الحب، والحب فقط، هو الذي يجعل لحياتنا طعم الكرز، ولوجودنا معنى.. فلولا الحب لما ضحى الأبطال من أجل أوطانهم، والآباء من أجل أبنائهم، ولما رفعت الدابة حافرها عن صغيرها، ولما ماتت الهرة فداء صغارها. لولا الحب ما استقامت شريعة الحياة بين الأنا والآخر، ولا عطف الكبير على الصغير، والغني على الفقير.
وما أكثر معاني الحب في لغات العالم، فهو ليس فقط الغرام والوله والعشق والصبابة والود والهيام والوجد والجوى والهوى والشوق والشغف.. بل هو أيضاً التضحية والتسامح والرضا والتواضع والنبالة والقناعة.
إن علاقتنا مع الله، والمجتمع، والآخر، والذات، لا تصح ولا تسمو بغير الحب، فابتداء من محبة الله يشع نور الحب في دوائر علاقاتنا الأخرى.
ولو سألني أحد: كيف نقضي على الإرهاب والطائفية والعنف والحسد والكبر والجشع والأنانية والفقر والكآبة والحزن.. في كلمة واحدة سأقول له: الحب.. ثم الحب.. ثم الحب! تلك الكلمة السحرية التي لا تزيد على حرفين، عذبت ملايين الشعراء وغناها ملايين المطربين بكل طريقة ممكنة. الكلمة التي حيرت الفلاسفة وأربكت حسابات العلماء، فهي كيمياء خفية لا يعرف أحد معادلاتها، وأبجدية بحروف سحرية.

محبة الله

إن افتقاد الحب، هو سبب حيرتنا وعدم رضانا عن أنفسنا، بعد أن حولنا صيغ وجودنا إلى معادلة «ربح وخسارة»، كم نكسب وكم نخسر، حتى علاقتنا مع الله تنطعنا فيها، وكأنها معادلة «طقوس» شكلية نمارسها مقابل الحصول على «صك الجنة»، وتناسينا أنها في الأساس علاقة محبة روحية عميقة. فمن يقتل الأبرياء والعزل والأطفال بغير ذنب من أي دين كانوا كيف يزعم محبة الله الذي نهى عن قتل النفس إلا بالحق؟ وكيف يتباهى شخص ما بالحج سبع وعشر مرات وهو لا يعرف كيف يحب لأخيه ما يحبه لنفسه؟!

المجتمع والوطن

دائما ما نردد مقولة «الزمن الجميل» أو الحنين إلى «الأيام الخوالي»، وما هي إلا آلية نفسية تكشف حاجتنا إلى حضن الأم التي أرضعتنا وحمتنا وأدفأتنا بلا حساب. إلى حضن المجتمع البسيط في «الحي» و«الفريج»، حيث الجيران على قلب رجل واحد، يفرحون لفرح بعضهم البعض ويـألمون لألم بعضهم البعض.. تلك الحياة البسيطة، رغم الفقر، كانت تحتفي بالحب في تجلياته المختلفة، وفي معانيه الشاملة كالصداقة والجيرة والشهامة.. كان الناس مشغولين بالمعنى الحقيقي لوجودهم، بالنية الصافية في علاقتهم مع الآخر. إلى أن جاء عصر الماديات وعبادة الآلة، فلا يشغل المرء الآن إلا كنز الذهب والمال، ولا يحترم سوى من هو أكثر منه مالاً ونفوذاً، ولا يخاف إلا من هو أشد منه بطشاً.
وبعد أن كان الأهل يلتقون ويتحابون، والجيران يتوادون، أصبح لكل امرئ جزيرة منعزلة يعيش فيها مع نفسه فقط، مع اللاب توب و الـ«إم بي ثري»، والـ«دي ي دي»، والفيسبوك. نفرح اليوم بامتلاك آلة جديدة أكثر مما نفرح بكلمة طيبة تقال في حقنا.
وليس في ديوانياتنا ومقاهينا إلا حديث الحسد والحقد والغيرة والتشفي والنميمة والشائعات. ومع الوقت تتحول أمراضنا النفسية وهمومنا الثقيلة وماديتنا الجشعة إلى أمراض وأوبئة وأورام لم نكن نسمع بها قديماً إلا فيما ندر.
إن المجتمع الذي نعيش فيه هو الأخ والصديق والجار والطبيب والممرضة والمدرسة والشارع ومحل البقالة. مزيج من القيم والبشر والأشياء والذكريات التي تشكل في خاتمة المطاف معنى الوطن. وللأسف يتعامل البعض مع أبناء وطنه معاملة العدو، بل وينظر إلى الوطن نفسه كأنه «حساب جار في بنك»، بقدر ما يعطيني من فائدة أخدمه، أو كأنه أغنية نرددها دون أن نفكر حتى في معانيها.
إن حب الوطن وأهله وقيمه وحتى الطيور السابحة في فضائه، يدفعنا للعمل بإخلاص كي نرى وطننا في مكانة أفضل. يجعلنا نفكر ألف مرة قبل أن نرتشي، وقبل أن نستغل الوظيفة العامة لحسابنا الخاص. حب الوطن هو ما يجعلنا نقوم بكنس شوارعه بفخر واعتزاز، تماماً مثلما يرابط الجنود على حدوده بكرامة وعزة. لكن أنانيتنا المفرطة وحساباتنا الضيقة هي التي صغرت حجم الأوطان في أنفسنا، وحولتها إلى «فندق للنوم» أو «مزرعة» للكسب، وكل ما يهمنا ما نربحه أولاً ثم يأتي الوطن تالياً. فلو فكر من يستورد مثلا اللحوم الفاسدة أن أولاده أو أحفاده سيكونون من ضحايا فساده، لتردد ألف مرة قبل أن يفعلها! ولو آمن كل منا أن نسيج المجتمع المتعاطف المحب هو الضمانة الوحيدة والأكيدة لمستقبل أولادنا وأحفادنا، لغاب الكثير من السلبيات التي نعاني منها في مجتمعاتنا العربية كالرشوة والمحسوبية ورداءة التعليم وتدهور الخدمات الصحية وفساد الذمم. لو أحببنا أوطاننا بصدق لصنعنا المعجزات من أجلها، مثلما سالت دماء بريئة واستشهدت من أجل غد أفضل للوطن.

الرجل والمرأة

نأتي إلى علاقة الرجل بالمرأة التي هي أساس الوجود البشري كله، ومفتاح السعادة. ثمة كثيرون يتحدثون دائماً عن الفروق بين الاثنين في فهم الحب ومعناه، فمثلا بيرون يقول: «الرجل يحب ليسعد بالحياة والمرأة تحيا لتسعد بالحب»، وتقول سيمون دي بوفوار: «الحب جزء من وجود الرجل لكنه وجود المرأة كله». لسنا في وارد البحث أيهما أكثر عاطفية من الآخر: روميو الذي آثر أن ينتحر بعدما اعتقد بانتحار حبيبته أم جولييت التي آثرت الانتحار كي تكون إلى جوار حبيبها في العالم الآخر؟! كما لسنا في وارد المقارنة التي تذهب إلى أن الحب مجرد مدخل للرجل لبلوغ النشوة الجنسية، بينما تلك النشوة بالنسبة للمرأة هي تتويج لعاطفة روحية عميقة.
بعيداً عن الفروق والخلافات بين الجنسين، يبقى الحب احتياجاً حيوياً كي تستمر الحياة بين الاثنين، وكي يستمر الجنس البشري كله، فلا طعم لزواج بلا حب، ولا علاقة حب تنجح إذا افتقدت معاني الاحترام والمودة والرحمة. فمن يزعم لصديقته أنه يحبها ولا يقدر على بعدها إلى أن يمتلك جسدها ثم يتوارى عنها مثل كلب جبان، هو إنسان لا يحترمها بالأساس روحاً وجسداً. ومن تزعم لزوجها أنها تحبه ثم تتصرف بأنانية وحدة فلا تراعي همومه وظروف عمله، هي امرأة كاذبة في حبها.. الحب نعمة تزين حياتنا، وحيثما وجدتْ وجدتْ برفقتها كل المعاني الجميلة، والكراهية التي هي نقص في منسوب الحب نقمة حيثما ذهبتْ ذهبت وراءها كل المعاني الذميمة.

مرآة الآخر

الآخر، هو ذلك البعيد الذي يقف خارج دائرتي، هو اللاعب الخصم في الفريق المنافس، هو المعارض، هو الأجنبي، هو المخالف لي في المذهب الديني، هو غير المنتمي إلى فئتي الاجتماعية. هو في أغلب الأحيان: العدو!
هكذا يظل المرء يصنع لنفسه دوائر تصغر وتكبر، ويضع فيها ما يشاء من الأعداء، ابتداء من زميله على المكتب المقابل في العمل. وهكذا يختلق الحروب تلو الحروب ضد الآخر العدو. وإذا لم يجده، توحد ضده في أفلام الأكشن وألعاب الفيديو جيم!
أو ليس من الأفضل لنا، أن نعيد رؤيتنا للآخر، أن نكتشف معاً المعاني الإنسانية النبيلة المشتركة بيننا؟ وبدلاً من أن نؤسس علاقتنا معه على الحقد والغيرة والعداء، نؤسسها على المحبة والتسامح وتبادل الأفكار والخبرات. بدلاً من أن نكره السني والشيعي والأرثوذكسي والكاثوليكي والبوذي والصابئي، ونقيم عداء مستحكماً لا نهاية له إلا بدمار الأرض وما عليها، لنهتد بالآية الكريمة «تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم»، إلى الكلمة الطبية والرحمة والعدل والتسامح.
إن الآخر هو المرآة التي نرى فيها وجودنا، وإذا انتفى وجوده فقد وجودنا أي قيمة أو معنى. هو من يشاطرنا الأحزان ويشاركنا الأفراح، مهما اختلف معنا في الهوية والدين واللغة والعرق. وإذا كان هذا التعدد والاختلاف بين البشر مدعاة للصراع والتنافس المذموم، فإنه بالدرجة نفسها مدعاة للتنوع وتبادل الخبرات. ولذلك لا ينظر بإيجابية إلى الآخر، إلا شخص إيجابي يثق في نفسه وفي قناعاته الروحية والفكرية.
أما أصحاب النظرة العدوانية فهم أشخاص موتورون عاجزون عن الحب.. عن الرحمة.. عن التسامح. ولعل هذا هو التحدي الأعظم الذي دعا إليه المسيح عليه السلام حين قال: «تحب قريبك وتُبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مُبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم».
فيا ليت ينظر كل منا في مرآة ذاته: كم مرة تحدث عن الآخرين في غيابهم بحب؟ كم مرة تمنى الخير لغيره بصدق؟ كم مرة تطوع لعمل الخير حباً في الله؟ كم مرة ساعد محتاجاً أو مسكيناً ومعاقاً أو يتيماً حباً في إنسانيتنا المشتركة؟ إن ما نعانيه في أيامنا هذه من فتن وعنصرية واستعلاء على الخلق وجهل وتعصب وجرائم لا يصدقها عقل ولا يرضى بها قلب سليم، كل هذا مرده إلى «نقص في فيتامين الحب».. نقص مدمر يدفعنا للتكبر والغطرسة والتعالي على الآخر وكراهية المختلف عنا في اللهجة والع.رق والمذهب والدين.

 

جريدة القبس

JoomShaper