د. محمد سعيد رمضان البوطي

يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه «من الفكر والقلب» - فصل الدين والحب: (الحب هو من جملة الانفعالات القسرية التي لا سلطان عليها)، أي أن الحب يدخل إلى قلب الإنسان دون إرادة صاحبه، فلا يملك أن يمنعه من الدخول إلى قلبه، أو أن يجلبه إليه متى شاء. ومن هنا جاء دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تؤاخذني فيما لا أملك)، وكان يعني ميل قلبه صلى الله عليه وسلم إلى عائشة رضي الله عنها أكثر من بقية نسائه، بمعنى أنه حين يعلق قلب الإنسان بامرأة لا يأتي الإسلام ويقول له: يجب عليك أن تُخرج هذا الحب من قلبك. وإنما يضع الإسلام أمامه المنهي عنه في قضايا التعامل مع المرأة مثل النهي عن النظر والمصافحة والخلوة وما هو أكثر من ذلك.. وفي المقابل يفسح المجال له في الزواج ممن أحب. فالحب لا يدخل في دائرتي الحلال والحرام، فلا نستطيع أن نقول أن الحب حلال أو أن الحب حرام. ولكن إن وقع المسلم في الحب فعليه الالتزام بتعاليم الإسلام الخاصة بتعامل الرجل مع المرأة.
والحب من العواطف الإنسانية الموجودة في الإنسان كالحزن والفرح والغضب وغيرها.. وعلى المسلم أن يهذّب هذه العاطفة ويوجّهها الوجهة الصحيحة التي تتفق مع الشرع.

والمسلمون في العصور السابقة لم ينظروا إلى عاطفة الحب كما ينظر إليها المسلم المتديّن اليوم، فعلى سبيل المثال ألّف ابن حزم - وهو من الأئمة المجتهدين - كتاباً عن الحب وسماه (طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاف)، وألّف ابن القيم الجوزية كتاباً آخر عن الحب اسمه (روضة المحبين ونزهة المشتاقين)، وهذان الكتابان يتناولان الحب ودواعيه والشوق والوصال والهجران وكل مفردات الحب ومعانيه.

ومما يُروى في زمن التابعين أن العابد عبد الرحمن بن عبد الله المكي - وهو من رجال مسلم - الذي اشتهر بلقب (القس) لشدة عبادته، أنه أحب الجارية المغنية (سلامة)، لكن هذا الحب لم يُوقعه في المحرمات، بل حدث العكس من ذلك فقد قدّم أُنموذجاً رائعاً للمؤمن الذي يقع في الحب دون أن يقع في المحرمات، وهو لم يستطع الزواج منها، وإنما صبر واحتسب وأرجأ وصالها إلى يوم القيامة، مستدلاً بقول الله تعالى: <الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين> الزخرف آية 67، وقال أحد الشعراء على لسانه:

قالوا أحب القسُّ سلاّمة           وهو التقي الناسك الطاهرُ

كأنما لم يدر قلبي الهوى           إلا الغويّ الفاتك الفاجرُ

يـا قومُ إني بشر مثلكم          وفاطري ربكم الفاطرُ

لـي كبد تهفو كأكبادكم       ولي فؤاد مثلكم شاعرُ

وتبعاً لما ذكرته عن الحب فإن شعر الحب والغزل لا شيء فيه إن وُجّه الوجهة الصحيحة التي تتفق مع مفاهيم الشرع، وقد وضع العلماء شرطين لشعر الحب والغزل:

الأول - أن لا يكون غزلاً فاحشاً.

الثاني - أن لا يكون في امرأة معينة ، حفظاً لأعراض الناس.

لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن شعر الغزل، وسيرته تحكي عنه أن كان يسمع شعر الغزل كأي غرض من أغراض الشعر. بل لقد ثبت ـ في أحاديث متواترة ـ أن كعب بن زهير أنشد بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم قصيدته المشهورة (بانت سعاد) وقد افتتحها بمقدمة غزلية يقول فيها:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ                             متيّمٌ إثـــرها لـم يُفـدَ مكبـــولُ

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا                             إلا أغـنّ غضيض الطرف مكحولُ

تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت                       كأنــه منــــهلٌ بالـراح معلولُ

هيفاء مقبلــة عجـزاء مدبـرة                       لا يُـشـتكـى قصر منها ولا طولُ

فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أعجب بالقصيدة، إلا أن أعطاه جبّته كمكافأة له، و(سعاد) هنا ليس اسماً لامرأة معينة وإنما هو اسم مشاع عند الشعراء يستخدمونه كناية عن الحبيبة بحيث يكون الشاعر في حال فرح وسعادة ووصال، ويستخدمون اسم (فاطمة) عن هجران الحبيبة كما في قول امرىء القيس في معلقته:

أفاطم مهلاً بعض هـذا التدلل                           وإن كنتِ أزمعت صرمي فأجملي

ومن المشهور أيضاً أن بعض قصائد حسان بن ثابت رضي الله عنه التي قالها في صدر الإسلام كان يبدأها بمقدمة غزلية، وكان ينشد هذه القصائد أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قصيدته التي مطلعها:

تبلت فؤادك في المنام خريدة                               تسقي الضجيع ببارد بسّامِ

وورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يحث على الغزل في الأعراس، فقد روى الطبراني وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها أنها زوّجت يتيمة من الأنصار، وكانت عائشة فيمن أهداها إلى زوجها، قالت: فلما رجعنا قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قلتم يا عائشة؟ فقالت سلّمنا ودعونا بالبركة ثم انصرفنا. فقال لنا عليه الصلاة والسلام: إن الأنصار قوم فيهم غزل، ألا قلتم يا عائشة:

أتيناكـم أتيناكــم                                    فحيونـا نحييكـم

ولولا الحبة السمراء                             مـا حلت بواديكم

ومعنى البيت الثاني: ولولا عروستكم الجميلة ما جئنا إليكم وخطبنا منكم.

وأنا أعجب من حال المسلم اليوم الذي يرفض سماع شعر الحب والغزل، فإذا كان الأنصار رضوان الله عليهم فيهم الغزل، فما المانع أن يكون فينا الغزل أو أن نسمع شعر الغزل؟

ويزداد الطين بلةً أن الواحد منا يحضر عرساً لأحد المتديّنين فلا يسمع في هذا العرس أنشودة غزلية ! وإنما يسمع أناشيد جهادية وروحية وأناشيد وعظ وإرشاد. وأنا لا أدري كيف سيدخل العريس على عروسه بعدما سمع كمّاً هائلاً من هذه الأناشيد؟ هل سيدخل عليها مجاهداً أم باكياً أم حزيناً؟

والمشكلة أن بعض المتديّنين يرفض شعر الغزل حتى وإن ثبت له أن الرسول صلى الله عليه وسلم  كان يسمعه ويبيحه، فهو يشعر بصعوبة الاقتناع بذلك بعد أن عاش ردحاً من الزمن رافضاً له. فلماذا لا نكون وقّافين عند حدود الله؟

والبعض الآخر يحتج بأن المسلمين اليوم في حالة صراع مع اليهود، لذا فلا مكان إلا للشعر الجهادي والوعظي الذي يوقظ الأمة من غفلتها. ألم تكن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياة الصحابة كلها جهاد وفتوحات؟ ومع ذلك كانوا يسمعون الشعر الغزلي وغير الغزلي، ويترنمون بأناشيد عاطفية. وفي غير ذلك تجدهم رهبان الليل وفرسان النهار، فحياتهم متكاملة لا تجد فيها نقصاً ولا عوجاً ولا غلواً ، ويُروّحون عن أنفسهم ويعطون كل ذي حق حقه دون إفراط ولا تفريط في كل مناحي الحياة.   أليست هذه المفاهيم هي مفاهيم الإسلام؟ فما المانع من أن نكون كذلك؟ وما المانع من أن يكتب شعراؤنا المتديّنون شعراً غزلياً بجانب الشعر الجهادي والوعظي؟ ثم يترنم بشعرهم الغزلي المنشدون كما يترنمون بشعرهم الجهادي والوعظي. وإن حذف شعر الحب والغزل والأناشيد الغزلية من حياة المتديّن في هذا العصر جعل غير المتديّنين ينظرون إلى عالَم التديّن على أنه عالَم قاسٍ ليس فيه مجال للعاطفة أن تترنم ولا للأذن أن تطرب. فحدث عند هؤلاء نفور من التديّن، مما أضعف العمل الدعوي الذي يقوم به الدعاة.

حيران أنفو

JoomShaper