عمّان - جعفر العقيلي
تشكل الذاكرة الإنسانية والأمثال الشعبية صوراً متعددة الأبعاد لوقع الحياة الإنسانية بعامة، ولمرحلة الطفولة على وجه التحديد، وهي تؤدي دوراً أساسياً في تكوين البنية الثقافية الشعبية، التي تشكل بدورها ذاكرة للأمة بماضيها وحاضرها واستشراف مستقبلها.
في هذا السياق يأتي كتاب "الطفل في الذاكرة الإنسانية والأمثال الشعبية: مفاهيم وعلاقات" الصدار للباحث حسن ناجي عن "دروب للنشر والتوزيع (عمّان) بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، 2010. يتناول ناجي في الفصل الأول من الكتاب والمعنون بـ"أطفال في الذاكرة الإنسانية" طفولة أربعة أنبياء هم: إسماعيل/ إسحق بن إبراهيم الخليل، موسى بن عمران، عيسى بن مريم ويوسف بن يعقوب، وهم الأنبياء الذين وردت قصصهم في الكتب السماوية الثلاثة، مبيناً في كل قصة المحور الأسري الذي تتحدث عنه طبيعة العلاقة المتبادلة بين الأبناء والآباء والأمهات، وبين الأخوة الأشقاء، ذاكراً الدلالات التربوية المستمدة من حيوات هؤلاء الأطفال، والتي يمكن إجمالها في أن من الصعب أن تكون هناك علاقة متوازنة بين الأخوة عند اختلاف الأم، وأن الأب إذا ما ميّزا فرداً من عائلته عن البقية فإنه سيخلق عداوة بين الأبناء. ويحاول الكاتب هنا أن يربط بين أمثال شعبية أشارت إلى مثل هذه الدلالات التربوية.
في الفصل الثاني وهو الأطول، يتناول ناجي "الطفل في المثل الشعبي: مفاهيم وعلاقات"، معرفاً المثل الشعبي على أنه: لغة مختصرة مكثفة رصدت السلوك البشري بكل صوره المتنافرة والمتقابلة، وعلاقاته المنسجمة والمتوترة، وقد تناقلتها ألسن العامة والخاصة لتسليط الضوء على جميع العلاقات الإنسانية، وكل علاقة للإنسان بما حوله من ظواهر طبيعية وتغيرات سياسية واقتصادية.
مورداً أمثالاً رصدت نمو الطفل في جميع مراحله، بوصفه محور الحياة الاجتماعية داخل البيت، وحددت طبيعة علاقاته بوالده ووالدته وأسرته ومجتمعه، فمن علاقة الطفل بوالده ثمة أمثال تؤشرعلى قيم تربوية وصحية ودينية، وترسم إطاراً محدداً ومختصراً للعلاقة حتى تظل متوازنة؛ لأن ذلك يقود إلى توازن الأسرة أولاً والمجتمع بشكل عام ثانياً. من ذلك: "الابن ابن ابوه" في إشارة إلى أن الطفل سر أبيه، وعادة يرى الأب في طفله امتداداً له، وهو ما يفسر اهتمام الأب بطفله ورغبته أن يكبر ليصبح مصدر افتخار واعتزاز له. ومن ذلك أيضاً: "إذا كبر ابنك خاويه"، "نزّل ابنك عالسوق وشوف مين بيعاشر"، "اطعم ابنك وكرمه بتلاقي من يحترمه".
وفي علاقة الطفل بوالدته، يورد الكاتب مجموعة من الأمثال، يحللها ويستقرؤها، مشيراً إلى أن المثل اهتم بالأم أكثر من اهتمامه بالأب، ذلك أن الأم أكثر ارتباطاً وأكثر تواجداً مع الطفل من الأب، وهي أيضاً أكثر عاطفة على طفلها من الأب، من الأمثلة التي توضح علاقة الأم بطفلها: "شافو قلبها قبل ما تشوفو عيونها"، و"الخنفسة شافت ابنها على الحيط قالت له حبة لول بخيط"، و"ابنك وهو صغير ورد تشميه، ولمن يكبر خي تداريه ولمن يتجوز جار تشوفيه".
أما علاقة الطفل بأسرته فهي تتميز بتداخلها وترابطها، وكما يوضح ناجي، فإن نظرة الأسرة العربية للطفل البكر والطفل الأصغر بين أخوته تختلف عن نظرة شعوب أخرى، فإذا كانت أوروبا في عصور قديمة كرمت الابن الأكبر بولاية العهد وبالشرف والميراث، وحرمت بقية أخوته، فإن الأسرة العربية عكست ذلك تماماً وخصت الابن الأصغر بالمحبة والاهتمام، ومن الأمثال الدالة على ذلك: "آخر العنقود سكر معقود"، و"آخر العنقود مدلل"، و"غسالة لبطون، أعز ما يكون".
يركز الكاتب على علاقة الطفل بالمجتمع بوصفه السلطة العلنية على الأفراد، وبالتالي فإن قراراته ملزمة، تأخذ صفة العرف، وما يقره المجتمع من مفاهيم وسلوكات يجب أن يتبعه الآخرون. ويناقش الكتاب مسائل محددة في نظرة المجتمع لطفل، من مثل تفضيله الذكر على الأنثى، ومن الأمثال الشعبية الدالة على ذلك: "الولد فرحة، لو كان قد القمحة"، و"ما أحلى فرحتهم لو ماتوا بساعتهم". وقد كشفت بعض الأمثال عن أن مثل هذا التمييز لم يكن بسبب جنس المولود، وإنما نتيجة للنظرة المادية التي ترى في الذكر عوناً للعائلة ومساعداً لأهله في الدخل، ومما يؤكد ذلك: "لولاد أولهم فقر وآخرهم غنى".
وكذلك يتناول ناجي الأمثال التي تحدد علاقة الطفل المعاق بوالديه الذين يريان في الإعاقة الجسدية أو العقلية قضاء وقدر، وتؤكد أن الأم أكثر اقتراباً من الطفل والتصاقاً به وعليها تقع المسؤولية الأكبر في تربيته والعناية به، وهي قادرة على التكيف مع ابنها في كل حالات نموه وفي كل ظروفه الصحية والجسدية، وهي تدرك تماماً أن عليها مضاعفة جهدها في الحالات غير العادية للطفل، من الأمثال التي تشير إلى ذلك: "أم الأعمى أدرى بنومة ابنها"، "أم الأخرس بتفهملو"، و"العمى والا الكساح".
وفي الخاتمة يشير ناجي إلى أن ما دفعه لإنجاز هذا الكتاب هو ما يؤديه المثل الشعبي من دور مهم تجاه الطفل وفهم لطبيعته وتدرج مراحله العمرية.

JoomShaper