فادي سميسم
اليوم لن أحمل قلمي على الكتابة، بل سأترك لذاكرتي حرية السباحة واترك لعيني حرية اختيار لون دموعها، فلقد طرق باب قلبي خبر وفاة جدتي ...لقد كانت أكثر من جدة؛ إنها أمي بالرضاعة ، من أين أبدأ وقد جاء خبر وفاتها فجأة دون أن أهيأ قلبي له ، فتحول ربيعه إلى خريف وتساقطت براعم زهره، كيف لا وقد كانت صديقة قبل أن تكون جدة ..كانت كتاب حياة كتبت فصوله بحروف من شقاء وألم ، وحزن وفرح...
مرّ عام كامل لم أرَ فيه جدتي ..كنت اتصل وأكلمها عندما أكون في غربتي، وعندما أعود في الصيف لا أتردد في زيارتها كل يوم أو يومين...لقد كنت أقف أمام باب الدار الأسود الحديدي وأنادي ...جدتي.. فتسمع صوتي وتقول: أدخل يا ابني..وادخل غرفتها، تلك الغرفة التي أكلت من عمرنا ورسمت على جدرانها ذكريات سهراتنا مع أعمامي وعماتي وباقي أفراد الأسرة، كانت الغرفة الغربية بشباكين كبيرين كم قفزنا منهما إلى داخل الغرفة، وكم أرحنا أجسادنا التي أرهقها حر الصيف إلى جدرانها..
لا أعرف شعوري عندما أحرم من قولها لي: "ما ضاعوا الحليبات" عندما أوافقها الرأي في مسألة خلافية، مشيرة إلى الحليب الذي رضعته منها..أو من ضمتها وقبلتها وندائها" أهلين بابني وابن ابني".
كانت جدتي شجرة التوت الكبيرة التي نلجأ إليها إذا أثقلتنا هموم الحياة، فقد جمعت إلى جانب خبرتها بالحياة، وعلمها بالأيام أبيضها وأسودها، حملت ثقافة لا يستهان بها، فهي التي قرأت القرآن منذ الصغر، و أذكر يوم جئتها فرحا أقول لها لقد قرأت كتابا رائعا اسمه النظرات، فتنهدت وقالت ذكرتني عندما قرأت ماجدولين!!ويظهر لك هذا من عباراتها أثناء كلامها.
جدتي..لقد رحلت دون أن أنظر إليك، دون أن أشكرك على "الحليبات" لقد رحلت قبل تفتح شقائق النعمان، لقد انسحبت بهدوء، فأمطر قلبي نعناعاً وأغرق كأس الشاي الأحمر الذي كنت تعدينه عندما أزورك...
ماذا أقول في رحيلك، فلقد جف مداد قلبي، وأنا الذي كنت أنتقي الكلمات لأعزي بها الآخرين عند موت أحبائهم..ولكني لا أجد اليوم كلمة أقولها، لقد هربت كل حروف الأبجدية من شفتيّ، وتكسرت على جبل مصيبتي كل الأقلام، ولكن أملي بالله كبير أن يجمعنا في مستقر رحمته، قرب نبيه صلى الله عليه وسلم..إنه على ما يشاء قدير.