مشكلة بحجم الأجواء العدائية ضد الإسلام عموما بالغرب وضد الحجاب خصوصا كمظهر شكلي يميز المسلمات لن يكون حلها بأي حال من الأحوال هو مجرد حملات إعلامية تحسن من صورة المسلمين التي كثيرا ما استخدمت نفس الأبواق الإعلامية لوصمهم بالإرهاب.

كان هذا ما حدثت به نفسي وأنا أستمع لقصة مروة، وبدأت أستعيد في ذهني بعض اللقطات التي صادفتني منذ نزولي على أرض ذلك البلد، وكيف أنني شعرت بضغط نفسي لم أعهده في سفريات ماضية.. قد أكون غير معتادة على الشخصية الأوروبية الجافة؛ فهي أول مرة لي أسافر فيها لأوروبا، وقد يكون سوء حظي أوقعني ببعض الشخصيات المتحفزة، لا أعرف سببا محددا لشعور لازمني حتى عودتي، وهو أن الألمان ليسوا شخصيات ودودة.

مطار فرانكفورت.. "لا توجد فكة"

ولأنها سفرتي الأولى لدولة لا أتحدث لغتها كان علي أن أستعد أكثر بكل المعلومات التي سأحتاجها حتى أصل لجزيرة "لينداو"، ومنها قيمة تذكرة القطار الذي سيقلني من مطار "فريدريش هافن"، أحد المطارات المحلية، وحتى الجزيرة.. قيمة التذكرة 5 يورو و10 سنتات، يجب أن يكونوا في شكل عملة معدنية، هذا ما علمته من موقع القطارات الألمانية على الإنترنت، لذا بمجرد نزولي مطار فرنكفورت أولى محطاتي في هذه الرحلة، فكرت في شراء أي شيء لآخذ الباقي في شكل عملة معدنية.

ذهبت لأحد محال المطار وأمسكت قطعة شيكولاتة وذهبت لأحاسب.. أعطتني البائعة معظم الباقي عملة ورقية، فسألت: "هل يمكن أن أحصل على الباقي عملات معدنية".. أتاني الرد بتحفز غريب: "لا.. وابتعدي عن الصف حتى أكمل عملي"، لم أسأل عن شيء غريب لأنال هذا التأنيب.. أخذت الباقي وذهبت لمحل آخر، اشتريت مرة أخرى شيكولاتة وحصلت على مبلغ التذكرة.

مجرد بائعة تعاني من يوم سيئ.. هذا ما بررت به لنفسي ما صادفني من تجهم.

فريدريش هافن.. حقائبك ستصل غد

وصلت مطار فريدريش هافن بعد ساعات من الترنزيت.. مطار صغير جدا ليس به جوازات، فقط تصل فتلتقط حقائبك ثم تخرج فورا.. ما ألطفه! ذهبت مسرعة أبحث عن حقائبي لألحق بالقطار.. خرجت حقائب الراكبين.. كل أخذ حقيبته وخرج.. توقف سير الحقائب ولم تظهر حقيبتي، سألت أحد حراس الأمن: "هل هذه كل الحقائب؟" فرد: "نعم"، فبادرته متعجبة: "حقيبتي لم تأت!" قال: "اذهبي آخر الممر وقدمي شكوى بمكتب تتبع الحقائب المفقودة".

أسرعت وأنا مصدومة أفكر: ماذا سأفعل؟ كيف سأتصرف وجميع أغراضي بتلك الحقيبة؟ وجدت المكتب، وأتت المضيفة فقلت لها حقائبي لم تصل، فلم ترد بأي كلام.. فقط أخرجت من الدرج ورقة بلاستيكية بها أشكال كثيرة للحقائب وضعتها أمامي والتفتت لجهاز الكمبيوتر أمامها ثم قالت: حددي شكل حقيبتك من الأشكال التي أمامك ولونها، ثم اذكري لي أين تقيمين بألمانيا، وأعطني جواز سفرك.

فعلت ما طلبت، فأخذت تضع المعلومات بجهاز الكمبيوتر أمامها ثم نظرت لي قائلة: وفقا للنظام حقائبك لا تزال بفرانكفورت، ستأتي بطائرة المساء، وسنرسل لك حقائبك على الفندق غدا صباحا.. سألتها هل أنت متأكدة أنني سأحصل على حقائبي؟ نظرت لي بتعجب كأنني سألت سؤالا شديد الغباء.. وكررت: سنرسل لك حقائبك غدا صباحا.. حسنا، مجرد مضيفة متأكدة من فاعلية نظام شركتها.

محطة القطار.. المشكلة حجز تذكرة

خرجت وأنا غير سعيدة وشديدة القلق على حقيبتي.. أمام المطار مباشرة علامات تدلك لمكان القطار.. صحيح كلها بالألمانية لكن الإشارات لا تحتاج لكلام، وعلى رصيف المحطة وجدت سيدة سألتها: هل على هذا الرصيف يأتي القطار الذي يذهب لـ"لينداو"؟ ردت: نعم لكنك لن تستطيعي ركوبه فها هو القطار وصل ولم تحجزي تذكرة! نظرت فوجدت بالفعل القطار يتوقف بالمحطة.. صعدت السيدة القطار وتركتني بلا أي تعقيب.

إذن علي انتظار القطار التالي خلال ربع ساعة أو أكثر قليلا.. الأهم الآن أن أقطع التذكرة، ذهبت لماكينة بزاوية المحطة أظن أنها الخاصة بقطع التذاكر.. تطلعت بها، كل المكتوب عليها تعليمات بالألمانية.

حاولت في البداية إدخال العملات لكن فوجئت أن الفتحة بالماكينة مغلقة! وجدت شخصا يمر بجواري، التفت أسأله كيف تعمل تلك الآلة، وبمجرد أن سألته: "من فضلك كيف أقطع تذكرة للينداو؟" أشاح لي بيده واستمر في السير غير مبال بسؤالي.. رد فعل غريب! استمررت في محاولاتي لأستعمل تلك الآلة حتى خرجت أخيرا التذكرة، وعندما حصلت عليها كان القطار التالي يمر، فاضطررت لانتظار قطار تال.

لينداو.. ومحجبات كثر

وصلت أخيرا جزيرة "لينداو" الواقعة ببحيرة كونستانس أكبر بحيرات قارة أوروبا، والتي يطل عليها ثلاث دول هي: ألمانيا، وسويسرا، والنمسا.. بحر وخضرة، وشوارع شديدة النظافة، وبيوت صامتة كأنه ليس بها أحد.. هذا يلخص ما رأيت بالجزيرة.. لكن أهم ملمح تلتقطه سريعا أن أكثر من80% ممن تراهم من المشاة أعمارهم فوق الستين.

وليس مشهدا غريبا أن ترى نساء محجبات يمشين بشوارع الجزيرة.. في البداية تعجبت لكثرتهن لكن اعتدت ذلك وتفهمته عندما علمت أن الجالية التركية بألمانيا هي أكبر الجاليات؛ فهي تمثل 25% من مجمل الجنسيات الأجنبية بألمانيا، أي حوالي مليون و700 ألف شخص من أصل ما يقرب من 7 ملايين أجنبي، وفق مكتب الإحصاءات الألماني.. الغريب أني كنت ألحظ عادة الأمهات في الأربعينيات محجبات وبناتهن يسرن بجوارهن في العشرينيات أو أقل وهن سافرات.

وبما أن الأتراك على الجزيرة كثر أيضا تجد الكثير من محلات الطعام التركية التي تقدم الطعام الحلال للمسلمين.

كان أحد تلك المحال مباشرة أمام الفندق الذي أقيم به، ويوميا أجلس أحتسي به الشاي أو آكل الشورما أو "الدونر" كما يسميها الأتراك.. صاحب المحل وزوجته كانا يتحدثان التركية والألمانية فقط، وأنا لا أعرف كليهما، لذا كانت لغة الإشارة والكلمات المشتركة بين اللغات هي وسيلة التواصل الوحيدة بيننا.

بمجرد أن تراني زوجة صاحب المحل كأنها أخيرا وجدت أحد أقاربها، وكأنه ليس لها أحد تحادثه أو تتجاذب معه أطراف الحديث.. أجدها تركت العمل داخل محلها وبسرعة جلست جواري تحاول جاهدة أن تتجاذب معي أطراف الحديث من غير لغة.

حكت لي كيف تركت بلادها وعاشت هنا منذ فترة طويلة، وكيف أن ابنتها تخرجت وتعمل طبيبة أسنان منذ ثلاث سنوات، وعادت لإستانبول، وكيف أن ابنها النابه يستطيع أن يحادثني بالإنجليزية لأنه يجيدها.. وأمها كانت من فلسطينيي 48 وغادرت فلسطين لتعيش بتركيا وتتزوج والدها.. كل هذا بلغة الإنسانية المشتركة لا بلغة الألسن المختلفة.

تأكدت أنها لا تجد وسط هؤلاء الألمان الجافين من يسمعها.. إنها تفتقد لصديقة.

أحد علماء نوبل: لما لا تصافحن؟!

وبدأ الملتقى الذي جمع 23 من الحائزين على جائزة نوبل بالكيمياء بـ600 من صغار الباحثين من أكثر من 67 دولة.. أكثر المشاهد التي بهرتني هو أيضا تواجد حوالي 12 فتاة محجبة بين صغار الباحثين بعلم الكيمياء، فمن باكستان وإيران وإندونيسيا وماليزيا ومصر والأردن والسعودية فتيات عالمات سافرن من بلادهن البعيدة لحضور هذا الملتقى العلمي، وبالتحاور معهن كن في غاية التفتح والطموح.

كان من فاعليات الملتقى أن يجتمع في كل يوم عدد لا يتجاوز عشرة طلاب بأحد علماء نوبل لمدة ساعتين يسألون خلالها ما يروق لهم من أسئلة علمية ويتحدثون عن أبحاثهم، وفي أحد الأيام أتتني إحدى الباكستانيات تشتكي من نهر أحد علماء نوبل لها، فبمجرد أن ألقت سؤالها العلمي عليه في إحدى تلك الجلسات حتى تجاوزه العالم وتساءل إن كانت بالأصل تحترمه، حيث لم تصافحه باليد كما فعل بقية الطلاب، وكيف لأنها محجبة امتنعت عن المصافحة، وهذا أمر لا يقبله، وفي النهاية لم يجب عن سؤالها العلمي وتجاوزها.

حتى العلماء ليس لديهم إدراك واضح لماهية المحجبة وحدودها، وبالتالي يقابلونها بكل تحفز.

لما لا تأكلون الخنازير.. ألا تتطورون؟!

حضر الملتقى ما يقرب من 40 صحفيا من مختلف دول العالم، وضمن الفاعليات حفل عشاء جمع كل هؤلاء الصحفيين للتعارف.. وعلى كل منضدة يجلس من 4 إلى 6 أشخاص.. كان على منضدتي صحفي ألماني وزوجته وصحفية أردنية.

بدأنا نتعرف، كل منا على الآخر.. بالتأكيد تعرفت على الصحفية الأردنية من قبل، لذا كان التعرف أكثر على الصحفي الألماني الذي يعمل بمجال الأفلام الوثائقية العلمية، وزوجته الطبيبة بأحد المصانع بميونخ.

بدأ الحوار يخرج من التعارف إلى الانقضاض بعد أن نزل طبق السلطة على المنضدة، فبدأنا نمطر بالأسئلة لماذا لا تأكلون لحم الخنزير؟ رددت: عذرا في ديننا محرم علينا أكله، سأل الصحفي: ولما هذا؟ رددت: هي أوامر الله وعلينا إطاعتها.. كرر السؤال: لكن أليس هناك سبب منطقي لعدم أكله؟ أعرف أن رسولكم أمركم ألا تأكلوه لأنه كان به ديدان وينقل أمراضا، لكن هذا كان من مئات السنين، الآن هناك أطباء بيطريون يفحصون الخنازير ويعالجونها؛ فلا تقدم لنا لحومها إلا وهي صحية تماما.. ألم يحن الوقت لتتطوروا؟ رددت: من أمرنا هو الله وهي محرمة علينا.. لذا علينا الطاعة.. سكت الألماني وقتها وحول الحوار للحديث عن السياحة.

كانت الموقعة التالية عندما نزل الطبق الرئيسي، وكان سمكا مطهيا بالخمر، وأيضا لم نقترب منه.. فبدأ يسخر بشكل أكبر: ألن تأكلوا فقط لأنه مطهي بالخمر، ألا تفهمون من العلم شيئا؟! الكحول سائل طيار يطير عند درجات الحرارة العالية التي يطهى عليها هذا السمك.. رددت: عذرا.. الخمر لدينا محرم ولا نستطيع أكل الأشياء المطهية به.

وقتها فزعت صديقتي الأردنية.. وقامت من المائدة معلنة لهذا الصحفي أنه ليس لديه اللياقة الكافية لإدارة الحوار.. وأنها لن تتقبل منه المزيد.

على الأقل استطعنا المواجهة لبعض الوقت.. لكن مستوى الوعي المطلوب لحل الإشكالية لا يزال يبدو بعيدا.

ألا تشعرين بالحر تحت الحجاب؟!

خلال أيام تواجدي بألمانيا كان الجو شديد الحرارة بالنسبة لأجوائهم، وشديد الرطوبة مما يزيد الإحساس بالحر.. بدأت علاقتي ببعض الصحفيات من مختلف الدول تتوطد أكثر بعد مرور أيام، وباليوم الأخير كان لدينا متسع من الوقت للحديث الشخصي عن أحوالنا خلال رحلة عودة للينداو مدتها ساعتان من جزيرة ميناو الموجودة أيضا ببحيرة كونيستانس، والتي أقيم عليها حفل الختام.

ضمت الجلسة صحفية هندية من بنجالور، وأخرى مكسيكية من نيومكسيكو، وشيلية من سانتياجو، والسؤال الذي افتتح الحوار بعد أن جلسنا ملتفين نتبادل الآراء حول المؤتمر جاء من الشيلية حيث قالت متحرجة: "أرجو ألا تأخذي سؤالي على محمل الإهانة، لكن ألا تشعرين بالحر وأنت ترتدين هذا الزي؟" كانت إجابتي: "طبعا أشعر بالحر".. ضحك الجميع فلم يتصورن أن أعترف، وتخيلن أنني سأدافع، لكنني أردفت: "إننا كمسلمات مع الوقت نعتاد ارتداء الحجاب"، فنحن به نطيع الله؛ لأنه من أمرنا به.. فوجدت الهندية تتحدث عن أمها التي لا تزال تلف نفسها بأكثر من ستة أمتار من القماش حسب تقاليدهم، وكيف أنه بالفعل يعتاد الإنسان مثل هذه الأزياء ما دام تربى عليها.

وكأنني فتحت بابا لأشياء كثيرة كانت تحيك بصدورهن حول زيي، فأخذن يسألن عن السن الذي نبدأ فيه ارتداء الحجاب، وعن اختلاف أشكاله، وعن وجود قانون يفرض علينا ارتداءه من عدمه، وعن.. وعن... حوار طال أظن أنهم ظهرن بنهايته على قناعة أنني مقتنعة بما أرتدي وأنني سعيدة به غير مرغمة عليه، فأصبحن أقرب وأكثر تبسطا بالحديث بعد أن كان حديثهن دائما حذرا.. بدأن يتحدثن عن شئونهن الخاصة وإدارة منازلهن وتربية أولادهن، ومهنتهن كصحفيات.. وطال الحديث.

كأنهن وددن في البداية الاطمئنان أنني لست كائنا مختلفا.. لا أعرف هل كونهن من شعوب نامية سهل مهمتي في إقناعهن بأنني كائن يؤلف.. أم أن مستوى وعيهن بالمشكلة كان مختلفا عن الألمان؟

انتهت رحلتي، وعدت وأنا لا أزال أفكر في هذا الشعب المختلف أو على الأقل من شهدت منه من أشخاص مختلفين، هل يمكن أن نحل ما تعقد بداخلهم من مشكلة تجاه أشكالنا نحن المسلمات المحجبات أم أن المشكلة تحتاج لحل مختلف؟.

بثينة أسامة

إسلام أون لاين

JoomShaper