داليا الشيمي
لكل إنسان منا شخصية تميزه عن غيره، يملك هذه القدرة ويفتقد لهذه السمة ويتفوق في هذا الإستعداد وتنقصه هذه المهارة، وهذه التوليفة النوعية هي التي تجعل لكل فرد شخصيته المتفردة التي تشبه بصمة اليد لا تتكرر مهما وحدنا التربية أو حتى الجينات، فالأخوات حتى التوائم نلحظ إختلاف فيما بينهما رغم توحيد العوامل الجينية، وتوحيد بيئة الرحم وتوحيد التنشئة في نفس البيت مع نفس الوالدين.
وعلى الرغم من هذه الفروق والإختلافات ونظراً لكون الإنسان كائن إجتماعي في الأساس، فهو يسعى دائماً لإيجاد عوامل مشتركة بينه وبين الأخرين ليستطيع أن يتفاعل معهم، ويتم هذا إما بفعل القانون أو القواعد التي تضعها الجماعة ويتفق عليها المجتمع- مثل تنظيم العلاقة بين الزملاء في العمل أو قواعد التعامل بين الموظف والعميل، أو تكون- أو تكون أشكال إختيارية يضعها الإنسان ليتوافق مع الجماعة التي ينتمي لها .
وسعي الفرد للظهور بمظهر مقبول إجتماعياً هو ما نسميه بالرغبة في الحصول على المرغوبية الإجتماعية، بمعنى أن يفعل ويُظهر ما يجعله مرغوباً ممن يتعامل معهم وتربطهم به علاقات مختلفة.
وكل إنسان لديه هذه الرغبة ويدفع من أجلها بأن يخفي بعض عيوبه أو يُظهر بعض الميزات التي تثمنها الجماعة التي ينتمي لها أو التي يرغب في الإنتماء لها، وهي حالة من حالات التوافق التي يحتاجها الإنسان ليقضي حاجته في أن يكون دائماً على تواصل مع أخرين تحقيقاً لتوصيفه بأنه كائن إجتماعي.
إلا أنه على الرغم من ضرورة أن يسعى الفرد للحصول على المرغوبية الإجتماعية بأن يخفي شئ ما داخله أو يسعى لتجميل نقطةٍ ما يرى أن الجماعة لن توافقها أو تقبلها، إلا أن المبالغة في السعي وراء هذه المرغوبية يفقد الإنسان هويته الحقيقية.
فإذا ما إنتمى الفرد لأكثر من مجموعة أو جماعة- وهو أمر طبيعي لتعدد نوعيات العلاقات- وسعى في كل واحدة منهم للحصول على المرغوبية الإجتماعية بأن يُظهر ما ترغب فيه الجماعة بغض النظر عن تكوينه الداخلي، فسوف يتحول إلى شاشة تعكس أي شئ يُعرض عليها، فتجده يتحدث بلسان التدين والمفردات الخاصة بالدين إن هو ذهب لجماعة المسجد، ونجده يتحدث بلغة(الروشنة) إن هو قابل جماعة الأقران، ونجده يتحدث الفصحى إن هو تواجد في مجتمع أدبي، ونجده .. ونجده.. ونجده.
وقبل أن يعترض البعض على أن هذا هو التوافق وأن ما يقوم به هذا الشخص يندرج تحت مقولة( لكل مقامٍ مقال) أقول أن إشكالية الباحث بشراهة عن المرغوبية الإجتماعية أنه ينسى أن يكون (هو) فيتحول دائماً إلى (هؤلاء)، وعلى حسب نوعية هؤلاء تجده(هو) دون أن يكون له في هؤلاء أو هؤلاء شكل أو معنى أو موقف، وكأنها حالة من طمس الهوية، مقبولة بدرجة كبيرة في المراهقة، ولكنها غير مقبولة في النضج، فيصبح الشخص كمن يقف دائماً عاري ينتظر أن يدخل مكان فيرتدي عباءته.
وتتكون هذه الحالة من الشعور بالنقص، وتظهر أيضاً من فقد الثقة بالذات، فلا يرى الفرد لذاته قيمة أو معنى إلا لو كان في (قطيع) يُظهر نفس صوته ويتحرك بطريقته ليكون في مأمن من النقد نتيجة للإختلاف، فدائماً ما نرى المُختلِف الناضج قادر على توضيح وجهة إختلافه ويدافع عنها، أما الأخر الذي تحول إلى شاشة فهو شخصية إستسهالية، قررت أن تكون ضمن(هؤلاء) حتى لا تدفع ضريبة (أنا) .
الحقيقة إن بعضاً ممن حولنا يعيشون هذه الحالة دون أن يدروا، المهم أن يكونوا بعيدين عن المشاكل الفردية، فيكونوا (هؤلاء) بمنتهى الإخلاص ويرفعوا رايتهم، وحين يذهبون لهؤلاء غيرهم يكونون أيضا(هؤلاء) بمنتهى الإخلاص ويرفعوا رايتهم، والكارثة في كل هذا أنهم أبداً لم يفكروا مَنْ هُم ؟!!!
فهو يعرف نفسه دائماً بأنه ينتمي لكذا وأنه عضو في كذا، ولكنه أبداً لا يُعبر عن نفسه حتى بينه وبين نفسه، وتكتمل المأساة حينما يُدرك واحد من (هؤلاء) هذه الحالة عند هذه الشخصية، فيحوله بسهولة إلى (عبد) يطيع كل شئ ويفعل ما يثملى عليه، وإلا ....... فالخروج أو التهديد، فنجد جماعة الأقران تدفعه للمخدرات أو تدفعه للعنف، أو غيرها، المهم أن يُنفذ حتى يُبْقِى على ذاته الذائبة في (هؤلاء) وقد يدفع حياته كلها في واحدة من المحاولات التي يقوم بها للإبقاء على ذاته مقبولاً داخل هذا النطاق أو غيره، وللأسف هو لا يعبأ بالموت بل وقد يتحرك له بمنتهى الإصرار، ذلك أنه في هذه الحالة حُكم بالإعدام على ميت بالفعل.
حفزوا أولادكم على الحفاظ على حدودهم الخاصة مهما إنتموا، وتقبلوا اختلافاتهم مع طرقتكم في الأسرة أو طريقة المدرب في النادي أو المعلم في المدرسة أو الإمام في المسجد، فما يجب أن نعتني به ونحرص عليه هو تدريبه على (الطريقة) اللائقة للتعبير عن الإختلاف، وليس (عدم الإختلاف) في حد ذاته .
عين على بكرة للمساندة النفسية والتنمية الأسرية