بقلم : حسين عبد العزيز
المصدر : الجزيرة
يختفي تحت الجدل الدائر حول مفهوم الكونية أو العالمية والخصوصية صراع خفي حول إسهام الحضارات الأخرى في بلورة هذه القيم الكونية.
صراع القيم بين الإسلام والغرب
- الكتاب: صراع القيم بين الإسلام والغرب
- المؤلف: رضوان زيادة وكيفن جيه أوتول
- عدد الصفحات: 238
- الناشر: دار الفكر
- الطبعة: الأولى 2010
يختفي تحت الجدل الدائر حول مفهوم الكونية أو العالمية والخصوصية صراع خفي حول إسهام الحضارات الأخرى في بلورة هذه القيم الكونية.
ويناقش الكتاب في فصله الأول الصراع على القيم الكونية، في حين يتناول الفصل الثاني نظرة الإسلام والغرب للقيم.
صدام القيم
1- مفهوم القيم في المعاجم العربية:
يؤكد الدكتور رضوان زيادة أن المعاجم العربية تفتقد معنى القيم بالمعنى الحديث الذي يدل على معنى معياري تقيم به التصرفات الإنسانية.
ففي لسان العرب نجد تحت مادة قوم معنى القيام الذي هو نقيض الجلوس.. قام يقوم وقياما، قال ابن الأعرابي إن القامة جمع قائم، ومعنى القيام العزم ومنه قوله تعالى "إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض".
وقد يأتي القيام بمعنى المحافظة والإصلاح، ومنه قوله تعالى "الرجال قوامون على النساء" وقوله تعالى "إلا ما دمت عليه قائما" أي ملازما محافظا.
ويأتي القيام بمعنى الوقوف والثبات، وقام عندهم الحق أي ثبت ولم يبرح، وفي قوله تعالى "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا"، وقوام الرجل قامته وحسن طوله، والقومية مثله، والقُومية القوام أو القامة.
أما معجم الصحاح فإنه يضع تحت لفظ قوم: الرجال دون النساء، قال زهير:
وما أدري وسوف إخالُ أدري
أقوم ٌ آلُ حصن أم نساءُ
وأما المَقامُ والمُقامُ فقد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة، وقد يكون بمعنى موضع القيام، وقوله تعالى "لا مقام لكم" أي لا موضع لكم، ومن ثم فالقوام هو العدل وحسن الطول وحسن الاستقامة.
أما القاموس المحيط للفيروز آبادي فإنه يعيد تكرار المعاني ذاتها للفظة قوم. ويذكر أن القيمة، بالكسر، واحدةُ القيم، وما له قيمةٌ إذا لم يدم على شيء، وقومت السلعة واستقمتهُ ثمنتهُ.
أما ابن فارس في معجم مقاييس اللغة فيذكر في مادة "قوم" أنها تدل على جماعة من الناس أو على انتصاب أو عزم.
فالقيم إذن وفق معاجم اللغة جمع لكلمة قيمة وهي ثمن الشيء بالتقويم، وهي تحمل معاني متعددة منها القدر أي الثمن والاستقامة، وقد ورد مصطلح الاستقامة والمستقيم في القرآن بمعنى الهداية والطريق المستقيم.
لكن الدكتور زيادة يرى أن المصطلح في الفكر العربي المعاصر يختلف اختلافا بيّنا عن تداوله بالمعنى القديم، وهذا الاختلاف بين المعنى القديم والمعنى الحديث الذي هو ترجمة لكلمة VALUES باللغات الأجنبية هو الذي أضفى نوعا من الاضطراب المفاهيمي، وفي الوقت نفسه الاجتهاد الشخصي من دون الاستناد إلى المحاكمة العلمية.
ويستشهد زيادة بالجابري الذي ذهب في كتابه العقل الأخلاقي العربي إلى تأكيد أن كلمة القيم في المعاجم العربية تعود إلى بعد اجتماعي من قبيل الثمن، والنقلة من المعنى التجاري الاجتماعي إلى المعنى الأخلاقي (المعياري) لم تتم داخل المجال التداولي العربي، بل من خلال ترجمة اللغات الأجنبية الحديثة التي تم فيها الارتقاء من المعنى الاقتصادي إلى المعنى الأخلاقي.
2- مفهوم القيم في اللغات الأجنبية:
مفهوم القيمة بالمعنى المتعارف عليه اليوم حديث أيضا في اللغات الحديثة والمعاصرة، ففي اللغة الفرنسية تدل الكلمة "VALEUR" أو اللغة الإنجليزية "VALUE" في أصل معناها اللاتيني على الشجاعة في القتال، ثم تطور معناها لتدل على ما يساويه الشيء أو الشخص، ثم على ثمن الشيء، ويستعمل علماء الرياضيات كلمة القيمة للدلالة على العدد.
ظهور المجتمع المتنوع الأجناس والأعراق مع ما صاحبه من مشكلات نفسية، يتطلب إعادة التفكير في علم الأخلاق لإخراجها من أزمتها
وكان أول استعمال لمفهوم القيمة في مجال الأخلاق في اللغة الفرنسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأضحت القيمة الأخلاقية بعد هذا التاريخ تشير إلى حكم شخصي يتطابق بدرجة ما مع ما يراه المجتمع خيرا بإطلاق.
يعرف لالاند الأخلاق بأنها مجموع قواعد السلوك، أما لوسن فيعرف الأخلاق بأنها مجموعة متفاوتة النسق من التحديدات المثالية والقواعد والغايات، ويذهب جوليفيه إلى أن الأخلاق هي العلم الباحث في الاستعمال الواجب لحرية الإنسان من أجل بلوغ غايته النهائية.
إن هذه التعريفات بحسب د. زيادة تؤكد وجود نزعة غائية يتم النظر إلى الكون والعالم من خلالها، على اعتبار أن وجود الإنسان مشروط بالبحث عن الحرية.
هنا يتجاوز د. زيادة هذه التعريفات إلى محاولات المفكرين الغربيين إقامة الأخلاق على أسس علمية راسخة تنزع عنها الصفة الفردية، لكن هذه المحاولات أثارت إشكاليات عديدة حول مشروعية إطلاق صفة العلمية على حقل يجعل مدار اشتغاله الوصول إلى إحدى القيم الثلاث: الحق والخير والجمال، وعند ذلك تكون الأخلاق بحثا في ما سيكون، في حين أن العلم يبحث في ما هو كائن.
إن هذه المحاولات العلمية نفت عن الأخلاق الصفة الامتثالية وأدخلتها في سياق القوانين الوضعية، الأمر الذي أدخل الأخلاق في أزمة حقيقية.
ويرى د. زيادة أن ظهور المجتمع المتنوع الأجناس والأعراق مع ما صاحبه من مشكلات نفسية، يتطلب إعادة التفكير في علم الأخلاق لإخراجها من أزمتها.
الإسلام والغرب.. العقيدة المطلقة والشك
يرى كيفن جيه أوتول كاتب هذا الفصل، أن أي محاولة للتمييز بين العالمين الغربي والإسلامي بقيم كالحرية أو الديمقراطية أو حكم القانون أو الالتزام الديني لن تؤدي إلا إلى اختزال النقاش إلى مجرد تصنيفات لغوية.
فما يراه البعض حرية يراه الآخر فجورا، وما يمجده قوم من مذهب النزعة الفردية يستهجنه قوم بوصفه انفلاتا من الضوابط، وبالتالي لا يمكن فهم التجاذبات بين الإسلام والغرب عبر الاعتقاد مثلا أن الغرب يقدر الحرية أكثر من الإسلام، كما أنه ليس من المنطقي القول إن الإسلام يكبر الوحي على المنطق بخلاف الغرب، بل إنه من السخف القول -والكلام لكيفن أوتول- إن المسلم لا يعقل الأمور بالمنطق لاعتقاده بالوحي، ذلك أن المرء لا يؤمن بالوحي إلا أن يلمس فيه من المنطق ما يحمله على التسليم به.
يحاول كيفن جيه أوتول في هذا الإطار بحث وتحري اختلاف ذي معنى في القيم، مقنع وناجع بالمعنى الإبستمولوجي للكلمة، بين الإنسان الغربي لافتقاره لأي تسمية أفضل من ذلك وبين الإنسان المسلم.
القيم الغربية التي يؤمن بها الغربي هي الشك وعيش حياة قوامها استبطان الذات، وسنتها تعليق الحكم على الأمور والتريث فيه، وذلك حسب ما يتجلى من مبادئ مجلس أوروبا وأهدافه
ويتم تحديد ماهية الإنسان الغربي بالاستناد إلى مبادئ مجلس أوروبا وأهدافه، في حين تتحدد ماهية الإنسان المسلم عبر مبادئ منظمة المؤتمر الإسلامي وأهدافها.
تقوم هاتان الهيئتان على تجمع من الدول القومية يبلغ تعداد سكانها 800 مليون نسمة لمجلس أوروبا الذي يضم 47 بلدا، و1.3 مليار نسمة للمنظمة التي تضم 57 بلدا، فضلا عن أن كثيرا من شعوب المنظمة والمجلس لا تقر القيم الخاصة بكل منهما.
إضافة إلى ذلك فإن من بين الثمانمائة مليون نسمة من مواطني الدول الأعضاء في مجلس أوروبا هناك 100 مليون يدينون بالإسلام، ومما لا ريب فيه أن هؤلاء المسلمين يؤيدون قيم مجلس أوروبا، كما أنه مما لا ريب فيه أن كثيرا من غير المسلمين من منكري الأديان أو المؤمنين بها لا يؤيدون هذه القيم.
ومن هنا يؤكد المؤلف أن التفريق بين الإنسان الغربي والإنسان المسلم ليس مبنيا بالضرورة على أساس الانتماء الديني، فقد لا يكون المسلم مسلما، مثلما قد لا يكون الغربي غربيا.
وثمة مسألة مهمة يعرضها المؤلف وهي وجود اختلاف هام بين القيم الإسلامية والغربية من حيث التجسيد العملي لها على يد معتنقيها، فبالنسبة للقيم الإسلامية التي يعتنقها الإنسان المسلم فهي الإيمان المطلق بالإسلام والعيش وفق مبادئه، وذلك حسب ما يتجلى من مبادئ منظمة المؤتمر الإسلامي.
وأما بالنسبة إلى القيم الغربية التي يؤمن بها الغربي فهي الشك وعيش حياة قوامها استبطان الذات، وسنتها تعليق الحكم على الأمور والتريث فيه، وذلك حسب ما يتجلى من مبادئ مجلس أوروبا وأهدافه.
منظمة المؤتمر الإسلامي والقيم الإسلامية
من بين أهداف المنظمة تعزيز حقوق الإنسان والحريات وحمايتها، لكن تعزيز حقوق الإنسان وفق إعلان القاهرة لحقوق الإنسان عام 1990 جاء وفق الأسس الإسلامية، وأخضع عددا من بنوده لمقتضيات شريعتها، فالشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أي مادة من مواد دستور المنظمة.
ويتساءل المؤلف هنا: ما القيم الإسلامية التي يمكن استدلالها من دستور المنظمة؟
يجيب المؤلف أوتول بأنها اثنتان:
- يجب أن يؤمن إيمانا مطلقا بالدين الإسلامي.
- يجب أن يحيا حياته وفق الشريعة الإسلامية.
أما بالنسبة إلى مواقف المنظمة من قضايا العدل الجنائية فإنها تتسم بالضبابية، كما يرى المؤلف، حيث صادقت بعض الدول كأذربيجان والبوسنة والهرسك وجيبوتي وموزمبيق وتركمانستان على البروتوكول الاختياري الثاني للميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي تبنته الجمعية العامة عام 1989 بخصوص إلغاء عقوبة الإعدام.
ويتبين من ذلك أن عددا من الدول الأعضاء في المنظمة يقر بمبدأ أن الرجم والإعدام والعقوبات المؤذية للبشر انتهاك لحقوق الإنسان، غير أن المؤلف يقول أيضا إن من الإجحاف تجاهل اتساع طيف الممارسات الحكومية في العالم الإسلامي فيما يتصل بالقضايا الاجتماعية والسياسية بما في ذلك قضية العدل الجنائي.
كما أن كثيرا من شعوب الدول الأعضاء في المنظمة قد يستهجنون التأويل المتزمت للشريعة الإسلامية بقدر ما يستهجنه غير المسلمين.
بيد أنه مع هذه الاعتبارات كلها، تبقى المنظمة تعد نفسها الناطق الرسمي باسم العالم الإسلامي
المسلم الغربي يختلف عن مثيله غير الغربي في أمر واحد فقط هو تقبله لاحتمال أن يكون مخطئا في قناعته، وهذا لا يعني أنه يعتقد بالضرورة أنه على خطأ، لكنه يتقبل احتمال أن يكون كذلك
مجلس أوروبا والإنسان الغربي
إن الحريات التي أقرتها الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان مشروطة لا مطلقة، ومن أمثلة ذلك ما ورد في مادتها التاسعة التي تقول "تخضع حرية الإنسان في إعلان ديانته أو عقيدته للقيود المحددة في القانون والتي تكون ضرورية في مجتمع ديمقراطي لصالح أمن الجمهور وحماية النظام العام".
وحرية التعبير في الاتفاقية مشروطة أيضا، فالمادة العاشرة تقول "هذه الحريات تتضمن واجبات ومسؤوليات، لذا يجوز إخضاعها لواجبات إجرائية وقيود وعقوبات محددة في القانون حسبما تقتضيه الضرورة في مجتمع ديمقراطي".
ويرى المؤلف أنه بمقارنة الاتفاقيات الأوروبية مع إعلان القاهرة لحقوق الإنسان، يتضح أن الأخير يقوم على الخضوع لرؤية الشريعة الإسلامية في مبدأ وضعه، في حين تشرح الاتفاقية منطق شروطها ومنطلقها على نحو يفسح المجال لتسويغها وتسويغ أسبابها.
وبجانب ذلك، يبدو أن الاتفاقية تنزع إلى افتراض أفضلية الحق على شرط وضعه، بمعنى أن الحق قائم في المبدأ، اللهم إلا إذا لم يستوف شرطه، وفي المقابل لا تبدو هذه النزعة ملموسة في بعض بنود القاهرة.
إن السواد الأوروبي يسلم بفضيلة الشك، وألفى في نفسه القدرة على الإيمان، بل وحتى إكبار عقيدة تحتمل الخطأ والصواب في نظره، أي أنه قدر للأوروبيين اعتناق عقيدة لا تنكر على الآخرين حقهم المطلق في الإيمان بغيرها.
وثمة المسلم الغربي الذي يلتزم بدينه، لا يختلف في هذه الناحية عن المسلم غير الغربي، لكن المسلم الغربي يختلف عن مثيله غير الغربي في أمر واحد فقط هو تقبله لاحتمال أن يكون مخطئا في قناعته، وهذا لا يعني أنه يعتقد بالضرورة أنه على خطأ، لكنه يتقبل احتمال أن يكون كذلك.
ولهذا السبب تكون حياة المسلم الغربي، كما يرى المؤلف، حياة صالحة تقوم على خدمة الآخرين تماما كما أراد له الإسلام أن يفعل.
وإذا ما حاولنا -والكلام لكيفن جيه أوتول- إجراء مقاربة بين الإنسان المسلم والإنسان الغربي في ضوء التقمص الحالي لنموذج الشرق والغرب، فسنجد أنهما يعتمدان منظورين متناقضين، لكن ذلك لا يمنع إمكانية أن يتوحد منهج الاثنين عندما يتعلق الأمر بالتطبيق، إذ لا يبدو أن المسلم الغربي قد هجر بانتمائه للغرب دينه أو شريعته التي يحيا حياته تبعا لها، وكل ما هنالك أنه قد انفتح على احتمال أن يكون مخطئا، ومن ثم احتمال أن يكون مخالفوه في اعتقاده مصيبين