قرّرت قمةُ الثماني (الكبار) التصدّق (!) بعشرين مليار دولار (فقط) لدعم الزراعة في دول العالم الثالث لمواجهة أزمة الغذاء العالمي (للعلم فإنّ خسارة بيل غيتس وحده في الأزمة المالية كان قريباً من هذا الرقم حيث وصل إلى ثمانية عشر مليار دولار)، في حين صدّق الكونجرس في عهد بوش على سبعمائة وسبعين مليار دولار (كخطة أولية) لدعم الاقتصاد الأمريكي في بداية الأزمة المالية، وضُخّت مليارات أخرى من كل حدب وصوب على مدى الأشهر الماضية، وفي قمة مجموعة العشرين اتّفق زعماؤها على ضخّ تريليون دولار إضافية في الاقتصاد العالمي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ثروات أغنياء العالم.

على الضفة الأخرى، تقول التقارير أنّ هناك نساء أفريقيات يلقين بأطفالهن في النفايات بسبب الجوع والفقر، وأنّ في العراق عوائل تعيش على ما تحصل عليه نساؤهم وأطفالهم من النفايات حيث تقول إحداهن "إن مكبّات نفايات الأغنياء غنيّة مثلهم!"، وتضيف أخرى: "إنّ أجمل ما في النفايات تلك المواد التي تُرمى سهواً عند تنظيف موائد وبيوت الأغنياء من ملاعق فضّة، وساعات وأقراط وخواتم ذهبية، وأحياناً نقود مدفونة في محافظ، وعلب مواد غذائيّة غير مستخدمة"، ويصف التقرير: "تبدو هيئات النسوة للناظر من بعيد، خاصة في الليل، أنّهنّ عمال مناجم منهمكون باستخراج المعادن على ضوء مشاعل كبيرة، هي مشاعل إحراق الغاز المصاحب للنفط عند استخراجه من حقول نفط العراق، يتخلص منه النفطيون حرقاً لعدم وجود تقنيات لتصنيعه، حيث يشكل هذا المشهد ثنائية فريدة بين البحث على ما يسدّ الرمق من المزابل وبين حقول نفطية هائلة تضيء مشاعلُ احتراق غازاتها آفاقاً بعيدة".

مفارقة يشيب لها الرأس لما انحدر إليه العالم من المادية العمياء المتغوّلة على حساب القيم الإنسانية فطالت الجميع، ولم يسلم منها لا المتديّنون ولا دعاة المبادئ الاشتراكية ولا العلمانيّون فتخلّوا عن مبادئ العدل والمساواة والإنصاف تماشياً مع قوانين العالم المادي، فأهلك الاستهلاك العلاقات الإنسانية، وقزّم الأرواح بالأنانية.

أبحث عن موقع لبعض القيم الروحانية المسكونة في تراثنا والمسكوبة فينا فلا أجد لها محلاّ في عالم توغّل في مادّيته فأكل فيه الغنيُّ الفقير، ثم لم يجد الفقير ما يأكل، فراح يأكل نفسه.

"يكبر ابن آدم وتكبر معه خصلتان: الحرصُ وطولُ الأمل"، من الحِكَم النبوية الشريفة المحفوظة والمحفورة في الذاكرة والضمير، تحذّر المرء – كلّما تقدّم به العمر - من استعباد المادة له أو أن تنال الدنيا منه، لكيلا يأكل نفسه، ويُنضّب روحه، فيحطّم قيَمه، ويفسد أعماله، بعد أن عاش حياة البساطة وتحمّل شظف العيش في طفولته .. وكان سعيداً، وحافظ على عفاف النفس ونقاء اليد في شبابه .. وكان راضياً، فإذا به ينهار أمام مغريات الدنيا ويتشبّث بعلائقها في سنيّ رشده وكهولته .. وقد فقد سعادته ورضاه وودّع سلامه الداخلي، بفعل استحواذ القوانين المادية على عالم اليوم، وطبعاً، باستعداد ذاتي للاستجابة لقيم الاستهلاك والاستملاك من كل ما هو محيط به.

التعلّق بالمادّيات يتسلّل إلى الإنسان في غفلة منه أو بتغافل ولا يدّعي أحد أنه في مأمن من السقوط في براثنها، وخاصة إذا حصل على المسوّغ الشرعي الذي يبرّر له أن ينهل منها كرواية "سعادة الزوج في ثلاث: الدابة السريعة والدار الوسيعة والزوجة المطيعة" المشهورة والتي يتشبّث بها الأثرياء والتّجار والمتنفّذون وبعض المشايخ وتابعوهم لأخذ نصيبهم من الدنيا كاملاً دون الالتفات إلى الآثار السلبية التي يتركها هذا الانكباب على تحقيق الحاجات المادّية على روحانيتهم ومعنوياتهم واهتمامهم بقضايا الأمة والمجتمع وتأثيره على المتضوّرين جوعاً بجانبهم، متناسين روايات أخرى قيلت لحفظ التوازن العاطفي والمعنوي "ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، ولكن أن لا يملكك شيء".

"لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ" .. دواء داء من يعيش في هذا العالم المتناقض الذي ما فتئ الماسكون بزمامه ينادون بحق الإنسان في الحرية والكرامة، بينما يسجنونه فيما لا حصر له من مكبّلات مادية وقيود معنوية، بما يُملون عليهم من نمط معين في الحياة والتفكير، وما يفرضون عليهم من طريقة في الاستهلاك والعيش، حتى أصبح الفرد يحدّد مدى قبوله لنفسه بتقبل العالم المادي من حوله له وبمقدار تماهيه مع هذا العالم، ولعل المثل الشعبي السائد والداعي لأن يأكل الإنسان ما يشتهي ويلبس ما يشتهي الناس.. أحد قواعد مسايرة أطباع الناس وعوائدها وإن خالفت قيمه ومبادئه، فصرنا نأكل ونشرب وننام ونتسلّى ونرفّه عن أنفسنا ونشتري ونحتفل ونفرح ونحزن كما تمليه علينا آخر التقليعات لا ما يتفّق مع مبادئنا ويحفظ توازننا، ليسمح لنا بعد ذلك أن ندخل في نادي (الأحرار).

هذه الآية – إذا لم يُفهم معناها الصحيح – قد تسبّب معضلة ذهنية لمن يريد العمل بها دون أن يستوعبها ويدرك حكمتها، فطالما تساءل البعض: كيف للمرء أن يعيش بلا مشاعر الفرح والأسى، وهل المطلوب من الإنسان أن يعيش كالآلة الصمّاء، فأي لذّة في حياة كهذه؟ مع أنها تعبّر عن العكس تماماً مما توهّم البعض، فهي دعوة لتربية إنسان متفاعل مع قضايا العالم والمجتمع ولكنه متماسك عاطفياً لينعكس تماسكه الداخلي على سلوكه فلا يُبتزّ أو يُستفزّ، ويكون ترجمان لمن وُصفوا بأنهم "نزلت منهم أنفسهم في الرخاء كما نزلت في الشدّة" فيكون فوق القشور، ويرفض أن يكون كريشة في مهب الريح مما ينتابه من مشاعر الحزن والفرح، أو يعاين من حالات الغنى والفقر.

أ.رابحة الزيرة
جمعية التجديد الثقافية - مملكة البحرين

JoomShaper