بيروت: سمير شمس
يخوض الدكتور، علي حرب، في مؤلفاته حروبا في ميادين عدة في الوقت عينه، ليكشف عن معان جديدة وعلاقات متطورة للبديهيات والمسلمات، فالقاعدة التي يرتكز عليها بحثه، وأي بحث، قابلة لإعادة النظر، والجدل والنقاش حولها يعيدها إلى دائرة المتحول، فالتغيير يطال الأفكار الركائز، كما يطال الأدوار والمهمات وصور الحياة وأساليب العيش وقواعد المعاملة، وذلك حين نخوض الموضوع المعتم بالإضاءة عليه بكشافات العلوم المتنوعة والمتعددة.
في كتابه الجديد «المصالح والمصائر» الصادر عن الدار العربية للعلوم - بيروت، ومنشورات الاختلاف - الجزائر 2010، يطرح الدكتور حرب كيفية «صناعة الحياة المشتركة»، فيرى أن الواحد منا قد يبدع قصيدة أو رواية أو نظرية أو عملا فنيا، وقد يشن حربا مظفرة لكي يمارس نجوميته ونرجسيته ويحقق ذاته. ولكن المحك هو كيف نتدبر أمر العيش معا، كيف نخلق لغة مشتركة أو وسطا للمداولة، أو مساحة للمبادلة، في هذا المجال أو ذاك؟
من المفاهيم الأخلاقية، التي تحمل مفارقة، مفهوم «التسامح»، فهذا المفهوم يبنى على اعتقاد صاحبه في قراراته بأن الآخر الذي نتحاور معه أو نقبله، إنما هو مخطئ أو ناقص في سلوكه ومعتقده، لكننا نتساهل معه مجرد تساهل، لذلك لا يحل التسامح الخلاف أو النزاع بين الناس، بل يشكل مجرد هدنة بين صدامين، وتلك هي مفارقة شعار «التسامح» وفضيحته.
والتجديد لا يعني دوما إلغاء القديم، قد يحدث التغيير بصوغ مفاهيم جديدة، وقد يحدث بالجمع على نحو خلَّاق بين أفكار ومفاهيم قديمة، كمن ينجح الآن في الجمع بين التقليد والحداثة، أو بين مركزية الدولة وحرية السوق، أو بين الهوية الوطنية والمدى العالمي.
أول الدروس في مواجهة التحديات وحل الأزمات هو التواضع المعرفي، بمعنى التخلي عن ادعاءات الحقائق المطلقة. فالعالم أكثر تعقيدا من أن نقبض على قوانينه، أو نتحكم في مجرياته، أو نتنبأ بمساراته، وإلا فكيف نفسر الأزمات والمآزق التي تفاجئ العلماء وتجتاح المجتمعات من حيث لا نعقل ولا نحتسب؟ فالأولى أن يعترف العالِم بنسبية آرائه، كي لا يتحول إلى حارس لأفكاره، ينفي الواقع لكي تصح مقولاته.
من مفاعيل التواضع المعرفي عمل البشر على الواقع، بلغاتهم ومفاهيمهم وأدواتهم وطموحهم على مستوى الخلق والتجديد والتغيير تخطيطا وتركيبا، وبصورة تكسر الحواجز وتجتاز الحدود، وذلك بإسقاط عقلية المرآة والانعكاس، والاستبعاد والإلغاء، وبرهان على فتح الإمكان بكل صوره. الممكن في مواجهة ما يحدث ويفاجئ ويصدم، الاشتغال على المعطيات، بخلق وقائع تعيد صياغة المعادلات وترتيب الأولويات، فإن مهمة المفكرين والعلماء هي الاشتغال بالأفكار لتجديدها. لأن الواقع المعقد يحتاج إلى فكر مركب، فالأحداث المفاجئة وغير المتوقعة تواجه بخلق جديد، تتجاوز المعطى، وتعيد تشكيل المشهد، وتركيب القوى على المسرح.
يرى المؤلف أن الوجه الآخر للتواضع الفكري هو التواضع الخلقي، بحيث يخفف العالِم أو المثقف أو الداعية الحالم بتغيير العالم من طوباويته، كي لا يغرق في سذاجته، في ما يخص علاقته بالعدالة والمساواة والحرية والاستقامة. هذه الشعارات هي دوما موضع انتهاك من جانب الذين يدافعون عنها، لأن المحرِّك لدى الناس، هو طلب السلطة والثراء والمكانة، أو ممارسة التفرد والتألق، أي ما يولد التمييز والاستئثار أو الاحتكار والإقصاء. الأمر الذي يجعل القيم التي ندافع عنها مجرد قشرة حضارية يسهل التراجع عنها، فالإنسان الذي يجند فرقة لإنقاذ حيوان هو نفسه يُعبِّئ جيشا لشن حروب لا تكون عادلة في أكثر الحالات.
إن الفهم الملتبس والمركب يحملنا على تجاوز النظرة المثالية الوحيدة الجانب، لنعترف بأننا أدنى شأنا مما ندعي، من حيث علاقتنا بالقيم والفضائل، فالأجدى خفض السقف الرمزي من المطلقات كي لا ننتهك ما ندعو إليه.
إن الإنسان في علاقته بما يدعيه لا يأتلف مع الأفكار حول العصور الذهبية والتنويرية والفراديس الأرضية، فلو كانت هذه العهود كما ندعي لما انتهت إلى مصائرها البائسة ونهاياتها الكارثية.
يشير المؤلف إلى أن الواقع هو تعقيده البالغ بقدر ما هو حراكه الدائم، فما يفاجئ من الأحداث هو في النهاية حصيلة ما يعتمل ويتفاعل ويتراكم ويتشكل من التوترات والتشظيات، التي تتحول إلى طفرات مفاجئة، أو إلى انفجارات صاعقة. فالواقع في حراك دائم، ومن لا يحسن التغير في مواجهة التغيرات، لا يستطيع أن يحافظ على ثوابته، وهكذا لا جدوى من استعادة الماضي إلا بإعادة توظيفه واستثماره، فالواقع السيال يواجه بمنطق التحويل الخلاق أو الاستثمار البناء.
يفرد المؤلف للهوية الملتبسة فقرة يقول فيها، الاختلاف هو نسيج العالم الذي يقوم على تعدد العناصر والأنواع، أو على تعارض الأقطاب والأضداد، سواء على المستوى الطبيعي أو على المستوى البشري، وكل محاولة لمحو التنوع أو نفي الاختلاف مآلها خنق الحيوية وشل الطاقة الخلاقة. وهكذا ليست الهوية الفردية أو الجمعية عالما من الصفاء والانسجام، وإنما هي حيز للتعدد والالتباس، وبؤرة للتوتر والانشطار بين العناصر والأبعاد، أو بين الميول والأهواء. وهذا مصدر غنى للشخصية، بعكس ما يظن ذوو البعد الواحد، فلا مجال لتذويب الاختلافات، إذ بذلك تتحول إلى لغم ينتظر ساعة الانفجار. الممكن هو العمل عليها لتحويلها إلى وسط مفهومي أو فضاء تداولي أو سوق تبادلية.
كذلك الأمر على الصعيد الاقتصادي، فلا نظرية أحادية تحتكر أدوات الفهم والتشخيص، ولا نموذج أوحد يحتكر مفاتيح الإنماء؛ فما هو أوحد هو مصنع لإنتاج الأزمات، في حين أن تعدد النظريات والنماذج يشهد على ثراء الفكر وحيوية المعرفة، بقدر ما هو مصدر لتوليد الفاعلية، عبر تبادل وجهات النظر المتعددة والهويات المختلفة، بالطبع لا بد من التوحيد، ما دام العالم يزداد في مواجهة الفوضى، ولكن الاتحاد لا يعني الانسجام التام أو التوحيد الشامل، الذي يحيل الاختلافات إلى ألغام موقوتة في جسد المجتمع.
من هنا الحاجة إلى وحدات مركبة هي أنظمة للفصل والوصل لا تلغي الخصوصيات، بل تتيح لها أن تتفاعل. فالتغيير أيا كان شكله، يحتاج إلى الانفتاح على ما يستبعد من الأفكار والمفاهيم أو العوالم والذوات. لذا فالرهان ليس إلغاء الثوابت والخروج على التقليد والتراث، بل العمل عليها، بحيث نقيم معها علاقات نامية متجددة فعالة، باقتحام مناطق جديدة للتفكير وخلق مساحات وآفاق جديدة لأعمال الإصلاح والتحديث والإنماء.
من مفاعيل هذا الفهم أنه يكسر ثنائيات سائدة، بقدر ما يؤدي إلى قلب مفاهيم وتغيير أدوار ومهمات من غير وجه: الأول، هو التعامل مع الفرد بوصفه فاعلا في المجتمع الذي يعيش فيه، بقدر ما هو منتج أو مبتكر في مجال عمله. بهذا المعنى الكل مسؤول ومشارك بصورة فعالة في بناء المجتمع.
الثاني، أن مفهوم الفاعل المشترك يفسح المجال أمام مفاهيم الوسطية، فلا أحد يعمل بمعزل عن سواه، فالكل يعيش في وسط أو عالم يفكر فيه ويتوجه إليه، يتأثر به ويؤثر فيه، لذلك فنحن وسطاء بعضنا لبعض على مستوى من المستويات. الثالث، كسر العقلية النخبوية، التي تجعل أصحابها يعتقدون بأنهم يحتكرون المعرفة، ويمتلكون مفاتيح الحلول لكل المشكلات. هذا الادعاء المفخخ يستبعد الفاعلين في حقول عملهم، بقدر ما يتجاهل آراءهم التي تعنيهم مباشرة، ومشكلاتهم التي هم أدرى بها. وإذا كان المفكرون المحترفون يسهمون في درس الواقع وتسليط الضوء على مشكلاته، فإن أفكارهم ليست حقائق مطلقة، فلا أحد ينوب مناب سواه في ما يخص مصلحته أو حل مشكلته.
إن مصدر الأزمات يكمن عند من يدعي امتلاك حلها، فالمسألة تتعدى النظريات والنماذج، لذا فإن المخرج يقضي بالانفتاح على من يستبعدهم أهل الحل والربط من الإسهام في تركيب الحلول، فيجب ردم الهوة بين المعارف الأكاديمية النظرية، والمعارف العملية التي يحصِّلها العاملون في بقية الحقول، وهكذا لا فاعلية من غير اعتراف متبادل بأن لكلٍّ قسطه ودوره في بناء مجتمعه وتقدم بلده.
الوجه الرابع التغير يطال المجتمع، ويتجسد ذلك في فتح الدوائر والمجالات والمستويات، بعضها على بعض، على نحو يكسر الحواجز العمودية والأفقية في الفضاء الاجتماعي. فإذا كان كل فرد أو حقل أو قطاع يهتم بتحسين أحواله وتطوير أوضاعه، فالتحسن والتطوير عمل مشترك. من هنا، فالشعار في عصر الاعتماد المتبادل والتشابك في المصالح، هو: «أن نعيش أحسن هو أن نحسن العيش سويا».
الوجه الخامس هو التغير في مفهوم السلطة وآليات اشتغالها. ليس المطلوب إقصاء الدولة، بل المطلوب إدارة الدولة بعقلية السياسي المحترف، الذي يقرأ ويشخص لكي يركب الإمكانيات ويجترح الوسائل لتحسين الأوضاع أو لحل المشكلات، فيجب أن تدار الشؤون بعقل مركب، يجمع ما بين التقليد والتحديث وبين الهوية القومية والبعد العالمي.
إن الخطر المحدق بالمجتمعات، يأتي من الداخل بقدر ما يأتي من الخارج، فثمة هوية عالمية تتشكل في هذا العصر الكوكبي، يمارسها الجميع، على اختلاف المشاريع والانتماءات. والفرق بين واحد وآخر هو كيفية ممارسة الواحد لهويته. هناك من يمارس خصوصيته بصورة بناءة، أو بالعكس، بصورة تعود بالهلاك والدمار على الجميع.
التحدي الكبير: كيف نجعل الحياة على الأرض أقل بؤسا وفقرا وتوترا وعنفا، لتكون أكثر أمنا ويسرا وتواصلا وتضامنا، سواء على مستوى جماعة أو دولة، أو على مستوى المعمورة.
جريدة الشرق الأوسط