عرض كتاب "الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة ".. للأستاذ محمد البدري
- التفاصيل
لها أون لاين
واقع الأمة الإسلامية اليوم هو واقع أمة ماتت أو كادت أن تموت، فان المنهاج المنشود لتغيير هذا الواقع، لابد أن يكون منهاج"إحياء شامل" يجد للأمة أمر دينها علما وعملا ودعوه وجهادا، حتى تسترد عافيتها وتدرج علي طريق الرشد من جديد.
ولكي يظهر في الأمة ذلك المنهاج للإحياء الإسلامي، لابد من"معالم" مرشدة، توفر الجهود وتطلق الطاقات...تحكم خطي الأمة وتوجه سير أفرادها... هذه المعالم يحاول الكاتب الأستاذ "محمد محمد البدري" أن يرسمها من خلال كتابه "الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة".
حتى يغيروا ما بأنفسهم
ويبدأ الباب الأول من الكتاب تحت عنوان: "الفرقان الإسلامي..وانطلاقة الإحياء"، حيث يتناول قضية تغيير النفس كمنطلق وسنة كونية للنهوض .. فنحن ـ أولاً وأخيراً ـ مسؤولون عن هزائمنا، وتخلفنا الحضاري. ومرفوضة كل محاولة تسعي إلي اتخاذ ممارسات الأمم الأخرى مشجباً لتعليق هذه الهزائم وتبريرها"، بل كل من يحاول أن يزحزح مسؤوليتنا عن عاتقنا ليضعها علي كاهل الغير، هو في الحقيقة يلحق بنا الضرر ويؤخر خروجنا من مرحلة (القصعة) التي نعيشها اليوم والتي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعي الأكلة إلي قصعتها " قالوا أمن قله نحن يومئذٍ يا رسول الله قال: " أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل...) رواه أبو داود وغيره وصححه عدد من العلماء منهم الألباني.
إن سنه الله وشرعة السماء (غيّر نفسك تُغَيّر واقعك)، ولكنها ليست سنه (فرد) وإنما سنة (مجتمع) و(أمة)، بمعني أنه وإن كان التغيير ينصب علي الذات في إطارها الفردي بالدرجة الأولي، لكنه لا يؤتي ثماره المرجوة إلا إذا انسحب علي الأمة والقوم، فالله عز وجل يقول : {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } الرعد11 فالآية تربط التغيير بتغيير ما (بقوم ).. و (أمة) وليس فرداً واحداً.
و تغيير ما بالنفس يبدأ أولا بتغيير الأفكار، فسلوك الأفراد في مجتمع من المجتمعات ما هو إلا الترجمة العملية لما يؤمنون به من أفكار، ولهذا نجد أن المجتمعات تتقدم أو تتخلف تبعاً لنوعيه الأفكار التي يعتنقها أفرادها " فصحة المجتمعات أو مرضها أساسهما صحة الفكر أو مرضه"... المجتمعات التي تدور في فلك الأفكار الصحيحة، تتفوق علي تلك التي تدور في فلك الأفكار الخاطئة، كما كان حال الأمة المسلمة الأولي في صدر الإسلام وتفوقها علي مجتمعات الرومان والفرس وغيرها.
لقد قامت الأمة الإسلامية الأولي علي الفكرة والعقيدة، فكانت أرحب في آفاقها من الدم والأرض والإقليم،.. وكانت فكرتها التي قامت عليها ما قاله ربعيّ بن عامر حين دخل علي رستم قائد الفرس في مجلسه فسأله: ما جاء بكم ؟فقال: "الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عباده العباد إلي عباده الله.. ومن ضيق الدنيا إلي سعتها. ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام" راجع البداية والنهاية، للإمام إسماعيل بن كثير الدمشقي، الجزء السابع، أحداث سنة أربع عشرة من الهجرة، غزوة القادسية.
وهذه هي (الفكرة) والرسالة التي تحملها أمتنا ..أمه (الفكرة).
إن الأفكار الخاطئة، والمفاهيم المنحرفة تُشَكِّل أمتنا شبكه واسعة، تبدأ من العقيدة وتنتهي بالسلوك، مروراً بالعلاقات الاجتماعية والمواقف السياسية. ويمثل هذا الإخطبوط الذي يمد سيقانه إلي كل مجالات الحياة، يمثل قيوداً وأغلالاً تمنع الأمة من التحرك إلي التغيير، ولن يضع عن هذه الأمة إصرها والأغلال التي صارت عليها إلا الأفكار الصحيحة والمفاهيم الواضحة الصافية ولذلك فلابد من تصحيح الأفكار والمفاهيم المنحرفة ومنها :
- مفهوم أن لا إله إلا الله. كلمه تطلق في الهواء وأنها ليس لها مقتضيات!!
- مفهوم العبادة، وانحصارها في شعائر التعبد. بينما هي غاية الوجود الإنساني كله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}سورة الذاريات.
- فكرة الجبر، التي تسلب الإنسان إرادته، وتجعله غير مسؤول عن رأيه أو ما يصدر منه.
- فكرة الخضوع لأي سلطة مهما كان طريقها في الحكم علي اعتبار أنها أولي الأمر!!....فإذا استقرت المفاهيم الصحيحة في قلوب الأمة، كان ذلك هو بداية الانطلاقة القوية لتحقيقها في صوره واقع بشري يختلف اختلافاً أصيلاً وكلياً عن واقع البشرية اليوم.
هوية الأمة الإسلامية
ويتناول الباب الثاني من الكتاب قضية تفعيل هوية الأمة، فالأمة إذا فقدت (هويّتها)، فقدت معها استقلالها وتميزها، وفقدت بالتالي كل شيء لأنها تصبح بلا محتوي فكري أو رصيد حضاري، فتتفكك أواصر الولاء بين الأفراد، وتنهار شبكة العلاقات الاجتماعية في الأمة، وتموت الأمة.
لقد بلور الإسلام (هوية الأمة الإسلامية) ومنح أفرادها (الجنسية) الإيمانية، فاجتمعوا حول الإسلام وربط بينهم حبل الله كارتباط الجسد الواحد. ولم يستطع الغزو العسكري أو الفكري أن يحكم الأمة الإسلامية بغير الإسلام، إلا في ظل سياسة العصا الغليظة، والاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والأنظمة الجبرية، حيث تلغي إنسانية الإنسان، وتطارد حريته، وتصادر هويته !!. واليوم يبقي الإسلام هو ( وحده ) المنهج الذي يمثل خصائص الأمة ومنطلقاتها الاعتقادية وأهدافها الحضارية..ذلك أنه هو (هوية الأمة الإسلامية).
تقوم (الهوية) في أية أمة من الأمم بدور (المعامل الحضاري) الذي يمتد عمودياً في أعماق الإنسانية، لكي يبعث فيه الإحساس بمسؤولية عن تقدم أمته، فَيُفَجّر طاقاته في ذلك السبيل. ويمتد أفقياً في الأمة لتصب جهودها في المسالك الصحيحة التي تنسجم مع آمال الأمة وطموحاتها.
ولاشك أن الهويّة التي تنطبق مع الخيار الحضاري للأمة الإسلامية هي (الهويّة الإسلامية) . ولذلك فإنه عندما طرح زعماء العلمانية الهويّة (الوطنية) كبديل للهويّة الإسلامية، حدث في الأمة (فراغ اجتماعي)، وأدي هذا الفراغ إلي ظواهر (الاغتراب) وفقدان الانتماء للأمة، وفي ظل الاغتراب أصبح العقلاء والحكماء من الأمة غير قادرين علي التأثير في حركتها، وصارت الكلمة للسفهاء، وصار الحكم للأراذل، فكان الفساد العريض، والجهود الضائعة، والطاقات المستنزفة!! وصارت الأمة إلي التبعية الذليلة. وهكذا لم يصبح أمامنا من سبيل لإخراج أمتنا من التبعية إلي الريادة إلا عبر (إحياء) الهويّة الإسلامية، وإيجاد (المشروع الحضاري الإسلامي)؛ ليكون ذلك سبيلاً إلي استقطاب أفراد الأمة، وملء الفراغ الاجتماعي، لتزول ظواهر الاغتراب، ويتولي (أولو الألباب) قيادة الأمة. وتصبح (الهوية الإسلامية) حافزاً للتغيير، ودافعاً للفاعلية، وهاجساً لصنع الحضارة.
التربية الشاملة
ويركز المؤلف من خلال الباب الثالث في كتابة على تأكيد أن تفعيل الهوية لا يكون إلا من خلال تربية إسلامية شاملة. يحتوي الإسلام علي نظم وأحكام في كل ناحية من نواحي الحياة، ويعطي تصوراً شاملاً لعملية التغيير الحضاري. وهو نظام يختلف في طبيعته وفكرته عن الحياة، ورسائله في تصريفها، يختلف في هذا كله عن النظم الغربية العلمانية التي تتصف بالجزئية والنظرة الأحادية.
ومن هنا، فالإسلام يتعامل مع مشكلات الأمة الإسلامية بكل مناهجه الفكرية، وتربيته السلوكية، وتشريعاته الاقتصادية والسياسية ...إلخ، وكل (جزء) من الإسلام يعالج ( جزءاً ) من مشاكل الأمة. ومن ثم يصل بالأمة – بل والمجتمع البشري – إلي حياة متوازنة وحضارة متكاملة تُعَبّر بصدق عن فطرة الإنسان وكيانه الشامل.
لا تستطيع الأمة الإسلامية حمل رسالتها للعالم، وإخراج من شاء الله من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده. لا تستطيع ذلك إلا برجال من رجالها يبلغون دعوة الله، ويؤدون أمانته، ويقاتلون بمن أطاعهم من عصاهم حتي يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده؟!
ولاشك أن السبيل إلي بناء هذا الصنف من الرجال، وإحياء الأمة هو التربية العميقة الهادئة التي تصل بها قضايا الإسلام إلي القلوب، فتستعلي بأصحابها علي الشهوات والأهواء، وتكون حركتهم طبقاً لحدود الله، فيصمدون في وجه كل قوي الباطل التي تستهدف الإسلام وأمة الإسلام.
ولكي تصل التربية الإسلامية إلي أهدافها من تربية الفرد وإحياء الأمة، لابد لها من منهاج تربوي شامل يسد الثغور علي فتنة الجاهلية. فيرابط علي ثغر التوحيد، ويدفع عنه شرك الأموات وشرك الأحياء. ويرابط علي ثغر القيم، فيفصل الأمة عن القيم الجاهلية، ويصلها بالقيم الإسلامية. ويرابط علي ثغر الأخلاق فيقوم بـ (الإعداد الأخلاقي) الذي يضمن ـ إن شاء الله ـ اجتياح الإسلام للجاهلية في كل أرض. ذلك الاجتياح الذي كان سبيله الأول ـ ولا يزال ـ التربية الشاملة وإحياء الربانية.
دور الأمة في التغيير
وفي الباب الرابع يتناول المؤلف دور الأمة في التغيير، فالنظام الإسلامي هو النظام الذي يسمح بمشاركة الآمة في التغيير وفي الحكم، ويعد مبدأ الشورى أصلاً من أصول هذا النظام، ولذلك يختلف هذا النظام اختلافاً كلياً وجذرياً مع كل النظم الاستبدادية التي يكون الحكم فيها فردياً، تستقر فيه سلطة الأمر والنهي بين يديّ حاكم فرد، ويغيب فيه دور الأمة في التغيير والحكم.
إن الاستبداد السياسي الذي هو قرين كل نظام سلطوي، لا يتحقق بمجرد تسلط فرد أو حزب أو طبقة علي الأمة، وإنما هو في الحقيقة ينشأ في رحم الأمة عبر أخلاقيات الضعف والخوف، وممارسات الانعزال في دائرة الهموم الفردية، وبفعل ما يسري في الأنفس من استعداد للخضوع وقبول للاستعداد، ومن ثم فإن أخطر ما يتهدد أمة ليس تسلط المستبدين عليها، بل (قابلية) أفرادها للاستبداد.
إن الطلائع المؤمنة ليست بديلة عن جماهير الأمة، ولكنها ذراع هذه الجماهير، وقلبها النابض، وعقلها المفكّر. وهي تري أهداف الإسلام وتسلك السبيل القاصد إلي تحقيقها في واقع الأمة، ولكنها في ذات الوقت لا تغفل عن دور الأمة في الوصول إلي هذه الأهداف، وتدرك أن (الأمة) لا بد أن تكون (حاضرة) و ( شاهدة ) في ساحة المواجهة مع أعداء الإسلام.
الطليعة المؤمنة..وقيادة الأمة
وفي الباب الخامس يبين المؤلف أن الطليعة المؤمنة لكي تتمكن من قيادة الجماهير، فلا بد أن تكون هذه الطليعة من (الفقهاء) الذين يتصفون بصفات المؤمنين والشهداء، ويتحركون علي أساس من الوعي بقيم الوحي (قرآناً وسنة) مع الدراية بشؤون الواقع. ويقومون بحشد طاقات الأمة، وتوحيد صفوفها، والاستفادة من جهود أفرادها في سبيل الوصول إلي الأهداف عبر رحلة التغيير.
إن الأمة الإسلامية في حاجة إلي (صفوة) من الرجال ذوي إرادة وفعالية، يحسّون مأساة الأمة، فيقومون بالسعي الجاد من أجل تغيير واقعها، وتكون خطوتهم الأولي هي الانتقال من حالة (الحس) إلي حالة (الوعي) بأسباب واقع الأمة والطريق إلي إخراجها من هذا الواقع. حتي إذا وضعوا أيديهم علي جذور هذا الواقع وحددوا أهدافهم بدقة، بدأوا في تغيير هذا الواقع من الجذور، وتوظيف حركة الجماهير لخوض الصراع الحقيقي والمصيري مع الأنظمة العلمانية، والجهاد لاقتلاع جذور الطواغيت وقيادة الأمة الإسلامية، بل وقيادة البشرية كلها إلي خيري الدنيا والآخرة. ولا تستطيع أمة من الأمم أن تحقق أقصي فعالية في الداخل والخارج إلا إذا كان النظام الجماعي هو الذي يُسَيّر خطوات أفرادها، ذلك أن العمل الجماعي هو الذي يجعل كل فرد في الأمة يضاف إلي الآخر إضافة (كيفية) وليس إضافة (كمية) وبالتالي فهو الطريق إلي القوة الاجتماعية التي يتحول فيها الأفراد إلي كيان تتوحد فيه الأفكار والمشاعر والممارسات العملية من أجل تحقيق رسالة الأمة.
الفاعلية الإسلامية .. والريادة البشرية
ويختتم المؤلف كتابه بالدعوة إلى ضرورة امتلاك الأمة لمقومات الحضارة. الأمة الإسلامية إذا أرادت النهوض واللحاق بركب الحضارة. بل وسبقه، فإنه لابد لها أن تستعيد ثقتها في نفسها، وتحافظ علي ريادتها واستقلالها، وتدرك ما لديها من طاقات وقوي ذاتية فتستخدمها في بناء حضارتها، ولا تضيعها في الفراغ أو تتركها لأعدائها يستخدمونها في إذلالها والتحكم فيها.
فإذا فعلت الأمة ذلك فإنها تكون قد ملكت العوامل المادية التي قد يمتلكها الآخرون. وتبقي الأمة الإسلامية متميزة بملكية السلاح الذي لا تملكه الأمم الأخري، وهو المنهاج الرباني .. فيكون لها السبق الحضاري علي كل الأمم، وتعود إلي قيادة البشرية من جديد.
إن التخلف الذي ترسف فيه أمتنا، إنما هو في حقيقته نتيجة لأزمة لكسلنا وعجزنا عن المبادأة في أي ميدان. ولا طريق لنا إلي التقدم إلا أن نكون علي يقين أن الفاعلية هي طريق الأمم إلي الحضارة.
ولاشك أن هذا الهدف يحتاج من أفراد الأمة أن يكتسبوا القدرة العلمية، ويرتفعوا إلي مستوي الصراع الحضاري، ويمارسون ذلك الصراع بأصول إسلامية صحيحة واستيعاب موسوعي للواقع والعصر. وعندها سيكون هذا الجيل حداً فاصلاً بين عهدين: عهد الكسل والخمول، وعهد النشاط والحضارة.