أُطلق وصف توبة الفنانين والفنانات على ظاهرة أصبحت معروفة، وتداولت وسائل الإعلام -لا سيما ذات الاتجاه الإسلامي- الحديث عنها بإسهاب في السنوات الماضية، فركّزت على مصر في الدرجة الأولى، وقليلا ما نذكر أنّ يوسف إسلام -كات ستيفنس سابقا- كان الرائد على هذا الطريق قبل أكثر من ربع قرن، ولم يكن في بلد إسلامي، وهو اليوم من الدعاة الناشطين إسلاميا في بريطانيا وخارج حدودها.
الكتاب: ابنة السماء- طريقي من نجمة بوب إلى الله
المؤلفة: حلية كانديمير
عدد الصفحات: 288
الناشر: دار نشر بيندو في ميونيخ وزيوريخ
الطبعة الأولى: 10/2005م
كلمات عن كتاب "ابنة السماء"
بين يدينا كتاب يروي قصة أخرى على هذا الطريق، صدر قبيل رمضان 1426هـ/ تشرين أول-أكتوبر 2005م، فضاعف الحديثَ في ألمانيا عن مؤلّفته الشابة حلية كانديمير، البالغة 30 عاما من العمر، وكانت مطربة أغاني "البوب"، فاعتزلت صخب الحياة الفنية، ولم تعتزل الحياة نفسها، فبعد أن كانت تحت أضواء المسارح وعدسات التصوير وأبصار ألوف المشاهدين في الحفلات، أصبحت تعمل لجلب الأضواء وتسليطها على حقيقة الإسلام، في مرحلة من أصعب مراحل وجود الإسلام والمسلمين في الغرب. وكانت الذروة الأولى لجهودها على هذا الطريق كتابها الأول بعنوان "ابنة السماء؛ طريقي من نجمة بوب إلى الله"، وفيه تتحدّث حلية، الشابة التركية الأصل، الألمانية المولد والجنسية، عن تجربتها وسيرة حياتها، وتركّز على السنوات التي صعدت خلالها بصعوبة ونتيجة الجهد المتواصل سلّم الشهرة الفنية منذ بلغت 16 عاما من عمرها، حتى وقفت على أبواب تحقيق أبعد طموحاتها، وإذا بها تتخّذ قرارها الحاسم، أن تعتزل عالم الصخب الفني وقد ناهزت الثامنة والعشرين، لتنتقل على الفور إلى العمل للإسلام، فكان أوّل ما سعت إليه تنظيم مسيرة كبيرة للمسلمين، لمعارضة الإرهاب والعنف، ولا يزال أمامها -كما تؤكّد في عدد من اللقاءات الإعلامية معها- عدد من المشاريع لمحطّات أخرى على طريق أداء دور متميّز للتعريف بالإسلام، بعد أن "أصبح الله عزّ وجلّ هو محور حياتها".
وعندما يتحدّث أمثالنا في عالم الإعلام عن الكتاب وصاحبته، لا يمكن أن يخرج بكلماته عمّا يظهر للقارئ أنّه رأي أو تقرير وإن بلغ القلم من الإبداع اللغوي مبلغه، أمّا كلمات حلية في كتابها، فتستحوذ على قارئها، وهو يستشعر أنّها كلمات صادرة عن قلب يخفق بمحبة الله، رغم الشرود فترة من الزمن، وعن عقل واع مستنير، يدرك ما يكتب القلم وما يحيط به وبصاحبته من ظروف، فتتحوّل التجربة الشخصية إلى قضية نموذجية، وتتضاءل أمامها الكتابة الإعلامية المحضة عنها.
كتاب "ابنة السماء" لا يسهل تصنيفه في باب من الأبواب، فهو مذكرات شخصية حافلة بحديث النفس.. بقصد العطاء، وهو رواية ممتعة تستحوذ على مشاعر قارئها.. وتستثير أفكاره، وهو دعوة فاعلة إلى دين السلام والأخلاق والتعايش والمحبة والمنطق.. دون أن تتّخذ الدعوة صيغة مقالة أو خطبة، فهي تنساب انسيابا عبر السطور، تلامس الوجدان، وتتحسّس مواقع عديدة وصورا حيّة من واقع الحياة وما يعايشه جيل الشبيبة على وجه التخصيص، مابين آمال وآلام، وطموحات وخيبات أمل، ونجاح وإخفاق، وما تصنعه الصحبة مع الآخرين والعزلة الموحشة، وما تفعله نوازع الانحراف والتطلّع إلى السكينة الداخلية، وجميع ذلك -في الكتاب- ممّا يسري على الشبيبة من مسلمين وغير مسلمين، في مجتمع سيطرت عليه عوامل الإغراء ودواعي الانحراف، وتحوّلت دنيا الصخب الفني فيه إلى مسلسل من المنزلقات إلى ألوان الإدمان على المسكرات والمخدّرات والعلاقات الاجتماعية المشبوهة والجنسية المنحرفة، دون أن يجد مَن يمضي على ذلك الطريق استقرارا، وإن سار فيه طويلا تحت بريق رغبته الذاتية في الحرية، إلى أن يكتشف أنّها حرية موهومة كالسراب.
وبين سطور المذكّرات الشخصية وحديث النفس لا ينقطع في كتاب "ابنة السماء" الذي يتجاوز 280 صفحة التنويهُ بما يعانيه المسلم الملتزم لدينه نتيجة انتشار سوء فهم إسلامه، وقد تلاقى على تعميم الصور النمطية السلبية عنه ما تتناقله وسائل الإعلام دون تحقيق أو تمحيص أو نتيجة تحامل مقصود، مع ما تساهم فيه ممارسات طوائف وأفراد من المسلمين ومواقف ومقولات تتناقض مع الإسلام وتعاليمه وتسامحه وأحكامه وروحه، بدءا بالتشدّد والتنطّع والتعصّب والخلط بين الأحكام والعادات المتوارثة والاجتهادات الشاذة، انتهاء بسلوك نهج العزلة والتكفير والعنف والإرهاب.
ويزيد من قيمة الكتاب أنّ جميع ما يعطيه ممّا سبق وسواه، يمتطي جناح كلمات ناطقة بالعاطفة الجيّاشة صدقا، الصادرة عن محبّة عميقة لله عزّ وجلّ في شريط لم ينقطع منذ الطفولة وما غاب إلاّ ظاهريا فقط في فترة مراهقتها وحياتها الفنية، فبقي متواصلا يهيمن على أعماقها، وينعكس في حديثها مع نفسها، إلى أن أوصلها إلى قرارها الحاسم، وقد أيقنت استحالة الجمع بين إيمانها مع تطبيق دينها وبين ما تفرضه الظروف المهيمنة على عالم الصخب الفني.. لا العطاء الفني الأصيل. على أنّ هذه العاطفة الجيّاشة لا تغيّب إطلاقا صوت العقل ومنطق الحكمة رغم حداثة سنّ المؤلّفة، فتتحوّل معه إلى مزيج بالغ التأثير في النفس والفكر معا، لا سيّما وهي تسرد وقائع حياتها الشخصية فتصف تقلّبها من حال إلى حال، ولا تتردّد عن ذكر انزلاقها إلى تعاطي المسكرات والمخدّرات وإن لم تصل درجة الإدمان، أو إلى التردّد على دور اللهو والمراقص الليلية ومجاراة سواها في تبادل العناق والقبلات بين الجنسين وقد أصبح تحيّة شائعة، وإن لم تصل بذلك إلى أن تفقد عفّتها، ويبقى وصفها لذلك بعيدا عن الابتذال المعتاد في الروايات التي تعبث بغرائز القارئ، فإذا به يتحوّل إلى إشارات ذات مغزى عميق، يدركه ولا ريب مَن لا يزال يعيش من الشبيبة متأثّرا بتلك المنزلقات.
ويتجلّى المزيج بين لسان الوجدان ولغة المنطق بصورة متتالية على امتداد صفحات الكتاب بمجموعه، كلّما عرّجت صاحبته في اللحظة المناسبة، لتشير إلى فهم ملتبس لجانب من جوانب الإسلام أو جزئية من جزئياته، مع الاستشهاد المناسب دون إسراف بالآيات والأحاديث وبعض وقائع السيرة النبوية، فتتحدّث تارة عن الصلاة ومغزاها ومواطن التباين بينها وبين ما يعرفه أصحاب الديانات الأخرى تحت عنوان الصلاة أيضا، وتتحدّث تارة أخرى عن المرأة في الإسلام وتكريمها، والعلاقات الجنسية وموضعها، وعن حجم الأخطاء في تصوير حجابها قيدا والخلط في ذلك بين صور شاذّة معاصرة في حياة المسلمين وما يطلبه الإسلام وتستشعره المرأة الملتزمة به طوعا، وتتحدّث تارة ثالثة عن حياة المسلم أو المسلمة على سماحة الإسلام في علاقاته بالآخر فكرا أو ديانة أو قومية وأثر ذلك على العلاقات البشرية لا سيّما في المجتمع الواحد، وتارة رابعة عن حريّة الفرد وإرادته ومسؤوليّته الذاتية وموقع الأسرة في بناء المجتمع ومواجهة مغريات الحياة وصعوباتها ومخاطرها.. وهكذا في ميادين عديدة، تتحوّل المذكرات الشخصية معها إلى كتاب لتصحيح المفاهيم الخاطئة والمتحاملة التعميمية عن الإسلام في الغرب، وبين أهله في كثير من الأحيان، بأسلوب المناجاة والحوار معا، فمن أراد طريق الوجدان وجده بأن يفتح قلبه لنداء صادر عن قلب فتاة تحكي تجربتها، وقد ولدت في الغرب ونشأت في مجتمعه وسلكت طريق الإسلام وفهمه وتطبيقه، دون أن يدفعها إلى ذلك شيء سوى عمق محبتها لله منذ صغرها، ومفعول مواظبتها على الصلاة في العامين الأخيرين من حياتها في دنيا الصخب الفني، ومن أراد طريق المنطق والعقل وجده أيضا بأن يتابع ذلك الحوار الهادئ مع النفس في سيرة حياة الفتاة الناشئة والشابة، وهي تنتقل من موطن إلى آخر من مواطن معيشتها في نطاق أسرتها، فالوسط الفني حولها، فالأصدقاء من كلّ صنف، وأخيرا في نطاق الوسط الإسلامي الذي لجأت إليه، وبدأت تؤثّر فيه أيضا، بعد أن أدركت أنّ ما طلبته من حرية وسكينة على امتداد 12 عاما، لا يمكن أن تجده إلاّ في كنف الله تعالى.
كلمات مختارة للفنانة التائبة
على قدر الصعوبة في محاولة نقل ما يحتويه الكتاب إلى القارئ في مقالة، تظهر الصعوبة أيضا في اختيار بعض الفقرات منه، وممّا ورد على لسان مؤلّفته في بعض اللقاءات الإعلامية، فقد يكون في النقل إلى العربية رغم الحرص على الإتقان، ما لا تظهر معه حيوية اللغة والأسلوب لفتاة كتبت باللغة الألمانية التي نشأت عليها، وأدركت مواطن التأثير من خلالها، وهو ما لا تصل إليه -مثلا- الكتب المترجمة إلى الألمانية. لا سيّما وأن المؤلّفة الشابة اندمجت في المجتمع الألماني، ولا تزال على ذلك، اندماجا تجمع فيه بين تطبيق إسلامها والتفاعل مع ما حولها، بما يجعل عطاءها موجّها للشبيبة من المسلمين وسواهم، وفي هذا الإطار تعطي الفقرات التالية بعض النماذج من كلمات حلية:
تقول حلية في الصفحة 174 من الكتاب:
(كانت الموسيقا تسعدني، كانت محور حياتي، محور تفكيري، محور مشاعري، ولكن لم تكن تعطيني كلّ شيء، كنت أحسّ بنفسي أبحث عن شيء ما ولا أجده، كما لو كانت قوّة خفية تدفعني إلى ذلك دفعا، لم أجد مكاني في المجتمع، لم أعد أدري إلى أين أنتمي)
وتقول في صفحة 83:
(وأنا أيضا لم أدرك إلاّ تدريجيا أنّني لا أعيش في عالمي الذاتي، بل في عالم أصدقائي، فعالمي الخاص لم يعد موجودا، تركته منذ زمن بعيد، فكنت أتحدّث بلغة أصدقائي، وأعيش وفق عاداتهم، وأمارس ديانتهم، حتّى إذا ألحّت على نفسي أسئلة أكبر من ذلك، عن المغزى ممّا أصنع، عن معنى الحياة، بدأت أرى بوضوح أنّ الآخرين لا يهتمّون بك حقيقة بل أنت الذي تعمل على التلاؤم معهم فحسب).
وتقول في صفحة 94-95:
(حدث ذلك في حفلة عيد ميلاد أحدهم، وكان الجميع يعلمون أنّني لا أتناول المشروبات الكحولية، ودون أن أعلم وضع أحدهم شيئا منها في كوب عصير البرتقال، وتناولته، وشعرت بطعم غريب... في المرة الثانية التي تناولت فيها مشروبا كحوليا، كان ذلك بعد إلحاح شديد علي، ولكنّ هذه المرة كانت -لأسفي الشديد- طواعية، وأحسست بتلك الكأس الثانية أنّها أقلّ سوءا من المرّة الأولى)
وتقول في صفحة 134:
(كانت أختي آيلا آنذاك تغبطني على حياتي المتحرّرة.. كانت تتمنّى شيئا جديرا بالغبطة والحسد، لم يعد عندي، بل كنت أتمنّى آنذاك لو كان لديّ -مثلها- أسرة أعنى بها، وهو ما لا يوجد شيء أجمل منه في ذلك العالم، وآنذاك كنت أتذكّر كلمات أبي لي: إنّ الحرية التي تبحثين عنها لا توجد هناك في الخارج -خارج المنزل- هناك وجدت كثيرا من الناس التعساء، وجدت شبابا وفتيات يريدون أن يجسّدوا شيئا ما، ولكن كان يظهر عليهم أنّهم أضاعوا أنفسهم، جيل يتعلّق بكلمة "جميل" عبر أشياء تنكسر فتغيب بين يوم وآخر، عبر آلهة الجمال في مجتمع يتقلّب باستمرار بين الغياب والسُّكْر والرياضة والسيارات والجنس، فبدت لي تلك المطحنة دون أيّ معنى ورأيت كيف يُخضع الناس أنفسهم لدوران عجلتها، ورغم أنّني عشت ذلك بنفسي ردحا من الزمن، لكنّني لاحظت منذ فترة أنّ مجتمع اللهو هذا لا يرضيني).
وتقول في صفحة 174:
(أكثر من أيّ شيء آخر بدّلت الصلاة المنتظمة حياتي، فبعد كلّ تلك المتاهات التي سرت فيها، غمرني شعور عارم أنني أستطيع التعبير عن أشواقي الداخلية. كان رائعا أنّني استطعت بنفسي فكّ العقدة التي عشت فيها سنين عديدة)
وتقول في صفحة 211-212:
(كثير من الناس يرى في الحجاب خطرا يصدر عن هذا الدين، يعتقدون أنّ غطاء الرأس يرمز إلى المرأة المستعبَدة، والعكس هو الصحيح. إنّ النساء المحجبات يُظهرن بذلك أنّهن يردن أن يكون القبول بهنّ بصفتهنّ الإنسانية المباشرة، كأيّ إنسان كامل، إنسان حرّ، وشرط ذلك هو حرية القرار من جانب المرأة نفسها).
وتضيف في أحد برامج التلفاز (يوم 28/10/2005م، قناة جنوب غرب ألمانيا SWR):
(إنّني أشعر بالحجاب تيسيرا لي، فهو ما يضع الإنسان في ذاتي في الواجهة، بدلا من مظهري الأنثوي الخارجي).
وتنقل عنها مقالة صحفية (يوم 9/10/2005م، Welt Am Sonntag الألمانية) قولها:
(لا أنكر وجود نساء يُرغَمن باسم الإسلام على حياة لا يريْنها، ولكنّ هذا استغلال للإسلام) وتضيف كاتبة المقال (هايكي فوفينكل – Heike Vowinkel): (حلية كانديمير تمثّل تحدّيا للنساء المتحرّرات، وهي تعلم ذلك وتقول إنّها لا تريد دعوة أحد بل تطالب بالتسامح تجاه مَن يعيش كما يريد).
وحول الغاية من تأليف الكتاب تقول حليه في صفحة 211 منه:
(كنت أنظر بثقة إلى مستقبل تكييف حياتي الجديدة. عدا ذلك نشأت لدي آنذاك، في زاوية من زوايا وعيي الذاتي فكرة كتابة قصتي، طريقي من فنانة موسيقية إلى الله، أو أفضل من ذلك قصة حياتي من ابنة صغيرة لعامل أجنبي في ناحية نائية من منطقة أوبر بفالس (Oberpfalz)، ثمّ عبر النوادي والحانات الليلية في شمال بافاريا، وحتى قاعات الاحتفالات الكبرى في ميونيخ جنوب ألمانيا، ثمّ من هناك العودة إلى نفسي، إلى المسجد، إلى إيماني، إلى الله. فكّرت أنّ هذا يمكن أن يوجد شيئا من التفهّم للإسلام، الذي ينظر إليه كثير من الناس نظرة لا تخلو من أحكام مسبقة، ينظرون إليه باستغراب شديد، غالبا تحت وطأة اتهام تعميمي بالعنف. إنّ إظهار الفارق الكبير بين تلك الظواهر السلبية وبين جوهر معتقدي الديني، هو ما حدا بي إلى كتابة هذا الكتاب، أردت أن أُظهر لقطاع أكبر من القرّاء ما تعنيه حرية اتخاذ قرار كالقرار الذي اتخذته لنفسي، والتزمت به طريقي، وأرجو الله أن يتقبّله منّي).
وتضيف في مقابلة نشرها يوم 14/10/2005م موقع الإسلام (Islam.de) الشبكي:
(لم أكتب هذا الكتاب من أجل العالم الغربي فقط، بل من أجلنا نحن المسلمين أيضا، فمن الأهمية بمكان أن نتحرّك ونعمل، وقد حاولت توضيح ذلك وأنّ علينا النظر إلى الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، إلى شخصيته وذاته، فنأخذ منه قدوة لنا في حياتنا، في عبادته وتواضعه وإنسانيته وكيف كان دوما يوصي خيرا بالنساء والأطفال والأيتام والضعفاء اجتماعيا، وأن نتمثّل تسليمه لله ومحبته له. هذا بالنسبة إليّ أهمّ ما أردت قوله عبر الكتاب).
وعن موقع الكتاب في الوسط الألماني والسويسري عشية ظهوره، جاء يوم 29/9/2005م في مقالة نشرتها صحيفة (تاجس آنتسايجر - Tagesanzeiger) السويسرية بقلم (كريستينا رايس – Kristina Reiss):
(في الأشهر القليلة الماضية ظهرت كتب عديدة تشكو فيها نساء مسلمات بمرارة ضدّ الإسلام، فتتحدّث عن العنف والإكراه، منها "أنا أشكو" و"العروس الغريبة" و"لم أرد إلاّ الحرية"، فبقيت هذه الكتب لفترة طويلة على رأس قائمة الكتب المباعة، أمّا الآن فتكتب شابّة مسلمة ولا تشكو، كما أنّها لا تخرج على التقاليد، بل على النقيض من ذلك، تتحوّل بنفسها إلى جذورها، إلى الإيمان الذي لم تتعرّف عليه في نطاق أسرتها. وحلية كانديمير تنقض بذلك كثيرا من المقولات الشائعة، ولم تكن في مدرسة من مدارس تعليم القرآن، أو في أسرة تحت سيطرة كبيرها، ولا تحت سطوة رجل يرغمها على الحجاب، لقد تحرّكت بذاتها على طريق الإسلام).
كلمات عن حلية كانديمير
كانت حلية الخامسة من عشرة بنات وأبناء لأسرتها التركية المهاجرة في مطلع السبعينات الميلادية إلى ألمانيا بقصد العمل. وتعتبر الأسرة نموذجا للنسبة الأكبر من أسر المسلمين الأتراك في أوروبا عموما، لديها بقايا مجتزأة من الدين، مختلطة بالتقاليد، وبكثير ممّا نُقل عن المجتمع الغربي إلى تركيا بتوجيه العلمانية الحاكمة، ومَن انتقل من تلك الأسر إلى ألمانيا لم ينعزل عن مجتمعها بسبب إسلامه وتقاليده فقط، بل نتيجة العجز عن الاندماج أيضا لأسباب عديدة، فبقي على الدوام تحت تأثير صراع خفيّ حينا، ظاهر حينا آخر، بين دينين وثقافتين ونمطين للمعيشة.
حلية كانديمير.. فنانة تركية الأصل في ألمانيا
في تلك الأسر نشأ الجيل الثاني من المسلمين الذي تنتسب حلية إليه، فكان من شبابه وفتياته مَن أصبح في ظاهر حياته جزءا من الغرب، أو مَن عاد إلى جذوره المغيّبة فاختلط عنده الانتماء القومي بالديني ومفعول العادات والتقاليد وآثار المجتمع الجديد، فبلغ ذلك غالبا درجة الانعزال والتطرّف، إنّما وصل كثيرون أيضا إلى مستوى يلفت النظر من القدرة الذاتية على استيعاب الإسلام بشموله وتوازنه واعتداله وتطبيقه، دون الانعزال عن المجتمع الغربي، ودون الذوبان فيه في آن واحد.
وليس سهلا الانتقال من عالم إلى عالم على هذا النحو، ولكنّه ممكن ومثمر، وذاك بالذات ما تعطي حلية نموذجا حيّاً له، فكتابها سيرةٌ ذاتية تكشف كشفا دقيقا ومفصّلا عن مراحل هذه النقلة، ومتطلّباتها، بدءا بالمزالق التي تؤدّي إلى الذوبان، والضوابط التي تحمي من عواقبه القصوى، انتهاءً بالمنطلقات التي تحمل الشبيبة إلى النجاة منه، والمواضع الإيجابية التي تسمح بالتأثير في الاتجاه الصحيح بعد النجاة من التطرّف تعصّباً أو الذوبان ضياعا.
ظهرت موهبتها الموسيقية والغنائية منذ صغرها، ووجدت عليها التشجيع من أبيها وبعض معارفها وفي إطار فرقة الغناء المسيحية في مدرستها، وبدأت قبل أن تبلغ 16 عاما من عمرها تعزف على قيثارتها ألحانا تكتبها وتغنّي بكلمات تؤلّفها، حتّى إذا بدأت بالظهور في بعض الأندية والملاهي وجدت معارضة أبيها انطلاقا من الحرص على التقاليد التركية. وخرجت من منزل أسرتها، واقترن ذلك بتبدّل في أسلوب معيشتها، خطوة بعد أخرى، عبر حلقات الأصدقاء ثمّ عبر الوسط الفني، وكانت تكره التدخين فزاولته، وتعاف المسكرات فتعاطتها، وتأبى المخدّرات فجرّبتها، وكانت في سائر ذلك وسواه تحت تأثير الوسط الذي انغمست فيه، بما في ذلك الثياب التي تختارها لنفسها، والسباحة التي تمارسها، والجلسات وتبادل الزيارات بين الجنسين، على أنّ وصفها الدقيق لتلك المراحل كان يكشف باستمرار عن نزاع داخلي في نفسها، فهي لا تفتأ تعمل على دفع التفكير بما تفعل عن نفسها، وتميل أحيانا إلى فلسفته لإقناع نفسها بأنّ من حقها أن تعيش وفق إسلامٍ تصنعه وتتخيّله مناسبا لها، حتى تزوّجت بصديق من الوسط الفني الذي فتح أبوابه لها، وقد اعتنق الإسلام ليتمّ الزواج، ولكنّها سرعان ما أدركت أنّه إسلام ظاهري، ولا تحمّل حلية صاحبَه المسؤولية عن ذلك ما دامت هي لا تطبّق إسلامها، وقضت ست سنوات قبل أن تجد في الطلاق مخرجا من حياة زوجية لم تعد راغبة فيها. وضاعف ذلك ما بدأ يراودها من إحساس أنّها لا تعيش "حرّة" كما كانت تريد، بل تعيش وفق ما يريد الآخرون لها أن تعيش، وتزامنت تلك التساؤلات مع ازدياد العروض المغرية لها فقد أصبحت مطربة معروفة في ألمانيا وتركيا، ولم تعد تقدّم ما لديها في الملاهي الصغيرة بل في القاعات الكبرى، وبمشاركة المشهورين في الوسط الفني، ولكنّها -وهي في ذروة نجاحها الفني- تقول عن نفسها إن كلمات أغانيها الحافلة بمشاعر المحبّة، كانت موجّهة إلى الله فقط، وتعبّر عن انزعاجها شيئا فشيئا أنّ جمهورها لا يدرك ذلك، فيراها كلمات حبّ معتادة بين المحبّين من البشر، وبدأ ينتابها الاكتئاب وسط النجاح لعجزها عن الوصول برسالتها إلى جمهورها، وفي تلك الفترة لجأت -وهي في ذروة شهرتها- إلى الصلاة، فواظبت عليها، حتى كانت تؤدّيها في الغرفة الضيقة لتبديل الملابس، وتخرج بعد ذلك إلى المسرح لتغنّي، فإذا انتهت من الغناء عادت إلى مسكنها وقد بلغ بها الإعياء والإرهاق مبلغه، فلا تنام قبل أداء صلاتها. وفي ليلة من تلك الليالي خرجت بعد حفل حاشد إلى بيتها، فأدّت صلاتها وسط دموع التعب، واستيقظت فجرا فأدّت الصلاة أيضا وسط دموع الراحة والاطمئنان إلى ما عزمت عليه، حتى إذا طلع النهار، وضعت الحجاب على رأسها بهدوء، وخرجت من المنزل، عازمة على ألاّ ترفعه بعد اليوم، فتوجّهت إلى دائرة الاستعلامات عن عمل، فكان أوّل ما صنعته الاستفسار عن فرصة أخرى للعمل غير الغناء.
لم تكن نقلة التوبة واعتزال الصخب الفني سهلة عليها، سواء في نطاق أسرتها باستثناء أخيها الأكبر الملتزم إسلاميا، أو في نطان أصدقائها، أو في نطاق الوسط الفني الذي زادت عروضه المغرية عليها، فكان يمكن أن تبلغ بها أقصى درجات الشهرة في تركيا وألمانيا معا. لكنّ قرارها كان حاسما واضحا، وكانت السكينة التي وجدتها فيه، والحرية الشخصية التي استشعرتها من خلاله، واقتران اعتزال الصخب الفني بقرار العمل للإسلام في مجتمعها، عناصر بالغة التأثير في قدرتها على تجاوز العقبات التالية، والتعبير عمّا تريد في العديد من اللقاءات الإعلامية وبرامج التلفاز التي استضافتها.
عمدة ميونيخ يكرّم حلية كانديمير
بدأت تبحث عمّا يمكن أن تصنعه للإسلام في ألمانيا وقد نشأت لديها في هذه الأثناء صلات بالأوساط الإسلامية، في دار الإسلام للناطقين بالألمانية، ومركز ميونيخ، ورابطة الشبيبة الإسلامية، فاستطاعت أن تشارك مشاركة فعّالة -بمبادرة من جانبها- في تنظيم مسيرة إسلامية حاشدة ضدّ العنف والإرهاب، تركت أصداء إعلامية وسياسية كان من انعكاساتها منحها وسام تقدير من جانب بلدية ميونيخ، وتلاه العمل على كتابة سيرتها الذاتية وتجربتها في كتاب "ابنة السماء" الذي صدر عن دار نشر في ألمانيا وسويسرا.
وتزوجت حلية ثانية من شاب مسلم شاركها في تنظيم المسيرة، وأنجبت منه حمزة الذي كتبت عنه -وهو جنين- في آخر فقرات كتابها، مؤكّدة عزمها على تنشئته على الإسلام ليكون التزامه به التزاما قائما على حرية إرادته واختياره وعلى محبة الله والتأسّي برسوله صلّى الله عليه وسلم.
وتقول حلية في إحدى مقابلاتها:
(إنّ ما كنت أبحث عنه على الدوام، في الموسيقا أيضا، وجدته عند الله عزّ وجلّ، عبر تطبيق الإسلام، إنّه السلام الداخلي، فلم تعد الموسيقا هي المحور عندي، بل الله عزّ وجلّ.. لهذا لم يعد مهمّا أن أمارس الموسيقا، وقد أصنع ذلك في صيغة أغانٍ للأطفال المسلمين، أو في حفلات مخصّصة للنساء).
نبيل شبيب
موقع مداد القلم