قدراته المعرفية، التي تُمكّنه من الإمساك بأسلوب التعامل الصحيح مع العالم الواقعي مستقبلاً.
ولأهمية هذا النوع من اللعب للأطفال نقول أيضاً إنه يشبه التمثيل الدراسي إلى حدٍ كبير، فالأطفال يقومون بتوزيع الأدوار، فيما بينهم، ومن ثم يمثلون وهم على بيّنة ومعرفة بخصائص الشخصية التي يؤدونها، أي أن اللعب الإيهامي هو نوع من التدريب على التفكير الإبداعي، وقد وجد العلماء أن الأطفال الذين يلعبون هذا النوع من اللعب، يتسم سلوكهم بالجدّية والتعقيد والتنوعِ والمرونة، وتحمّل التناقض، وهي جميعاً صفات سلوكية لازمة للإبداع.
ولقد أكد المربي والخبير بنفسية الطفل (ماكارنكو) مايلي: «يصعب عليك أن تتصور موضوعاً لم يكن قد طرحه الأطفال».
ولم تعد القضيّة تكمن في أية مواضيع يتم عرضها على الأطفال، فليست هناك مواضيع محرَّمة، بل كيف تطرح عليهم هذه المواضيع، فبصورة مفهومة وواضحة يمكن أن تتحدث مع الأطفال عن الحياة في كل أشكال ظهورها، حول الخير أو الشر، الكذب أو الحقيقة، الشر أو الخسَّة، الشهامة أو الجبن، فلابدَّ للأطفال من غذاء روحي غني، إنهم في حاجة إلى فن ذي مستوى فكري رفيع، يُربّي فيهم الشعور الجمالي الرفيع ويولّد لديهم الحافز للعمل من أجل تحقيق المثل العليا.
مما تقدم نستنتج أن اللعب كشكل من أشكال النشاط مفيد لبنية الطفل النفسية وضروري أكثر من العمل الجاد، كونه يوجه الطفل نحو معرفة العالم المحيط به عن طريق المشاركة الفعَّالة في عمل الناس وفي حيلتهم اليومية، وفي هذا يكمن الهدف من اللعب، مع أن هذا لم يضعه عن عمد أي من الطفل والراشد نُصْبَ عينيه.
ويمتزج هذا الهدف مع دافع اللعب، لأن الدافع الوحيد الذي يوجه فعالية الطفل نحو ممارسة اللعب، يكمن في النزعة الحَارَّة والجارفة للمعرفة والإسهام الفعَّال في حياة الراشدين وعملهم بما يحملانه من أفعال ورعاية وعلاقات عملية، ويمكن للمربي أن يستخدم اللعب على نطاق واسع كطريقة لتنظيم الخبرة الحياتية للأطفال، وأسلوب لتثبيت بعض قواعد السلوك، عن طريق الفعل وزيادة دقة بعض المفاهيم والقيم الأخلاقية، إذ أن اللعب المنظم يسمح لكل طفل باحتلال منزلة جديدة في جماعة الأتراب في موقف متخيل، ولكنه حقيقي تماماً، ويمكن أن يكون وسيلة لدفع الأطفال نحو تنفيذ الأفعال العملية وتثبيت بعض قواعد السلوك الضرورية. (7)

• الأطفـال .. ينفِّسون عن الطاقـة المخزونة باللعـب :

اللعب هو شغل الطفولة الشاغل في السنوات الأولى، وهو وسيلة الطفل في التعرف على ما يحيط به والتكيِّف وفقه، كما يجب أن توكل إليه مسؤولية جمع لعبه ووضعها في مكانها بعد انتهائه من اللعب بها، ويجب أن ينشأ كل طفل على عدم الاعتداء على لعب غيره.
فإذا ما تحدثنا عن أنواع اللعب رأينا أنَّ أوَّلها وآخرها هي الكرة، فهي لعبة شائعة لطيفة قديمة، تنفع مختلف الأعمار، والطفل يستفيد كثيراً من لعبه بالكرات على اختلاف أحجامها وألوانها وأوزانها، إذ تتيح له فرص المقارنة والحكم، وتعينه على تنمية الحذق وضبط النفس والحركة العضلية والعقلية، ولعلَّ الكرة هي اللعبة الوحيدة التي تحتفظ بمكانتها لدى المرء حتى في كبره.
وعقب السنة الأولى يبدأ الأطفال في الميل إلى اللعب والمكعبات والصناديق وينزعون أغطيتها، فإذا تقدموا في العمر قليلاً أخذوا يحاولون إحكام تلك الأغطية - فمن الخير أن يتوفر للصغار من الصناديق والمكعبات، كبيرها وصغيرها، ما يعبثون به، أو يرصفونه هندسياً، أو ما يُدْخِلون فيه ويُخرِجون، ولو كان في ذلك بعض السقطات التي قد تؤذيهم.(5)

• اللعـب لدى الأطفـال ضرورة :

مع تطور الزمن تتطور المفاهيم التربوية ولأن الإنسان هو الأساس فإن المرحلة الأولى من عمره.
الطفولة تأخذ حيزاً مهماً من اهتمام علماء التربية والنفس والاجتماع الأمر الذي ينعكس بشكل نظريات وآراء مختلفة وسنتحدث في هذا الموضوع عن دور اللعب في تنمية قدرات الطفل حيث يلجأ الأهل بعد عناء يوم كامل من العمل المتواصل إلى الاستقرار في المنزل فيجدون الأصوات والضجيج من قبل الأطفال، فلا ينفك الأهل من مطالبة أطفالهم بالهدوء والتزام الصمت التام، متغافلين طاقة الطفل الذي يبحث بدوره عن التسلية والمرح، فالطفل لديه طاقة لابدَّ من استغلالها في وقت اللعب لكن الهدوء والسكينة الذي ينشدهما الأهل يمنعان الطفل من ممارسة حقوقه، لذلك يجب على الأم أن تتذكر أنَّ طفلها يلهو في وقت اللعب وأن هذه الفترة ضرورية لتنمية قدراته رغم انزعاج الأهالي، وإن إحداث الضوضاء أمر طبيعي للتنفيس عمَّا بداخله، فالطفل مليء بالحيوية والنشاط والانطلاق الذي يبدو بوضوح خلال أوقات اللعب، ولعلَّ عمر الخمس سنوات بداية انطلاق الطفل الحقيقية للّعب والمرح ولابدَّ من معرفة طاقات الطفل وميوله كما أنَّ الأولاد لا يختلفون بطبيعة الحال عن الفتيات فالأولاد أقرب إلى العنف والألعاب التي تعتمد على الحركة وصرف الطاقة المخزونة على عكس البنات اللاتي يقضين وقتاً ممتعاً في الرسم والخياطة أو حتى ألعاب التسلية البسيطة.
ويَعْتَبِر الأهل والكثيرين من المربين أن انصراف الأطفال للعب عبارة عن شيطنة يتمنون لو استطاعوا تخليص أطفالهم منها فاللعب برأيهم تبديد للجهد والوقت في ما لا طائل من ورائه وهذا الموقف يتعارض مع طبيعة الأمور من جهة ومع النتائج التي انتهت إليها الدراسات والبحوث في الشرق والغرب على حدٍّ سواء من جهة ثانية ذلك أن اللعب نشاط رئيسي من أنشطة الأطفال بل أن اللعب صنو لطفولة مرادف لها إذ لا يمكن أن نتخيل الأطفال إلاَّ وهم منهمكون في ألعابهم المختلفة يمرحون ويتصايحون ويتضاحكون ويغنون ويتنافسون.
ويرى (مكارنونكو) وهو أحد أعلام التربية البارزين أن اللعب في حياة الطفل يحمل نفس الأهمية التي ينطوي عليها العمل في حياة الكبار فكيفما يكون الطفل في اللعب فإنه سيكون كذلك إلى حدٍّ بعيد في عمله عندما يكبر، لذلك تنشأ تربية الشخصية مثل كل شيء في اللعب بل أن تاريخ الفرد كشخصية ربما نتصوره في نمو اللعب في الانتقال التدريجي من هذا الشكل الطفولي للنشاط إلى العمل ومن ثم تربية الطفل من حيث تكوين شخصيته ينبغي أن لا تقوم على استبعاد اللعب من حياته وإنما على حُسْن تنظيمه بحيث يؤدي إلى تكوين الخصائص البنائية للطفل في نموه وبرأي (ماكارنكو) أن جماعة الأطفال التي لا يجد الطفل فيها الفرصة ليلعب هي جماعة غير حقيقية.
ولعلَّ الذي دفع أساطين التربية لتبنِّي هذا الموقف هو إدراكهم لأهمية ما يسديه اللعب من فوائد في النمو الجسمي والانفعالي والوجداني والمعرفي والاجتماعي والجمالي.(7)

• التنظيم والتوجيه أثناء اللعـب :

لا داعي لوضع لائحة من الممنوعات أمام الطفل ولكن المراقبة المنظمة والحرص الشديد في المتابعة أثناء اللعب أفضل الطرق لحماية الطفل من الحوادث كأن نهيئ مكاناً خاصاً للعب واختيار الألعاب المسلِّية وفقاً لعمر الطفل وإفساح المجال أمامه للحركة والتنقل حتى لو أحدث صوتاً.
فعلماء النفس يجمعون على أن الطفل الذي يلقى وقتاً كافياً من اللعب نجده أكثر ذكاءً وإدراكاً من الطفل الذي ينقصه وقت للعب والانطلاق. مع ضرورة مشاركة الطفل لمعرفة ميوله ومواهبه مع الانتباه إلى أمور يجب مراعاتها أثناء لعب الطفل، كأن لا نترك المجال للعب في المطبخ وأن نساعده في اختيار الألعاب غير الحادة والمؤذية، ومراقبته من بعيد للتعرف على عالمه الخاص، ومحاولة إبعاد القطع الزجاجية والتحف السهلة الكسر والكهربائيات والأسلاك عن طريقه أثناء اللعب وتجواله في المكان، وإذا ما أردنا إبلاغه بخفض صوته الذي كثيراً ما يعلو فيجب محادثته بأسلوب مريح وأَلاَّ نلجأ إلى توبيخه، وإنما تركه على سجيته كي يحرق الطاقة المخزونة لديه، فليس هناك طفل لا يحب اللعب وإنما تتفاوت الأنشطة والمهارات والطاقة.
وحين نذكر اللعب فإننا نقصد اللعب المنظم والموجَّه بطبيعة الحال لإيماننا بأن اللعب العفوي والتلقائي على أهميته وفائدته لا يمكن أن يرقى لمستوى اللعب المنظَّم والموجَّه إذ أنَّ الخبرات التي يكتسبها الأطفال خلال اللعب التلقائي تبقى رهينة الظروف مما يجعها فقيرة إلى القيم النمائية والتربوية بل وهنا تكمن الخطورة.
قد تحمل تلك الخبرات في طيَّاتها انطباعات خاطئة وتصورات مشوَّهة ومعلومات مناقضة للحقيقة ربما أدَّى تراكمها إلى رسوخها ومن ثم إلى الانحراف بالمسار النمائي للطفل فيتجه وجهة سلبية مما يؤدي إلى حدوث خلل في التكوين النفسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي لديه، فاللعب بحدِّ ذاته لا ينطوي على أهمية تربوية ما لم يُنظَّم ويوجَّه وما لم يوظَّف لخدمة أهداف مرسومة ومهما بالغ البعض بأهمية الخبرات العرضية وهي مهمة بلا شك، تلك الخبرات التي يكتسبها الطفل من جراء اتصاله بالواقع وتفاعله مع البيئة المحيطة فإن تحقيق النمو السليم والمتوازن يجب أن يتم وفق خطة مرسومة بعناية تأخذ بعين الاعتبار خصائص النمو واتجاهاته وتعمل تلبية الحاجات الأساسية عند الطفل ولن يتحقق ذلك إلاَّ إذا تم في إطار نشاط تربوي منظم وهادف يشغل اللعب مساحة واسعة وأساسية فيه لأنَّ اللعب كما سبق وأَكّدنا، حاجة أصيلة لدى الطفل، وبفضل التنظيم والتوجيه يغدو وسيطاً تربوياً ومدخلاً وظيفياً للنمو والتعلّم والتعليم. فهو بالتأكيد يحتاج إلى الاهتمام والرعاية وأوقات اللعب إحدى الخطوات المهمة في حياته، فهو دائماً يبحث عن الجديد ولديه فضول كبير لأن يعرف كل ما بجري حوله.(8)

• مظـاهر التفـوّق :

وقد أثبتت الدراسات الميدانية أن الأطفال الذين كان اللعب يشكِّل جانباً مهماً من نشاطاتهم المدرسية قد تفوَّقوا على أطفال آخرين لم يوظَّف اللعب في تربيتهم ولم يُعطَ نفس الأهمية في برنامجهم المدرسي، ومن مظاهر هذا التفوّق: نمو مهارة جمع وإعداد الأشياء والقدرة على التعبير بواسطتها عمَّا يجيش في صدور وعقول الأطفال من اهتمامات وأفكار، كما أن هؤلاء الأطفال قد تفوَّقوا في القدرة على التعبير عن النفس بواسطة الرسم الحر وبواسطة اللغة إذا أثبتوا مقدرة لغوية متغيرة من حيث تأليف الجُمَل المفيدة أو من حيث تنظيم الأجوبة أو من حيث غنى الثروة اللغوية التي يمتلكونها، كما أبدى هؤلاء الأطفال تفوقاً في إقامة العلاقات الاجتماعية مع الآخرين واكتساب السلوك الناضج، كما لوحظ نمو روح التعاون والتكامل والانسجام مع الآخرين لديهم وتفوقهم في أداء الكثير من المهارات الحسيَّة الحركيَّة بإتقان.(3)

• ممـر إلى المسـتقبل :

تطرَّقنا في البداية إلى أن الأهل والكثير من المُرَبِّين يعتبرون اللعب نشاطاً هدفه اللهو وتبديد الجهد والوقت فيضعونه على الطرف المناقض للعمل ويُلحّون على ترسيخ قيمة وجدانية في أعماق الأطفال ومؤدَّاها أن العمل هو الأساس والأهم وهم يقصدون بالعمل هنا الواجبات المدرسية من جهة وما قد يُكلِّف الأهل أبنائهم من مهام من جهةٍ ثانية، إن هؤلاء في موقفهم سالف الذكر إِمَّا أَنهم غير مطَّلعين أو أنهم يضربون بنتائج البحوث والدراسات عرض الحائط.(4)

• قيمـة اللعـب :

إن قيمة اللعب لا تكمن في نوعيَّة المادة التي صنعت منها ولا في مدى شهرة المؤسسة التي صممتها أو أنجزتها بل إِنَّ كل القيمة تكمن في الأبعاد التي ترمي إليها والقيم التي تحملها، لذا، فإن أيَّ محيط حقيقي، ومهما كانت بساطته الظاهرية يمكن أن يكون مجالاً مهماً وثرياً للعب، إلاَّ أن المُربّي هو الذي يعطي للعبة قيمتها الحقيقية، من خلال الطرق التي سيعتمدها في تحديد المجال اللعبي، ويبقى الوعي بقيمة النشاط المنجز هو المُحَدِّد الأساسي له، فلا مجال للعجز أمام الافتقار الظاهري الذي تشكو منه بعض المجتمعات غير المصنِّعة لوسائل اللعب العصرية، ولا فائدة تُرجى من وراء التهافت الرهيب على اقتناء ما تروّجه الأسواق الاحتكارية العالمية، أما التجاوز فإنه ممكن بفضل قوة الإرادة التي يجب أن يتحلى بها المُربّي وكذلك بفضل قدرته على الاستنباط والابتكار.(7)

• تنميـة القـدرات الحسيّـة :

ومما لا جدال فيه أن اللعب يتيح الفرصة المناسبة واللازمة لتدريب العضلات بشكل سليم وتدريب الجسم على أداء دوره بشكل فعَّال كما أنه يشكل الوسيلة المريحة والأكيدة لتفريغ الطاقات الزائدة التي يمتلكها الطفل والتي إن تُركت كامنة لديه جعلته متوتِّراً قلقاً يعيش تحت وطأة حالة عصبيَّة مُضنية ومرهقة كما أن اللعب يؤدي إلى تحسين النشاط الحركي ويُمكّن الطفل من أداء المهمات وإنجاز الحركات المعقدة، ثم إنَّ الطفل في سياق اللعب يفهم إمكاناته ويتعرَّف على قدراته الجسدية ويتمكن بالتالي من السيطرة على جسده وإخضاعه لمعايير معينة. وتقوم رياض الأطفال والمدرسة الابتدائية بدورها في هذا المجال إِذْ تُساهم بإكساب الأطفال المهارات الجسدية الحسيَّة والحركية الضرورية من خلال مناهجها المختلفة لاسيما من خلال دروس التربية البدنية ودروس الرسم والأشغال والكتابة والموسيقا وغيرها، وتتجه النيَّة الآن لإدخال مادة العمل اليدوي في منهاج المدرسة الابتدائية.(2)

• الأسس النفسيَّة والاجتماعية لألعاب الأطفال :
والألعاب أساس النمو العقلي والنفسي لدى الأطفال، وكما قال بعضهم: «الطفل الذي لا يلعب فاقد للحياة»، حيث تقام الأسس النفسيَّة لهذه الألعاب على ضمان الأهداف التالية:
- إرضاء دوافع الطفل وحاجاته النفسيَّة، كالحرية والنظام والأمن والحل والتركيب والقيادة والاجتماع.
- تهيئة الطفل لاكتساب القدرة على التلقي والتعلُّم وتنمية أدوات الترميز كاللغة والحركة.
- إتاحة الفرص للطفل للتعبير عن حاجاته وميوله ورغباته.
- تمكين الطفل من مواكبة خبراته ومراقبة نفسه ومتابعة أطوار نموِّها، حيث تُمكن اللُّعب والألعاب الطفل من تطوير قدراته وطاقاته العقلية والإدراكية، وهي تضمن المؤهلات التالية:
- تنمية القدرة على الفهم.
- تنمية الحواس وتدريبها على الإدراك والتعقل.
- توفير فرص الابتكار والإبداع.
- تنمية قدرات الطفل على التفكير المُسْتَقِلْ.
- توفير فرص الانتقال من العمليات العقلية إلى نواحي النمو المختلفة.
هذا وترتكز هذه الألعاب على ضمان الأبعاد الاجتماعية التالية:
- الانتقال من الفردية إلى الجماعية.
- الانتقال من الفردية السالبة إلى الروح الجماعية الموجبة.
- المشاركة الوجدانية والتضامن والمنافسة والطَّاعة.
- القيام ببعض الأدوار الاجتماعية والإيجابية.(6)

• تفهـم القـيم والأخـلاق:

تؤكد الدراسات ولاسيما علم النفس التحليلي أَنَّ الكثير من أنماط السلوك والمواقف الأخلاقية إنما تستمد أصولها من الأنشطة والممارسات السلوكية التي يعيشها الطفل في سنوات مُبكِّرة من حياته، وإذا كان الأهل والمُربّون والراشدون عموماً يحاصرون الطفل بقائمة لا تكاد تنتهي من التوجيهات والنصائح والأوامر والقيم والمعايير والالتزامات من باب افعل هذا.. ولا تفعل ذاك، هذا حَرَامْ، وهذا عيب إلاَّ أنَّ الطفل ومن خلال اللعب وهو السلوك العملي الذي يناسبه يكون أكثر قدرةً واستعداداً لتفهّم القيم واستيعاب المبادئ الأخلاقية خاصة من اللعب الجماعي حيث يدرك الطفل أهمية، أن يكون نزيهاً وعادلاً ومتعاوناً وموضع ثقة وأهمية، أن يبقى لاعباً في حالتي الربح والخسارة وأن يكون قادراً على ضبط انفعالاته إذا أراد أن يكون عضواً مقبولاً في جماعة اللعب.(2)
مما تَقَدَّم نجد أن اللعب كشكل من أشكال النشاط مفيد لبُنية الطفل النفسيّة وضروري أكثر من العمل الجاد، كونه يوجّه الطفل نحو معرفة العالم المحيط عن طريق المشاركة الفعَّالة في عمل الناس وفي حياتهم اليومية وفي هذا يكمن الهدف من اللعب، مع أن الهدف الذي ينشده الطفل والراشد لم يضعاه عن عمد نصب أَعينهما، وإنما هو دافع يمتزج مع الهدف من اللعب، ويكمن في النزعة الحَارَّة والجارفة للمعرفة والإسهام الفعَّال في حياة الراشدين وعملهم، بما يحملانه من أفعال ورعاية وعلاقات عملية، ويمكن للمُربّي أن يستخدم اللعب لتنظيم الخبرة الحياتية للأطفال.(1)

 

مجلة عالم الطفل

JoomShaper