التركيز الكبير على "قضيّة المرأة" في الخصومة التاريخية ضدّ التيّار الإسلامي، وفي ردود الفعل عليها، يستدعي الحديث عن هذه "القضيّة" تخصيصا، ولا ينفي هذا التخصيص أنّ الحديث عن المرأة هو الحديث عن "جزء عضوي" من ذواتنا ومن قضيّتنا هذه، لا ينفصل عن سواه، سواء دار بعض جوانبه حول مسائل تتعلّق بالمجتمع، أو الأسرة، أو العمل السياسي، أو حول حاضنة وطنية مشتركة. هو حديث "كلّنا مع كلّنا"، وإن ورد حينا على ألسنة بعضنا من الرجال، وحينا آخر على ألسنة بعضنا الآخر من النساء.
والأفكار أو الخواطر التي تحملها الفقرات التالية، لا ترقى إلى مرتبة حديث فقهي أو اجتهاد، ولا تنفي وجود تحرّك فقهي إيجابيّ فعّال بأقلام إسلامية تتجاوز ما تطرحه السطور التالية، إنّما تستهدف أن يضع التيّار الإسلامي نفسه أمام مسؤولية الاجتهاد القويم لبيان ما يرتبط بالمرأة من مشروعه الحضاري المستقبلي، ومن إسهامه للالتقاء مع الآخر على أرضية مشتركة لبناء لمستقبل، وهذا ما يُعتبر ميدانُ الحقوق الإنسانية والحريات أحد محاوره الرئيسية.
الانحراف في "قضية المرأة"
أوّل ما بدأ الانحراف في التعامل مع المرأة تحت عنوان "قضيّة المرأة"، كان بحلحلة العروة الوثقى التي تربطها بقضيتنا الأشمل، قضية الإنسان وحقوقه وحرياته، كما لو كان ممكنا التعامل مع المرأة في طريق منفصلة عن التعامل -بما يتجاوز جانب التخصّص إلى الفصل الموضوعي- مع مشكلات معاناة الإنسان على صعيد التقدّم والتخلّف، والثراء والفقر، والعلم والجهل، والمرض والصحة، والحرية والاستبداد، أو كأنّنا عندما نتحدّث عن المرأة، لا نتحدّث عن أنفسنا، وبالتالي عن جزءٍ ثابتٍ من أسرنا ومن مجتمعنا ومن وجودنا.
بداية الانحراف في الغرب
باتت المرأة وفق الدعوات والدعوات المضادة تحت عناوين التحرير والمساواة وما شابه ذلك كائناً آخر، علاقتُها بالرجل علاقة صراع، لا يدور بينهما بل يدور حولها هي وعليها، أو حول "القدْر" الذي يعطيه هو تطوّعا أو تنتزعه هي انتزاعا، من الحقوق والحريات الإنسانية، وهي في الأصل حقوق وحريّات ثابتة، سارية لجنس الإنسان، فليس منها ما يمكن اعتباره منحة تُعطى لأحد ولا مكسبا يُغتصب اغتصابا، ولا ينبغي التعامل معها من هذا المنطلق.
يجب أن يكون الحديث عن المرأة حديثا عن قضيّة مشتركة، ولا ينبغي القبول بتحويله إلى حديث رجال عن تحرير حقوق المرأة، وكأنّهم من جنس الإنسان وليست منه، ولا إلى حديث نساء عن ثورة على الرجل، وكأنّ الثورة عليه لا تعني الثورة على الذات في المجتمع الواحد المشترك، وقد كان أسوأ ما يُطرح في قضيّة المرأة، في هذا الإطار، ذاك الذي فرّق ما بين قضايا المرأة وقضايا الرجل، عبر مزاعم تتجاوز الفوارق الطبيعية بينهما، فأوجد فوارق "قيميّة"، وابتدع عناوين ذكورة وأنوثة، فتحوّلت القضيّة برمّتها إلى مسألة الدفاع عن المرأة الأنثى ضدّ مجتمع ذكوري!.
دون تجاهل المظالم القائمة، كان الانحراف في التعامل مع المرأة ولا يزال مرتكزا على اصطناع قضيّة لها منفصلة عن قضية الإنسان. وهو جزء من الانحراف الأوسع والأشمل، الناشئ عن النظرة إلى حقوق الإنسان وحريّاته وواجباته مادّةً لصراع جبهات، يكسب الأقوى فيها ما يكسب ويخسر الطرف الأضعف، بدلا من الانطلاق في تصوّراتنا، ومناهجنا، ووسائل فكرنا وإعلامنا وتربيتنا، من أنّ الحقوق والحريات والواجبات، أصيلة ثابتة، تولد مع الإنسان يوم تلده أمّه، المرأة العزيزة الكريمة الحرّة، حرّا كريما عزيزا، وليست مسألة معركة من بين معاركنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولا ينبغي بحال من الأحوال أن يكون تحصيل تلك الحقوق والحريّات الإنسانية مقتصرا على الجهة التي تملك أسباب القوّة أكثر من سواها.
لقد أدّى طرح ما يرتبط بالمرأة طرحا منفصلا عن قضيّة الإنسان وحريّاته وحقوقه، إلى وضعها تحت منظار "حزبي" أو "سياسي" أو "شخصي"، ووضعها في محور تنافسٍ على ما يمكن أن يضيفه هذا الموقف أو ذاك إلى رصيد التيّار الذي يتبنّى القضية، أو الحزب أو الجماعة أو الزعيم، فضلا عمّن لا يريدون رؤية القضية إلاّ من خلال عدسة مقعّرة أو محدّبة، ما بين تشدّد في الفكر والسلوك، يشمل نظرة صاحبه إلى المرأة، وبين تسييب وانحلال، يشملها أيضا.
واعتمادُ عنصر الصراع القائم على القوّة في تثبيت الحقوق أو تضييعها، أدّى عموما، وليس فيما رُبط بالمرأة فقط، إلى ما نرصده من خلل في النتائج، ناجم عن خلل موازين القوّة المنتشر في سائر المجتمعات، فولّد الخلل ما لا ينقطع من مظالم أصابت العمال، والأطفال، والناشئة، والسود، والملوّنين، وسواهم من الفئات الأضعف في المجتمع، من الجنسين، أمّا النساء فقد أصابتهنّ المظالم الناجمة عن الخلل مضاعفة، في إطار التعامل معهنّ في قضية قائمة بذاتها، وفي إطار التعامل معهنّ مع سواهنّ تحت عناوين أخرى.
لم نعد نتحدّث عن "قضية المرأة" لتوظيف ما نتحدّث به في مصلحة المرأة، بل أصبحت "قضية المرأة" هي التي تُوظَّف لخدمة مصلحة ما، يستهدفها الحديث عنها.
حوّلنا المرأة نفسها إلى قضية، ففصلنا المرأة عن ذاتنا "الكليّة"، فحوّلنا قضيّتها تلك لخدمة مصالحنا على أصعدة أخرى، وحوّلنا التعامل معها إلى صراع، والصراع إلى مجرّد كلام. ثم كان الأسوأَ سلوكاً ونتيجةً من هذا كلّه، تعميمُ نظراتنا المتعدّدة إلى ما نسمّيه قضية المرأة، ووضعها تحت أضواء كاشفة من صنع شعارات مختزلة، لا تضيء الدروب بقدر ما تبهر الأبصار، فلا توصل إلى غاية نبيلة ولا تحقّق هدفا كريما، للمرأة أو المجتمع عموما.
قد تختلف الشعارات المرفوعة وتتناقض ولكنّ الحصيلة واحدة، سيّان هل كانت هذه الشعارات إيجابية أم سلبية، ومعبّرة عن هذه الاتجاه أو ذاك، فلم يعد يوجد فارق كبير بين شعارات من قبيل شعار "حقوق المرأة"، الذي يرفعه أناسٌ بأسلوب مَن يحتكر لنفسه بضاعة يملكها، رغم زعمهم أنّها بضاعة القواسم المشتركة بين الأسرة البشرية جمعاء في عالمنا المعاصر، ذكورا وإناثا، وشعارات أخرى من قبيل ما يقترن بادّعاءات أصحابها أنّهم هم الذين يدافعون الدفاع "الحقيقي"، عن الحقوق "الحقيقية" للمرأة، وعن "صيانة" المرأة، باسم الإسلام!.
تقصير شامل مشترك
لا يمكن بناء علاقات إنسانية مستقرّة على أساس تعميم النظرة القائلة إنّ ما تحصل عليه المرأة من حقوق تنتزعه انتزاعا من الرجال، فكلّ صيغة من صيغ حصولها على حقوقها هي كسب مشترك للمرأة والرجل، لجنس الإنسان، وللمجتمع بكافّة أفراده وفئاته.
وكان من المفروض ببلادنا و"نخبها" أن تستفيد من تجربة الغرب الذي طُرحت للمرأة فيه قضية على أرضيّة الصراع، فكانت الحصيلة بعد زهاء قرنين أنّها لا تزال مهضومة الحقوق على أرض الواقع الذي تصنعه جولات الصراع، والمختلف آنذاك بالضرورة عن الصيغ الموضوعة في مواثيق ومبادئ وقوانين. فلا نجد بعد أكثر من سبعة أجيال مرّت على ألوان شتّى من الصراع، إلاّ نسباً متدنيّة لوجود المرأة في مراكز توجيهية عليا، سياسية واقتصادية وقضائية ومالية وفكرية، مقابل ارتفاع نسب وجودها إلى أكثر من النصف في أماكن العمل الإنتاجي، المرهِق وغير المرهق، وإلى أكثر من تسعين في المائة في ميادين الدعارة والإباحية. ومن تلك الحصيلة أيضا أنّ "الإناث" يمثّلن النسبة الأعلى من ضحايا سائر أصناف الجرائم والاعتداءات التقليدية والمبتكرة، لا سيّما ذات الخلفيّة الجنسية، على نقيض سائر ما كان يتردّد من أنّ "التحرّر الجنسي" يحمي المرأة من عدوان يصتعه "الكبت الجنسي".
ومن أوهن الردود المنتشرة عند ذكر أمثلة من تلك الحصيلة قول بعضهم إنّ مثل ذلك الإجرام أو ما يشابهه موجود في بلادنا "الإسلامية" أيضا، ولا يواريه سوى تغييب الإحصاءات أو العزوف عن طرح المشكلات، فكأنّ هذا ينفي العلاقة الوثيقة بين منطلقات الغرب في "قضية المرأة" ونتائجها، أو كأنّ هذه الردود تكفي لتحميل الإسلام بالذات، وهو الذي سبق تغييبه على معظم الأصعدة لحساب "التغريب"، عن وجود تلك المشكلات وانتشارها في المجتمعات القائمة في بلادنا بغالبيتها من المسلمين، بدلا من تحميل المسؤوليّة "التغريب" وما صنع.
هي ردود من قبيل المزايدة وليست من قبيل البحث في جوهر المشكلات، فلا ينبغي التوّقف طويلا عندها.
إنّّ غلبة التقليد الأعمى بدلا من الاستفادة الإيجابيّة من تجربة الغرب بتقويمها وتقويم حصيلتها، لا ينفي أنّ التعامل مع المرأة في بلادنا، يستدعي الانطلاق من المعطيات فيها، من أنّ لنا في جميع بلادنا ومجتمعاتنا محاور حضارية وتاريخية وموازين ومعايير ذاتية، أضعنا الانطلاق منها في معظم قضايانا، فكان ذلك جزءا من أسباب أنّنا، في البلدان العربيّة والإسلاميّة إجمالا، مقصّرون، رجالا ونساء، في مختلف الميادين، ومن ذلك ميدان المرأة. وهو تقصير شامل واسع النطاق، فنحن مقصّرون في حقّ المرأة المواطنة، لا في مسألة حقوقها السياسيّة فقط، والمرأة الإنسان لا في نطاق بعض المظالم داخل الأسرة فحسب، في حقّ المرأة الأم، والزوجة، والبنت، والأخت، في حقّها ربّة بيت أو عاملة، ناشطة في المجتمع أو منزوية على نفسها، مقيّدة دون مسوّغ للتقييد أو منطلقة رائدة في شتّى المجالات، في حقّها وهي مقلّدة لسواها دون تفكير، أو وهي قاعدة عن بذلِ أيّ جهدٍ إبداعي.
مقصّرون ومخطئون ليس في جانب واحد، أو تجاه "عيّنة" محددة، بل هو التقصير العامّ رغم كثرة الكلام، وبعضه يتقمّص رداء الدفاع عن المرأة، وبعضه ينطوي على الإمعان المجحِف في ظلمها، هذا مع إدراكنا أنّه لا يوجد بين هذين الجناحين المتطرّفين، عنصر واحد من العناصر لإلحاق الظلم بالمرأة "وحدها" دون الرجل، ولا العكس، فجميع ما يضيرها قسطٌ لا ينفصل عمّا يضير المجتمع، كما أنّ ما يضير المجتمع يضيرها، فهي جزء عضوي منه، وهو قائم عليها وعلى الرجل معا.
وليس ميدان العلاقة بين الجنسين ما بين الانفلات والضوابط، والاستغلال والتوجيه، والقيم والمادّة، سوى ميدان واحد من ميادين الجنوح في تلك المظالم تسييبا وتشدّدا، تمييعا وتطرّفا، وصاية مزيّفة وأخرى مثلها، وإن تبدّلت الكلمات والألوان بين الفريقين.
وليس الميدان السياسي للحقوق والحريات والواجبات، من ترشيح وانتخاب ومناصب وما يتبع ذلك، سوى وجه واحد من وجوه التقصير، رغم التركيز عليه في الكتابات الفكرية وبعض الجولات الانتخابيّة أو شبه الانتخابيّة، بينما كان التركيز العمليّ في مختلف ميادين الحياة على سائر ما يرتبط بالقيم والأخلاق، تحت عناوين تحرير المرأة الذي انصبّ في النهاية في "تحرير" العلاقات بين الجنسين في الدرجة الأولى من مختلف الضوابط لها، المفترض أن يسري مفعولها على الجنسين وليس على المرأة فقط.
إنّ المحور الأهمّ الذي لا ينبغي أن تغيب فيه الشعارات ولا الأهداف الواضحة والجهود المتواصلة، هو أنّ أيّ مطلب من المطالب، لن يستقيم مضمونه ولن يحقّق الغرض منه، إلاّ إذا تبيّن نظرياً وممارسةً أن محور التعامل مع المرأة في الساحة السياسية مثلا، لا يقوم بالتركيز على منظور أنّها امرأة، بل في إيجاد الساحة السياسية المغيّبة أصلا، ومع سائر ما تعنيه الكلمة من حقوق ومسؤوليات وقضاء وحريّات، ومع إدراك أنّ جميع ذلك هو من الحقوق الأصيلة الثابتة للإنسان، جنس الإنسان، من رجال ونساء، من أصحاب الانتماءات الحزبيّة والتيّارات المتعدّدة ومن الممتنعين عن الانتساب إلى تلك الانتماءات والتيّارات، على السواء، ممّن يصل إلى منصب من المناصب ومَن لا يصل.
أولويّات أساسية
التقصير الشامل والانحراف الكبير في التعامل مع المرأة يجعلان الخروجَ بالمرأة من مختلف ألوان المظالم التي تصيبها، شبه مستحيل دون التعامل مع المسائل المرتبطة بها من منطق أنّها جزء من قضية الإنسان في بلادنا، ولا يمكن أن تستعيد المرأة حقوقها وحرياتها المغتصبة اغتصابا، إلاّ من خلال:
1- التخلّص من مقولات زائفة محورها أنّ المرأة تتحرّر عندما تكون كالرجل، وتصنع ما يصنع الرجل، وكأنّه ليس لها قيمتها الإنسانية الذاتية كامرأة، والأصل هو أن تحرّرها مرتبط -كالرجل- بأن يستعيد الإنسان، رجلا وامرأة، حقوقه وحريّاته الإنسانية.
2- والتخلّص من مقولات مضلّلة تربط تحرير المرأة بحقوق سياسيّة على وجه التخصيص، بدلا من بيان أنّ الحقوق السياسيّة جزء من حقوق الإنسان الأساسيّة الثابتة، فمختلف أشكال حرمان المرأة من المشاركة في صناعة القرار السياسي هو جزء لا ينفصل عن مختلف أشكال حرمان فئات كبيرة في المجتمع من المشاركة في صناعة القرار، والمطلوب هو تحرير الحقوق السياسيّة من قبضة الاستبداد، لتكون كما هي في الأصل جزءا من تكوين الإنسان، رجلا وامرأة، ومن تكوين المجتمع، بنسائه ورجاله.
3- والتخلّص من انحراف يربط قيمة الإنسان، رجلا أو امرأة، بمنصب يتولاّه أو مهنة يمارسها أو عمل يؤدّيه، بدلا من تأكيد القيمة الذاتيّة للإنسان، وتأكيد القيمة الذاتيّة للعمل، فالإنسان مكرّم بكونه إنسانا، رجلا أو امرأة، وحقوقه مرتبطة بتمكينه منها، في الموقع الذي يصل إليه، بطاقاته ومواهبه وميوله وظروفه الذاتية، وللعمل قيمته في مختلف الميادين، فلا يُحجر عن إنسان، ولا يجبر إنسان أيضا عليه، عبر ما يُصنع من عوامل اجتماعية واقتصادية وتربيوية قاهرة، كما لا تُحصر قيمة الإنسان بنوعية الموقع الذي يشغله، ولا بالاتجاه الذي يتبنّاه ويدعو إليه.
إنّ مشكلة الحقوق السياسية مثلا ليست بالنسبة إلى المرأة -ولا الرجل- مشكلة مناصب، بل مشكلة حرمان شامل ومشترك، لا يقف عند حدود المناصب ولا الكلمة، وإلاّ فكيف نستثني من الظلم السياسي حقيقة عدم مشاركة الأبوين، الأمّ والأب على السواء، وهما خارج نطاق السلطة السياسية، في تقرير مناهج تعليم أبنائهم وبناتهم، وعدم مشاركة المواطنين عامة، رجالا ونساء، فيما يتقرّر بثّه أو حظره على الشاشة الصغيرة داخل بيوتهم هم، وكذلك عدم مشاركة العمّال من الذكور والإناث، في تقرير ظروف العمل التي يشتغلون فيها، وجميع ذلك وأمثاله هو من صميم ما تصنعه السياسات؟..
يمكن المضيّ في الأمثلة إلى سائر ميادين الحياة فجميعها تشمله كلمة "السياسة" وجميعها ميادين معنية بالحقوق السياسية، وجميعها لا تقتصر المظالم فيه وإن تفاوتت درجاتها وتباينت أشكالها على الرجال دون النساء ولا النساء دون الرجال، وفي جميعها يتعرّض الإنسان في بلادنا للظلم والحرمان، وما كانا لينتشران لولا استقرار أوضاع شاذّة بمختلف المقاييس، ودعنا هنا مِن حديث مَن يتحدّثون عن مقاييس "بشرية مشتركة" أو مَن يتحدثون عن مقاييس "خصوصيّة حضاريّة"، فقد بات هؤلاء وهؤلاء لا يصنعون أكثر من لفت الأنظار والأفهام عن جوهر المشكلة.
قد يخالف كثير ممّا سبق نظرة بعض التيّارات الأقرب إلى تبنّي "قضية المرأة" بتاريخها ومجراها فكرا وتطوّرا في الغرب، ولكن هل يخرج عن نطاق نظرة إسلامية يراد هنا الإسهام في طرحها من منطلق التيّار الإسلامي وما ينبغي أن يساهم فيه على صعيد أرضية مشتركة لعمل مشترك؟.
انحراف في توظيف ضوابط القيم
المسلمون عموما والإسلاميّون الذين يمثّلون التيّار الإسلامي تخصيصا، والذين يؤكّدون غالبا أنّ الإسلام حفظ للمرأة حقوقها، مقصّرون -كسواهم- في طرح قضيّة التعامل مع المرأة من حيث الأساس، أي باعتبارها جزءا من قضيّة الإنسان في بلادنا، ومقصّرون علاوة على ذلك في طرح ما يرتبط بالمرأة من المنطلق الإسلامي طرحا منهجيّا، رغم كثرة ما كُتب في ذلك، فقد كان معظمه -بغضّ النظر عن المحتوى والصواب والخطأ فيه- أقرب إلى ردود أفعال على ما يطرح الآخر، ويراد نقضه أو تقديم بديل عنه، ويعلم كثير منّا بتقصيرنا، وكثيرا ما يُوارى التقصير بضرب من الإنكار والمكابرة، جهلا أو تجاهلا.
أصبح فينا من يعلن الانطلاق من الإسلام دينا ومنهجا للحياة والحكم، ولكن يسمع القرآن الكريم أو يقرؤه فتتحوّل الكلمات في فكره وآرائه إلى المعنى الذي يحبّ، لا المعنى الظاهر في اللفظ، والمعنى الثابت في تفسير معتمد واجتهاد معتبر، وكم سمعنا الخطاب في كتاب الله عزّ وجلّ: يا أيّها الناس.. يا أيّها الذين آمنوا.. يا أيّها الإنسان.. يا بني آدم.. فكان ذلك، وأمثالُه كثيرٌ في كتاب الله تعالى، يدخل إلى أفهامنا واعين أو غير واعين، ونتداوله في أحاديثنا ومواقفنا وكتاباتنا، قاصدين أو غير قاصدين، وكأنّنا قرأنا أو سمعنا: يا أيّها الرجال، فقط!..
وقد نقرأ: ((إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ))-10 الزمر- فلا يستقرّ في أذهاننا مباشرة، أنّ الأجر العظيم سيكون من نصيب النساء الصابرات، والرجال الصابرين، على السواء، أو أنّنا نفهم دونما سند شرعيّ صبرَ النساء تحمّلا للقيود، مختلفا عن صبر الرجال تحمّلا للمشاقّ!.
وكم سمعنا في خطب الجمعة والدروس الدينية وغيرها مَن يقرأ قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ))-6 التحريم- فيسارع مَن يستشهد بالآية إلى "شرحها" ليقول تلقائيا ما معناه، إنّ على "الرجال" أن يحافظوا على أزواجهم وبناتهم وأبنائهم وبيوتهم.. إلى آخره، ولا يكاد يستشهد أحد إلاّ نادراً بالآية نفسها للقول إنّ على النساء أن يحافظن على أزواجهنّ وبناتهنّ وأبنائهنّ وبيوتهنّ، وقاية لأنفسهنّ ولهم من النار، وكأنّنا لا نعرف بوجود بيوت يفوق فيها إيمان المرأة إيمان الرجل، وعلمها علمه، وتقواها تقواه، وقدرتها على التربية والتوجيه قدرته.
إنّ القرآن الكريم لم ينزل للرجال فقط، ولم يخاطب الرجال فقط، ولا يسري ما يسري فيه على الرجال فقط، ولكن ليس هذا الذي نادراً ما نرددّه بوصفه "بدهية" لا تحتاج إلى دليل، هو ما يسري فعلا في أفكارنا ومعاملاتنا وواقعنا لا كلامنا فحسب، وإن زعمنا لأنفسنا المعرفة بالإسلام ودعونا إليه، مثلما زعم خصومه معرفته على نحو مشابه، أي بدعوى أنّه يخصّ الذكور لا الإناث، فخاصموه!..
وعندما نستشهد بآيات نصّت على ذكر الرجال والنساء مباشرة، أو الذكر والأنثى دون تمييز، فغالبا ما نحصر مقتضاها بميادينِ تَساوي القيمة خَلقا وتكوينا، والمسؤوليّةِ الذاتية طاعة وعبادة، والحسابِ في الآخرة جنّة ونارا، ولا يمتدّ ذلك إلى تطويع ما نطرح في ميادين التعامل مع الرجل والمرأة في المجتمع المشترك، وميادين الحياة والحكم فيه، إلاّ نادرا.
إنّ الأصل في كلام الله تعالى أنّه لا يُقيَّد أو يخصَّص دون قرينة، وأنّه غير موجّه إلى الرجال دون النساء ولا العكس، إلاّ في مواضع استثنائيّة محدودة، فكيف يتحوّل الاستثناء إلى أصل، والتعميم إلى استثناء؟
أوّل ما ينبغي تثبيته في تصوّر إسلامي عن مستقبل بلادنا، ندعو الآخر إلى التعامل على أساسه مع التيّار الإسلامي، هو أنّ المجتمع مؤلّف من رجال ونساء، وأنّ ضوابط القيم مطلوبة التزاما وإلزاما، بما يسري على الرجال والنساء، وهذا على النقيض ممّا أصبح يؤخذ من كثير من وجوه التطبيقات العملية لشعار "ضوابط القيم"، في الخطب والكتابات، وفي الأطروحات العمليّة على صعيد قضايا العمل والسياسة والإبداع الأدبي والفنّي.
كأنّ ضابط غضّ البصر مثلا، يَفرض على النساء ألاّ يلفتن الأنظار بمظهرهنّ ومواضع ظهورهنّ، ولا يسري بصورة مقابلة معاكسة على الرجال.
كأنّ الضوابط كضابط الأخلاق في حالة الاختلاط تستدعي حجرَ ظهور المرأة حيث يعمل الرجال، بينما لا يمكن تصوّر دعوة رجل إلى الامتناع عن العمل حيث لا تتوافر ضوابط كضابط الأخلاق في حالة الاختلاط.
كأنّ ما شاع وصفه بالأوضاع المشينة في العمل السياسي، أو الفنّي، أو سواه، يسوّغ حجر الانخراط في شيء من ذلك على المرأة، كما في الترشيح والانتخاب وتقلّد المناصب، مقابل أشدّ درجات الاستغراب لو قيل إنّ على الرجل أن يتجنّب أيضا ذاك الذي يوصف بأوضاع مشينة!.
إنّ التعامل فيما يشبه شارعا باتجاه واحد مع ضوابط القيم كما يدعو الإسلام إليها، جعل كثيرين ممّن يرفعونها شعارا، يتصرّفون بردود الأفعال تشدّدا وتشنّجا، على صعيد التعامل مع المرأة تخصيصا، وتجاه من يعملون على التحلّل من القيم والأخلاق باسم التحرّر، ولا يقرّ الإسلام بردود الأفعال دون المبادرة، مثلما أنّه لا يقرّ بذلك التحلّل المفتقر إلى الضوابط!..
التشدّد قرين التسييب
لا يكفي بمقاييس الإسلام -والحديث هنا هو عن القسط المطلوب من التيّار الإسلامي في أرضية مشتركة للعمل- أن يزعم أحدنا أنّه يصنع ما يصنع تنفيذا لأمر الدين، وغيرة على المجتمع، أو غيرة على النساء فيه. ولا تُقبل في الإسلام، الوسطي كلّه، المعتدل كلّه، أيّ "مزايدة" عليه عن طريق تبنّي أحكام متشدّدة، فهي لا تزيد من إسلام المسلم ولا بمقدار حبّة خردل، إنّما تزيده إيمانا وإسلاما عودتُه وإخضاع نفسه وفكره وأحاسيسه لمرجعيّة النصوص، وجميعها معتدل ميسّر.
لا تصحّ تلك المزايدة ولا تتفق مع إسلام مسلم ذي عقل وبصيرة أو مسلمة ذات عقل وبصيرة، بل الرجوع إلى الإسلام المعتدل الميسّر هو الدليل على العقل والبصيرة.
ولا يغني أحداً في حال التشدّد إشباعُ المسألة بحثا والإحاطة بها علما، فالتشدّد بحدّ ذاته، سيّان هل لبس لباس التعميم أو لباس البحوث، متناقض مع الإسلام نفسه، بوسطيّته واعتداله وتيسيره وسائر ثوابته، وفق نصوص ثبّتها ربّ العالمين مع تنزيل الوحي، وهو القائل جلّ وعلا ((وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ))-78 الحج- ((يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ))-185 البقرة- وفهمها كبار الفقهاء الأوائل فكانت المصدر لتثبيت قواعد أصوليّة تشريعيّة عديدة، مثل "الحرج شرعا مرفوع"، "الضرورات تبيح المحظورات"، "لا ضرر ولا ضرار" وغيرها.
نعلم أنّ في الوحي التكريمَ للبشر جميعا، لبني حوّاء وبنات آدم على السواء، كما نعلم أنّه قد هلك المتنطّعون، كالمسيّبين، وأنّ النصوص القرآنية والنبوية ساوت في التحذير والترهيب والوعيد، بين من يحرّم المباح ومن يبيح الحرام، ففي هذا وذاك على السواء جرأة مرفوضة، على الدين والتشريع والفتوى، إلاّ من كان العلم مصدره ومرجعه والتقوى مسلكه وضمانته، وكان يدرك كلّ الإدراك أنّ الله جلّ وعلا هو أشدّ غيرة على دينه، وعلى المسلمين من النساء والرجال، من سائر خلقه، رغم ذلك يميل كثيرون إلى التشديد في التحريم، في التعامل مع ما يرتبط بالمرأة تخصيصا، ويعتبرونه تحت عنوان "الأحوط"، هو الإسلام "الأفضل" و"الأصحّ"!..
والمسيّبون في دعوتهم إلى التحرّر من ضوابط القيم، الناشئة عبر التاريخ الحضاري الذاتي، يساهمون عبر استفزازاتهم في نشر ردود فعل مرفوضة، من قبيل التشدّد الذي يزعمون محاربته، ويتجاهلون أنّ البديل عن ضوابط القيم بصورة متوازنة معتدلة، هو الضياع. وهذا ما يسري على أيّ مجتمع من المجتمعات، بما يعود بالخسارة على سائر عناصره من رجال ونساء، وأطفال وناشئة، وشباب ومسنّين، وقد استحال في الغرب التعويضُ عن منظومة القيم القائمة على المراقبة والمحاسبة الذاتيّتين، أو الوازع الداخليّ الصادر عن العقيدة، بضوابط القانون والنظام.
هذه الاستحالة هي ما تشهد عليه الأزمات الكبرى في عالمٍ انتشر فيه الاعتداء على الإنسان بمختلف أشكال الاعتداء، بدءا بألوان الإدمان مرورا بألوان الاغتصاب والاستغلال الجنسي، وانتهاء بجرائم القتل، ممّا ينال من الفئات الأضعف أكثر من سواها، من الأطفال والناشئة، والشيوخ والمعاقين، علاوة على الإناث أكثر من الذكور داخل البيوت الأسروية نفسها، وفي مكان العمل على اختلاف مستوياته، وفيما يسمّى تجارة "الرقيق الأبيض"، المزدهرة كما لم يُعرف من قبلُ عن أيّ عصر من العصور.
إذا كان ميدان "الحقوق السياسية" وميدان "ضوابط القيم" قد شهدا أكثر من سواهما أسلوب رفع الشعارات فوق ألوان التعامل مع المرأة باسم خدمة "قضيّة المرأة"، بعد أن فُصلت عن جذورها وأُلبست لباس التغريب من جهة والدفاع ضدّ التغريب من جهة أخرى، فإنّ معظم ذلك أخذ طريقه إلى أسلوب "الصراع" المستورَد من الغرب أيضا، عبر ثغرة الحديث عن "حقوق المرأة" في ميدان العمل، بطريقة مشابهة تعتمد على الشعارات أكثر من المضامين.
وكم من صاحب قلم أو لسان جعل "عمل المرأة" شعارا فزعم أنّ العمل في السوق والدائرة والمصنع "حقّ من الحقوق" يحتكره الرجل لنفسه، وليس واجبا من الواجبات المفروضة عليه، كما زعم بلسان حاله إن لم يكن بمقاله، أنّ تربية الأمّ لأطفالها، بحنانها المتميّز، وقيام ربّة البيت على شؤون بيتها بنفسها، هي أعمال "مهينة ممتهنة"، وتلك نظرة مريضة، تجعل قيمة تلك الأعمال دون قيمةِ ما يمكن أن تمارسه المرأة في المصانع والمكاتب وسواها من ساحات العمل. بل هي نظرة مريضة تتناقض مع أصحابها عندما يطالبون الرجل بأداء هذه المهامّ أيضا من بعد "امتهانها" فكيف يدفعونه إلى تلبية هذا الطلب طوعا؟.. أم أنّ المطلوب عبر ذلك الامتهان أن تشعر المرأة الأمّ والمرأة ربّة البيت بالعار والمهانة والمذلّة؟..
بل يمضي أصحاب تلك الشعارات والمزاعم شوطا أبعد، فالأمّ إن حرصت على دور الأمومة رافضةً ما يريدونه لها، وربّة البيت إن أبت ما يقولون وفضّلت دارها على السوق والمصنع والدائرة -دون حجر حقّ الخروج عليها- هي عندهم امرأة شاذّة، أو رجعيّة متخلّفة، أو أنّ "الإسلاميّين" يغرّرون بها، أو سوى ذلك ممّا ابتكروه من النعوت والاتّهامات، التي كثر انتشارها مؤخّرا مع الانتشار الطوعي الواسع النطاق لظاهرة اللباس الإسلامي، تحت عنوان "الحجاب"!..
بالمقابل يقف لهؤلاء بالمرصاد فريق آخر دخل الميدان أيضا بأسلوب "جولات الصراع في ساحة قتال"، وليس بأسلوب التعامل مع جانب من الجوانب الاجتماعية المشتركة التي ينبغي النظر فيها نظرة منهجية موضوعية، فمضى يكيل الصاع صاعين، فهو لا يرفض اعتبار عمل المرأة حقاً -وليس واجبا- فحسب، بل يراه محظورا أصلا، ولا يكتفي بتأكيد القيمة الذاتيّة العالية لرسالة المرأة الأم وربّة البيت فقط، بل يميل إلى تحريم خروج المرأة من بيتها إلا لضرورة قصوى.
وبعض هؤلاء يردّد قول من قال إنّ أفضل وضع للمرأة هو "أن تخرج من رحم أمّها إلى بيت أبيها ومنه إلى بيت زوجها ومنه إلى قبرها"، ويبدو أنّ الصحابيّات الكريمات رضي الله تعالى عنهنّ لم يُرِدْن لأنفسهن ذلك الوضع، "الأفضل!" بمقياس مَن يكاد يحسب نفسه أحرص على المسلمات من الإسلام نفسه، أو كأنّ علينا أن نكون- بدعوى "صيانة المسلمة" اليوم من الزائغين والضالّين والفاسدين والمفسدين في عصرنا هذا- أحرصَ عليها من الصحابة في العهد النبوي، بوجود قوم كان منهم رأس الكفر أبو جهل ورأس المنافقين عبد الله بن أبي سلول!..
إنّ للشعارات بريقا وصخبا، ولهذا فكثيرا ما يطغى ضجيجها -وإن انحرفت- على ما سواه، فلا يظهر -للأسف- الصوت الموضوعيّ المعتدل بين تلك الأصوات بقوّة كافية، ورغم ذلك نحسب صوت الاعتدال الموضوعي هو الأوسع انتشارا والأرسخ أساسا، ولا نعني به موقفا وسطا بمعنى "اختيار حلول وسطية" على منتصف الطريق بين طرفين، وبغضّ النظر أيّهما أقرب إلى الحقّ والصواب، إنّما يكون الموقف وسطيّا معتدلا، لأنّه لا ينطلق من التفكير أو عدم التفكير بمواجهة طرف آخر أصلا، فلا يتأثر بمفعول ردود الفعل التلقائيّة، وإنّما ينطلق ابتداءً من صميم ما يصلح للمجتمع، والمرأةُ أحد أعمدته الرئيسية، وممّا يصلح للبشر، وفق ما ثبّته دين الوسطية والاعتدال.
مثال "عمل المرأة"
من أهمّ سمات الموقف الإسلامي المطلوب بصدد عمل المرأة مثالا على سواه، فيما نقدّر:
1- أنّه لا يرى في عمل المرأة واجبا مفروضا عليها في سائر الأحوال والظروف..
2- كما أنه لا يعتبر العمل محظورا على المرأة في سائر الأحوال والظروف..
3- ويدعو إلى تأمين الشروط المناسبة للعمل عموما، أي ليس باعتبار هذا الهدف مقتصرا على مسألة "عمل النساء"، وإنّما لأنّ كلّ فئة من فئات المجتمع العاملة، تختلف عن الأخرى من حيث الظروف الملائمة لها والتي تحتاج إليها، فالحرص على شروط مناسبة للمرأة حيثما وُجدت في ميادين العمل، شبيه -أو ينبغي أن يكون شبيها- بالحرص على شروط عملٍ وظروفٍ خاصّة لفئة العاملين في المناجم من الناحية الصحية مثلا، ولفئة الموظفين في مؤسسات مالية من حيث الاحتياطات الأمنية، وكذلك الظروف الخاصة لعمل المتقدّمين في السنّ حيثما عملوا، وللمتدرّبين في مطلع الشباب حيثما تدرّبوا، وهكذا مع سائر فئات المجتمع.
إنّ الواقع القائم في الغرب يشهد على نشوء مشكلة مستعصية على الحلّ، هي أنّ المرأة التي قيل إنّها امتلكت "حق العمل"، وجدت نفسها واقعيا قد "حصلت" على واجب، أصبح مفروضا عليها فرضا، شاءت أم أبت، تحت تأثير معطيات وظروف قاهرة، اقتصاديا واجتماعيا، ويعلم مَن عايش المجتمع الغربي معايشة مباشرة لفترة زمنية كافية، ولم يكن مصدرُ "تصوّراته" زيارات قصيرة أو ما تعرضه الأفلام ووسائل الإعلام فقط، أنّه لم يعد يسهل على امرأة في الغرب، إذا عجزت عن العمل لسبب ما، أن تعتمد في معيشتها المادية على الرجل أبا أو زوجا أو قريبا، فهي مضطرة إلى العمل اضطرارا، كما لم يعد يسهل على النساء الراغبات في الاكتفاء اجتماعيّا بدور الأمّ أو دور ربة البيت أن يصنعن ذلك فعلا، فالمجتمع الغربي "يزدري" هذه الممارسات ويمتهنها، كما يصنع الناقلون عنه دون النظر في واقعه، إلى درجة أوصلت إلى تناقص عدد سكّانه سنويا، نتيجة العزوف عن الزواج والإنجاب. كذلك فنظام الغرب المالي من حيث الرواتب والأجور قائم على أساس تشغيل المرأة ابتداءً وليس على أساس تحميل الرجل واجب الإنفاق عليها، وباتت توزّع المغريات المالية لإنجاب الأولاد وتربيتهم -دون جدوى- لحلّ المشكلة، ومواجهة ما ترتّب عليها من نتائج، على صعيد تفكّك الأسرة والتناقص السكّاني.
إنّ العمل واجب، فالدعوة إلى عدم إيجابه على المرأة -دون حظره عليها- هو أوّلا وأخيرا من قبيل ترتيب العلاقات الاجتماعية والاقتصادية على أساس عدم وضع المرأة في وضع المضطرة أو المكرهة على العمل طلبا للرزق، ودون أن ينقص ذلك من حقوقها المادية والمعنوية ومكانتها الإنسانية شيئا.
وإن وجوب الإنفاق على الرجل كقاعدة عامّة وليس كقاعدة وحيدة، لا يعطيه قيمة إضافيّة، ولا يبيح له سلوكا استعلائيا، ولا يسلب المرأة قيمة ذاتية، ولا يفرض لها موقعا دونيّا، فلا ينبغي أن يؤخذ ذلك بأسلوب التشنّج مصدرا لطرح شعارات من قبيل رفض "الأدوار التقليدية" بين النساء والرجال، بل إنّ هذا الطرح المتشنّج لا يختلف مثلا عن ربط القيمة الإنسانيّة الذاتية بالفارق بين عمل الطبيب وعمل الحدّاد في المجتمع الواحد المشترك.
كذلك لا يصحّ بالمقابل التشنّج الملحوظ في حديث بعض أوساط الإسلاميين عن عمل المرأة في ميادين معيّنة، بدعوى أنّ الإسلام يُحلّ لها هذا ويُحرّم ذاك، ولا يوجد في واقع الأمر ما يسمح بتخصيص التحريم والإباحة بعمل المرأة فقط لأنّها امرأة، إنّما نجد مثلا:
1- أنّ الإسلام يحرّم الخبائث كصناعة الخمر وكلّ ما يذهب العقل، فيحرّم الاشتغال في ذلك على الرجل والمرأة دون تمييز.
2- وأنّ الإسلام يحرّم الاختلاط الإباحي -إذا استوفى شروط التحريم- في إطار العمل وخارج نطاقه، ويسري هذا التحريم على الرجل والمرأة دون تمييز.
3- والإسلام يحرّم الغش، في إطار العمل وخارج نطاقه، فلا يقتصر التحريم على فئة التجّار دون الأطباء، كما أنّه لا يقتصر على الرجال دون النساء، ولا هو محرّم في المصنع وغير محرّم في البيت.
4- والإسلام لا يفرض العمل المرهِق على الإنسان الأضعف جسديا، رجلا كان أو امرأة، ولا يرى العمل الذي يتطلّب حنانا وعاطفة وحساسيّة مرهفة مناسبا لرجل لا يتميّز بهذه المواصفات، ولا يراه مناسبا لامرأة لا تتميّز بها، وإن غلب أنّ النساء أقرب إلى التميّز بهذه المواصفات عموما من الرجال.
5- والإسلام يطالب بإتقان العمل، ولا يحصر ذلك في صنعة بعينها أو مهنة دون سواها، بما فيها "المهن" السياسية فهو مطلوب مثلا من الوالي على الرعية وقد عُرف الولاة بالمصطلحات السياسية التاريخية الإسلامية بأنّهم "عمّال" الخليفة، والإتقان مطلوب من عامّة المسلمين رجالا ونساء.
6- والإسلام يطالب بالإبداع في كلّ ميدان، وبضوابط القيم في كلّ ميدان، فليس ما يدعو إلى تجنّبه فيما يُسمّى الإبداع حديثا، ما يخصّ الرجال دون النساء أو النساء دون الرجال.
لا تكمن المشكلة في العمل بحدّ ذاته بل في ظروفه وشروطه، فالمرأة "يمكن" أن تعمل ملتزمة بمعايير الإسلام عندما تتوافر الظروف المناسبة، الملزمة للرجل أيضا، وعلى هذا الأساس لم تكن المرأة غائبة عن أيّ ميدان من ميادين المجتمع الإسلامي الأول، بما في ذلك ميادين العمل.
إنّ بعض الذين يريدون تغييب المرأة عن مختلف ميادين العمل في المجتمع ويقولون إنّهم يستندون في ذلك إلى ما يريده الإسلام:
1- يتلون كتاب الله عزّ وجل عن المرأة المجادلة التي سمع الله قولها من علياء سمائه فأنصفها في جدالها مع نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، عندما تحرّكت في المجتمع الإسلامي الأول متبنيّة قضيتها "القانونية" بنفسها، أي في ميدان "التشريع"!..
2- ويقرؤون الأحاديث الشريفة من قبيل حديث الفتاة الشابّة المسلمة التي اعترضت على الملأ أن يزوّجها أبوها بمن لا ترغب، وكان ذلك أشبه بتنظيم "مظاهرة" فرديّة بمفاهيمنا المعاصرة، وقد أفصحت عن غايتها أنّها أرادت أن تَعلم بنات المسلمين بهذا الحقّ الاجتماعي القانوني!..
3- ويستشهدون في كتاباتهم وخطبهم بأدوار الصحابيات المشاركات في الجهاد مع الرجال في معركة أحد وسواها، في التمريض وفي القتال، أو الصحابيّات المشاركات في الشورى في مثل قضية صلح الحديبية باعتبارها من قضايا "الحكم والعلاقات الدولية"، وفي أداء مهامّ أمنية من العيار الأول كما كان في الهجرة النبوية الشريفة!..
إنّ ظهور المرأة في مختلف الميادين في المجتمع الإسلامي لا يحتاج إلى اجتهاد جديد، بل يحتاج إلى تطبيق مباشر لِما كان ساري المفعول من الأصل، وإلى بيان الظروف والضوابط المطلوبة، والسعي لتأمينها دون تشنّج، مثلما يوجب الإسلام علينا أن نفعل أيضا في ميادين أخرى، كالنهوض العلمي، أو تقويم المناهج المدرسية، أو سوى ذلك!..
أمّا التخويف من عمل المرأة إطلاقا بدعوى الحرص على تجنّب أخطاء قد تقع، فإنّ مثل هذا التشدّد في "دين التيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير، والوسطيّة لا التنطّع "، هو بحدّ ذاته من أكبر الأخطاء التي نقع فيها.
ونعلم -عندما لا يكون الموضوع المطروح هو موضوع "المرأة"- أنّ وقوع الأخطاء لا نأخذه ذريعة لمنعٍ أو حظر، وإلاّ لوجب حظر ظهور الرجال في أيّ مجال من مجالات الحياة، فأخطاؤهم لا تنقطع!..
ولا ينبغي لمسلم أيّاً كان في مجتمعنا المعاصر، أن يستند إلى أنّ "هذا المجتمع أصبح بعيدا عن تطبيق الإسلام"، كما تقول مواقف بعض المتشدّدين، كي يزعم لنفسه الغيرة على النساء المسلمات، أكثر مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسـلم، فيمنع ويحظر، وما منع الرسول صلى الله عليه وسلّم ولا حظر، وكان عهده هو عهد التشريع الأول، وكان المجتمع الذي تحرّك الرعيلُ الأوّل من المسلمين فيه هو المجتمع الذي حفل بألوان المخاطر والمفاسد والمؤامرات والمكائد، فلقد ضمّ المنافقين واليهود في الداخل، وأحاط به المشركون الكافرون من كلّ صوب، وما استدعى ذاك ولا أكثر منه في حينه حبسَ النساء في البيوت، ولا مَنَعَ من أن يتحرّك بلال رضي الله عنه على سبيل المثال، وسط صفوف المسلمات المصليات يوم العيد، ليجمع تبرّعاتهن، ولا منع أن تقدّم عائشة رضي الله عنها الضيافة لضيوف النبي صلى الله عليه وسلّم، وهذا ما كان الأمر عليه مع المرأة المجادلة على الملأ، والناصحة من بعدُ لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن يتّقي الله في الرعية، فكانت مقولته أفلا يسمع عمر لامرأة سمع الله لها من علياء سمائه؟!
منذا يأخذ لنفسه اليوم، بعد انقطاع الوحي، أن يحظر على المرأة بدعوى حمايتها وصيانتها، ما أباحه الوحي من المشاركة في الرأي والعمل والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى وإن تعرّضت -على سبيل المثال- لمثل ما تعرّضت له ذات النطاقين من الأذى على يد أبي جهل، أو ما تعرّضت له أمّ المؤمنين من حديث الإفك، وما من نساء المسلمين مَن هي أكرم على المسلمين اليوم من أسماء وعائشة رضوان الله عليهما، عند الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم!..
وإنّنا -في التيار الإسلامي- لا نخدم الإسلام ولا الدعوة إليه وتمكينه في الأرض، بتحويل أصل من الأصول الفقهية القويمة المعتبرة، مثل "سدّ الذرائع" إلى ذريعة من الذرائع التي يستهين بعضنا في استخدامها وهو يسدّ الأبواب في وجوه أبناء المجتمع المسلم وبناته، وهذا في مرحلة حاسمة من البناء الذي يستدعي تعبئة سائر الجهود والطاقات، ومع عدم إغفال قابلية وقوع أخطاء وتقويمها وتصويبها وفق ما علمناه من بناء المجتمع الأول في المدينة المنورة، بمشاركة المسلمين رجالا ونساء، بل مع وجود غير المسلمين آنذاك جزءاً من المجتمع المشترك أيضا.
وإذا كنّا لا نحمل من المنطلق الإسلامي ووفق حقائق التطوّرات التاريخية الثابتة عبر العقود الماضية، المسؤولية الأولى عن السلبيّات فيما وصلت إليه أوضاع المرأة وأوضاع المجتمع بأكمله في تلك الحقبة، فإننا نحمل المسؤولية الأكبر عن التقصير حتى الآن في طرح الشروط الموضوعية الضرورية لتجاوز تلك الحقبة والوصول بالمرأة وبالأسرة وبالمجتمع إلى المكانة المرجوّة، بمختلف المقاييس، ومن المنطلق الإسلامي بمقياس اعتقادنا أنّنا نعيش في عالم يفتقر إلى رسالة الإسلام أشدّ افتقار، ونحمل المسؤولية عن مستقبله بين يدي الله تعالى ثمّ أمام التاريخ والأجيال المقبلة.
نبيل شبيب
موقع مداد القلم