نبيل شبيب

في عام 2002م، عندما نُشر كتاب "ماء السكر" في بون بألمانيا، من تأليف "سيجفريد باتر" لم يكن المقصود به الإسهام في دعوة مقاطعة سلعة أمريكية معروفة، بسبب السياسات الأمريكية، رغم أنّ هذه الدعوة انتشرت جزئيا في بعض المناطق الألمانية، مع انتفاضة الأقصى، مثلما انتشرت ( آنذاك ثم مع أحداث أخرى) في كثير من البلدان العربية والإسلامية. إنّما يمكن "توظيف" الكتاب لأغراض المقاطعة، فقوّته تكمن في موضوعيّته بعيدا عن غرض سياسي، فبعض ما ينشر بأقلام تدعو إلى المقاطعة يجد كثيرا من الاتهامات للتشكيك فيما ينشر، والواقع أن هدف الاتهامات غالبا هو التشكيك في المقاطعة نفسها وجدواها. مؤلف هذا الكتاب يطرح مشروب "كوكا كولا" من زاويتين، إحداهما موقع الشركة في إطار "ظاهرة العولمة"، والثانية تغليب المصلحة المادية على التعامل المنهجي مع تجارب ودراسات تقول -وفق الكتاب- إنّ الأضرار الصحية لهذا المشروب بالغة الخطورة، وكلا الأمرين يكفي منطلقا للعزوف عن هذا الشراب بغض النظر عما تستهدفه دعوات المقاطعة انطلاقا من مصلحة عليا واعتبارات إنسانية على صعيد أحداث ساخنة، أو انطلاقا من الضرورة الحيوية لتنشيط الصناعة "الوطنية"، أو حتى انطلاقا من أهداف التربية القويمة والعملية للإرادة المستقلة، الفردية والجماعية.

إدمان.. وسياسة.. ودعاية

الكتاب صغير الحجم نسبيا، يضمّ 134 صفحة من قطع "كتاب الجيب"، ويشمل مقدّمة وسبعة فصول، ويتميّز بكثافة المعلومات المحضة في محتوياته، فالحرص ظاهر على صاحبه، أن يذكر المطلوب بصورة موجزة واضحة وموثّقة، بعيدا عن الأسلوب الإنشائي، أو الاتهامات الغوغائية دون دليل، وحتّى عند ذكر تجربة علمية معيّنة، يأتي طرح نتيجتها غالبا بصيغة التساؤل الهادف، وليس بصيغة الجزم القاطع، وهو ما يزيد الاقتناع بتلك النتيجة.
يتحدّث الفصل الأوّل عن "القفزة التاريخية" من وراء انتشار "الكوكا كولا" عالميا، عندما أصدر الجنرال آيزنهاور في خضمّ الحرب العالمية الثانية، أمرا خطيّا مؤرّخا بيوم 29/6/1943م، بإرسال ثلاثة ملايين زجاجة من مشروب "كوكا كولا" إلى جنوده في جبهة القتال، فضلا عن خطوات أخرى لاحقة، للوصول بالمشروب الأمريكي إلى مختلف أنحاء العالم، فكان من المحطّات التالية على سبيل المثال، توزيع المشروب مجانا على مئات الألوف من المتظاهرين الألمان يوم سقوط جدار برلين، بعد أن كان استيراد منتجات الشركة محظورا في ألمانيا الشرقية، خلال فترة حكم الشيوعية.
ويتحدّث الفصل الثاني عن شركة "كوكا كولا" نفسها، منذ ميلادها حتّى عام 2002م، وكان اختراع هذا المشروب في عام 1886م، في ولاية أطلنطا الأمريكية، من جانب مدمنٍ على "مخدّر الأفيون"، إذ أراد العثور على أيّ دواء ينقذه عبر الإدمان عليه، من الإدمان على ما هو أخطر منه، واعتقد أنّه وجد المطلوب في خليط من عصير ورقة "كوكا" وعصير جوزة "كولا" وحمض الفحم.
وظهرت الملصقة الدعائية الأولى للمشروب الجديد مع التركيز على اللون الأحمر فيه، يوم 29/5/1886م، ولكنّ المخترع لم يشفَ من الإدمان، ولم يصل إلى الثراء من وراء اختراعه، واضطر في خاتمة المطاف إلى بيع شركته بمبلغ 2300 دولار، وتوفيّ عام 1988م. وبدأت الدعاية للمشروب من بعد، وولدت بذلك "الدعاية التجارية الحديثة"، بمعنى استخدام أساليب الإغراء البعيد عن المنطق غالبا، في ترويج السلعة، ودفع المستهلك إلى شراء ما لا يحتاج إليه بالضرورة، كما يقول خبير الشؤون الدعائية مارك بيندرجاست، ومن خلال تلك الدعاية انتقل مالك الشركة الجديد روبرت فودورف بها إلى مستوى شركة عالمية.

تمتّع بالمشروب.. وبالمرض!

ويركّز الفصل الثالث من الكتاب على العناصر التي يتكوّن منها مشروب "كوكا كولا"، وهي الماء والسكّر وحمض الفحم ومادة ملوّنة ومادة حمضية وحمض الفوسفور ونكهة خاصة ومادة "كوفيئين".
وتبلغ نسبة الماء 88 في المائة، والسكر 10,5 (عشرة ونصف) في المائة، وحمض الفحم واحدا في المائة، فلا يبقى سوى نصف في المائة، أو خمسة في الألف، لسائر العناصر الستة الأخرى. ورغم إحاطة تركيبة "النكهة" الخاصة بالمشروب بالأسرار زمنا طويلا، فقد انكشفت محتوياتها بالتفصيل.
في هذا الفصل يسرد الكتاب عشرات التجارب العلمية التي يقول أصحابها إنّ هذه النكهة تسبّب أضرارا كبيرة، منها ما يصيب الكبد، وما يؤثّر في الإصابة بالخرف، وما يساهم في اهتراء عظام الأطفال، وما يعيق الحمل عند النساء، وما ينشر أنواعا مختلفة من السموم في الجسم البشري. ويستند الكاتب في ذكر هذه التجارب والمعلومات إلى ما يتوافر عنها لدى "هيئة المعلومات التابعة للمعهد الأوروبي لعلوم التغذية والمواد الغذائية".
ويربط الفصل الرابع الذي يستضيف المؤلف قلمَ دكتور يورجن بيرمان في كتابته، بين الدراسات الواسعة النطاق في الولايات المتحدة الأمريكية بشأن أضرار السكر على الجسم عند تعاطيه بصورة غير منضبطة، وبين عدم الأخذ بنتائج تلك الدراسات الموثّقة، بسبب ضغوط أصحاب المصالح المالية من وراء اقتصاد صناعة السكر، ليصل الكاتب إلى نتيجة تضع مشروب "كوكا كولا" في موضع مادة من أخطر الموادّ للإدمان على تعاطي السكّر، ومن خلال ذلك للإصابة بمرض السكر.

مؤشّرات أولى للمقاومة

ويحمل الفصل الخامس عنوان "قاضٍ يتّهم" فيشير في البداية إلى أنّ المستهلك عموما لا يستطيع أن يتعرّف بنفسه على سلبيات المواد التي يتناولها، وهذا ما يوجب على الشركات المنتجة بيانها، ويتركّز الحديث هنا حول هانس يوزيف برينكمان، الذي كان يشرب يوميا ليترا من مشروب "كوكا كولا"، ويأكل قطعتين من "الشوكولاه"، وأصيب بمرض السكر، وثبت له من خلال أطبائه على امتداد ثلاثة أعوام، الارتباط المباشر بين هذا وذاك، ويقول إنّه لو علم مسبقا بهذه النتيجة لَما أصيب بالمرض، فما كان يتعاطاه بلغ أكثر من 27 كيلو غراما من السكر عن طريق مشروب "كوكا كولا" فقط، وهذا ما يوجب على الشركة -وفق محامي الدفاع- أن تبيّن بوضوح مخاطر مشروبها بالنسبة إلى المستهلك، بدلا من إغرائه دعائيا باستهلاكه دون تفكير بالعواقب.
وتقول دراسات أوروبية من عام 1998م عن مرض السكر، إنّ الإصابة به تسبّب سنويا 27 ألف حالة إصابة بالسكتة القلبية، و44 ألف حالة إصابة بالصرع، وزهاء 28 ألف حالة بتر أعضاء تالفة، وغير ذلك.
ويستعرض الفصل السادس كيف بسطت ظاهرة "كوكا كولا" سيطرتها عالميا، بدءا بألمانيا الهتلرية، مرورا بحقبة الحرب الباردة، ثم دور الصراع بين شركة "كوكا كولا" وشركة "بيبسي كولا" في معارك انتخابات الرئاسة الأمريكية، بالإضافة إلى الانتشار دعائيا على مستوى عالمي.
بينما يعدّد الفصل السابع مظاهر مقاومة متنامية داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تجاه تعاطي المشروب الأمريكية، مثل محاولة وزارة الصحّة في ولاية كاليفورنيا الحدّ من بيع المشروبات السكرية، ولا سيّما "كوكا كولا" للتلاميذ في المدارس، وانتقال المحاولة نفسها إلى سبع ولايات أخرى، ثمّ يعدّد الكاتب محاولات أخرى خارج الحدود الأمريكية، كما كان في كولومبيا، وما بدأ يظهر في البلدان الإسلامية في صيغة مقاطعة بسبب السياسات الأمريكية.

مداد القلم

JoomShaper