المؤلف: عثمان جمعة ضميرية
الناشر: دار الكلمة الطيبة – القاهرة
عدد الصفحات: 120 صفحة
ذكر المؤلف في مقدمة كتابه عرضاً لكبريات القضايا المصيرية التي قد تكون مثار تساؤل لدى الكائن البشري ( خالقه، طبيعته، غايته، نهايته، علاقته بالكون...) والتي ظل يترنح حائراً دون أن يجد لها إجابة مقنعة حتى دوى بين جوانحه صوت الوحي.
ويشيد الكاتب بعد ذلك بسبق السيد قطب في وضع اللبنة الأولى للتصور الإسلامي الصحيح.
ثم طفق في عرضه يتكلم عن عمومات في التصور الإسلامي استهلها بمنهج القرآن في بيان حقائق التصور الإسلامي، مبيناً جانباً من تاريخ البشرية قبل بعثة محمد – صلى الله عليه وسلم- التي كانت السبيل المنقذ من التيه والضياع الذي كان السِّمة العامة للحياة قبلها خاصة بعدما اعتور اليهودية والنصرانية من تحريف وافتراء وشرك.
أما منهج القرآن فينسجم مع الفطرة في مخاطبة العقل ( نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) ) [الواقعة:57-63] في حيوية تستثير أغوار العقل، وتمسك بزمام الفكر في امتزاج بالعاطفة ( وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) ) [يس:33-35] في عرض منقطع النظير لعقيدة الإيمان ( وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [القصص: 88] بعيداً عن الخلط والشطط الذي وقعت فيه مناهج الانحراف وسقط فيه الفلاسفة والمتكلمون.

ثم ينتقل المؤلف إلى الحديث عن الكون في التصور الإسلامي باعتباره الوجود الخارجي الذي تطاله مدارك الإنسان وبوصفه مخلوقاً لله تعالى ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) [النمل:40] في حساب دقيق وتنظيم بديع ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا )[الفرقان: 2]، تفنيداً لكل إعراض عن الحق وكل قول بصدفة وكل نظرية بباطل ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) [الطور: 35].

إن هذا الكون يلهج كله بوجود خالقه؛ فمن قوانين الحرارة إلى نظام الحركة الإلكترونية إلى عالم الطاقة الشمسية ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2).) [الأنعام: 1-2] في انقياد وتسليم وطاعة وإذعان لهذا الخالق العظيم.. حقائق تتجدد مع كل اكتشاف وتبرز مع كل جديد ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) [ فصلت:53]، إن آيات هذا القرآن داعية إلى التفكير العلمي المنظم والتدبر الواعي بدون أن يُنظر إليه على أنه كتاب طب أو فلك أو نظريات أو تجارب.. لقد بين هذا القرآن أن هذا الكون قائم على الحق ولم يخلق عبثاً ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39).)[الدخان: 38-39] في سنن كونية ثابتة تحيطها إرادة الله المطلقة، ( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ...) [ الأحزاب:62].

وفي وحدة وتناسق كوني يقدم أوضح الأدلة على وحدانية الخالق ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) ) [ النمل: 59-61]، وإذا كانت وحدات هذا الكون متناسقة متحدة النظام مما يدل بداهة على وحدانية المنظم، وإن التناسق بين السنن الكونية والوجود الإنساني غاية في التناغم (.يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ..)[ الحج :5] فالكون مسخر للبشر ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) [ الجاثية:13].

أما علاقة الإنسان بهذا الكون فمنطلق المسلم فيها عقيدته وهذا القرآن الذي يذكر له أن الله تعالى خلق كل هذه القوى لتكون له عوناً في جو من الأنس والصداقة والود "هذا جبل يحبنا ونحبه".

فتصميم هذا الكون يهيئه لاحتضان الكائن البشري ( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) ) [غافر: 79-81]، ذلك الكون الغائب المشهود، فمنه جانب لا يدركه الإنسان، ولا يعرف عنه إلا بالوحي؛ فهو عالم الغيب وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ومنه ما يدركه الإنسان بحواسه ومدركاته... فالعقلية الإسلامية عقلية غيبية علمية مؤمنة بعالم الغيب كما هي مؤمنة بعالم الشهادة..، ويوضّح القرآن الصورة الشاملة لهذا الكون داعياً إلى النظر إليها والاعتبار بها ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ.. ) [البقرة: 16] مبرراً تناغم وحداته وجمال انتظامه ( وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا...)[الأنعام:99] في بنية زوجية رهيبة ( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ...) [يس:36] على نمط من الحركة والجريان والتبدل ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)) [يس: 38-39]في حوادث لا تنفك لها آصرة، ولا ينقطع لها ارتباط، على شكل متسلسل يكون بعضه سبباً في حدوث البعض الآخر ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ...) [ النور:43] ليؤسس للقيم الإيمانية بناء على ذلك ويبيّن ارتباطها بالسنن الكونية كتوقع الانهيار والانتكاس حال انتشار الذنوب ( فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ) [الأنعام:6].

ثم ينتقل الباحث إلى الحديث عن الحياة في التصور الإسلامي مبيناً ما كان عليه الناس من إفراط في حبها، وإفراط في الإعراض عنها ليوضح كيف عالج القرآن كلا الطرفين (...وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا...) [ القصص:77]، وكيف قدم الصورة الناصعة لنشأة الحياة في دورتها المنتظمة ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا...)[الروم:19] صادعاً بحقيقتها التي لا يرتاب فيها متأمل ( وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ...)[الأنعام:32] مثبتاً أنها ليست سوى ابتلاء واختبار ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الملك:2] باعتبارها الطريق إلى الآخرة، ولا انفكاك لها عنها ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)) [ المائدة : 65-66]، هذه الحياة الأخروية التي ليست إلا حلقة في سلسلة النشأة والمعاد (... الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة...).

إن الحقارة التي تتصف بها الحياة الدنيا تدعو إلى الزهد فيها " تعس عبد الدرهم تعس ..." زهد في إيجابية تناهض التواكل وتأخذ بالأسباب ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ..) [ الأعراف:32] وترفع شعار القيم الإيمانية ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) [الحجرات:13] تلك القيم التي تُعلي شأن الإنسان بعيداً عن الحيوانية وتجعله على وعي بمقصديته ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ..) [الذاريات:56] مدركاً لما حوله من أمم تشاركه في كثير من معالم حياته ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) [الأنعام:38] مُسْتَشْعِراً قيمة الوقت وأهمية الزمن " عن عمره فيما أفناه..." متحملاً مسؤوليته الفردية عن كل عمل يصدر عنه ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [فاطر: 18] داخل إطار من المسؤولية الجمعية.

في الوقت الذي قدر فيه الإسلام المسؤولية الفردية فإنه توازياً مع ذلك أبقى على مظاهر من المسؤولية الجمعية " مثل القائم على حدود الله – تعالى- والواقع فيها كمثل قوم استهموا..."، وقد جعل الله – تعالى- من هذه السنن الكونية التفاوت بين بني الإنسان في قدراتهم ومعايشهم وأرزاقهم.. ( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق )[النحل:71]، ولما جعل الله – تعالى- السماء محضن هذه الأرزاق استودع البشر مفاتيحها ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)) [الطلاق:2-3]. وشاء أن تكون هذه الحياة مزيجاً من الخير والشر دون تمحض لأي منهما ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً..) [ الأنبياء:35] وجعل اجتلاب المصالح ودفع المفاسد منوطاً باعتبار الدنيا مسلكاً إلى الآخرة بعيداً عن التأثر بأهواء الناس ( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ...)[المؤمنون:71] ليتسنى للبشر التعرف على آلاء الله وشكرها ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )[النحل:78] استعداداً لتلك الحياة الحقيقية الدائمة ( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64]، هذه الحياة بطرفيها الدنيوي والأخروي تظل بها أسرار مغيبة عن الإنسان مهما كانت قدرته وإدراكه ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 85]، وتظل هذه الحياة ثابتة في أصولها وجوهرها متطورة في معايشها وقدراتها ووسائلها.

ثم ينتقل الكاتب إلى حقيقة الإنسان في التصور الإسلامي، فالقرآن الكريم يفصل مصدر الإنسان ومنشأه وطبيعته ومركزه في هذا الوجود باعتباره قمة الكائنات وأكرمها( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء:70] في حسن صورة ودقة تكوين ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) [التين:4] رغم أصله الطيني ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) ) [السجدة: 7-9] مما يدحض فرية الترقي (النشوء والارتقاء) الداروينية، إذ إن نصوص القرآن متواترة على خصائص هذا الإنسان ووظائفه التي قد صاحبت خلقه؛ فهو تتمة لإبداع إلهي بما أُوتي من مواهبُ ورُزق من قوى تؤهله للتعامل مع هذا الكون المسخر له ( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ) [النور:40] وبما ركب في نفسه من خير وشر لطبيعته الطينية الروحية ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) ) [الشمس: 7-10]، وتلك الغيبية التي سبق الحديث عنها تفرض نفسها على الإنسان في خلقه وتكوينه ( اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ..) [ الرعد: 8] وهو في ذاته دليل على وجود الله تعالى وقدرته ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ. مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ..) [الحج: 5]، ثم هو مدعو للتفكير في نفسه وعجائب خلقه ( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) [ الذاريات:21] ليتبين توافقه مع الكون المحيط به في هالة من النعم المتزايدة ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ) [ إبراهيم: 34] بما زود به من آليات لإدراك الحقائق ( ... وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ...) [ النحل : 78]، مختاراً لخلافة الله في أرضه ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة:30] رغم ما تقوم عليه بنيته من ضعف جسدي وعجز نفسي ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ) [ النساء:28]. وقد حباه الله بفكر يعقل به رسالات الله ويحصّل به المعارف ويتبين به الآيات ( قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ )[آل عمران: 118]، إن مطلقية المشيئة الإلهية تجعل مرد الأمر كله إلى الله ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) [النساء:78] في تناسب دقيق بين هذه المشيئة والاختيار الإرادي للعبد في جو من الجبر ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) وإطار من الاختيار ( فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) [يونس:108] ومواجهة مع الشيطان ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) [يوسف:5]، ثم إن الإنسان بوصفه مكلفاً من قبل الله تظل علاقته بهذا الكون متمثلة في الاستثمار والانتفاع من جهة والاعتبار والاتعاظ والنظر من جهة أخرى ( وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ )[الذاريات:20] في عبودية مطلقة لله تعالى فلا يعبد إلا هو، ولا يعبده إلا بما شرع داخل سور من الحب والود ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ) [البقرة:165].

والإنسان في هذا منقسم إلى قسمين: مسلم وكافر حسب الاستجابة لمقتضيات تلك العبودية والإعراض عنها، وقد جعل الله قيادة البشرية لتلك الفئة المؤمنة ( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) [الأنبياء:105] رغم المساواة في الأصل الإنساني ( الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) [النساء:1]  (كلكم لآدم...) والذي بث منه الذكر والأنثى ( خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ) [الحجرات:13]، والإنسان بما جبل عليه من ضعف، وما ركب فيه من شهوة تجعله ميالاً إلى الخطيئة، جعل الله له منها التوبة مخلصاً ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) [ البقرة:37]، غير أن توازن هذا الإنسان واستقامته تنشأ عنها إقامة مجتمع متوازن مستقيم، فقد جبله الله على القيم العليا التي هي جزء من فطرته، وحباه بالإيمان الذي يقوده إلى كل فضيلة وألبسه تاج الإسلام، يقول قطب رحمه الله: " يبدو أن المسيحية رؤيا في عالم المثال المجرد يلوّح بها للبشر في ملكوت السماء وأن الإسلام هو حلم الإنسانية الخالد مجسّماً في حقيقة تعيش على الأرض وأن الشيوعية والمذاهب الغربية هي حقد البشرية العارض في جيل من الأجيال ".

ثم يعرج الكاتب على الحديث عن خصائص التصور الإسلامي ليستهل حديثه بمزايا هذا التصور والتي تتقدمها الربانية ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ) [الشورى:52] وموافقة الفطرة ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) [الروم:30] والتصور المبرهن ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [البقرة:111] في وسطية تدفع النشاز (...وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة:143] وتصور ثابت وكامل وشامل ومتزن في إيجابية وواقعية وتوحيد ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [ الأنبياء:25].

وهكذا يتحول الكاتب إلى الحديث عن آثار هذا التصور في حياة الفرد وللأمة، مبرزاً أهمية بل ضرورة الالتزام بشريعة الله لضبط الحركة البشرية وتحصيل الاستقامة العقلية والقلبية وتأسيس نظام حياتي كامل وشامل على ذلك التصور؛ باعتبار المجتمع المسلم هو الأولى بالحضارة دون أن يغفل آثار ذلك في النفس الإنسانية، وعلى المجتمع البشري موضحاً ما لهذا التصور من آثار في تربية النشء وتوجيه العملية التربوية بالنظر إلى قوة الوازع الديني والآفاق العالية للشعور والضمير وثبات أركان مصدر المعرفة والمنهج الرابط بين العقل والكون، وتحديد العلاقة بين المعلم والتلميذ واستحضار أثر الخوف من الآخرة في العملية التربوية والانتقائية التي ينبغي أن تطال المنهج التعليمي والقناعة بانعدام البديل عن الإيمان علما كان أو غيره.

ذلكم هو التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان كما سطرته يد الشيخ الفاضل الذي أجاد وأفاد، فلا فُض فوه، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين بما قدم خير الجزاء، وجعل هذا العمل الجليل في ميزان حسناته.

JoomShaper