ياسر الزعاترة
من يتابع بعض مواقع الإنترنت، لاسيما الإسلامية منها، سيعثر بالتأكيد على باب للاستشارات الاجتماعية بمختلف ألوانها، الأسرية والعاطفية والجنسية، وتلك المتعلقة بتحولات الشخصية الإنسانية وتناقضاتها، ولا يدري الكثيرون أن مثل هذه الأبواب غالباً ما تسجل نسبة إقبال عالية من قبل القراء، تماماً كما هي حال قصص الإثارة بمختلف أشكالها، من جريمة وجنس وفضائح من شتى الألوان.
هذا الإقبال يجعلها بالغة الأهمية، ويفرض بالضرورة على المعنيين بهموم الأمة والمجتمعات العربية والإسلامية أن يولوها الكثير من الاهتمام، لاسيما أننا إزاء مواعظ أو نصائح لا تتعلق بطالبيها فقط، بل تؤثر في عدد كبير من الناس قد تنطبق قضاياها عليهم أو على أناس قريبين منهم، وفي هذا السياق تنهض ملاحظتان أساسيتان: الأولى تتعلق بمبدأ النشر في جميع القضايا، بينما تتعلق الثانية بمواصفات من يتولون إسداء النصيحة أو تقديم المشورة.
في الجانب الأول ثمة بُعد بالغ الأهمية ما زال يغيب عن أذهان المشتغلين بهذه القضايا، وإذا ذكّرهم به البعض مالوا إلى تفسير غير مقنع كي يبرروا ما يفعلون، ويتمثل في نظرية إشاعة الفاحشة التي ركز عليها القرآن الكريم في سورة النور في معرض معالجته لحادثة الإفك.
وعندما يقال لبعض المشرفين أو العاملين في المواقع المذكورة إن كثيراً مما ينشرونه هو من قبيل إشاعة الفاحشة يردون بأن هذه المشاكل موجودة في المجتمع ولا بد من علاجها بدلا من التستر عليها وتركها تنمو في الظلام. والواقع أن ما يفعلونه هو في جوهره نشر للفاحشة عندما تتعلق الاستشارات بممارسات تنتهك الحرمات وتخالف الشرع والفِطَر السليمة، كما هي حال زنا المحارم أو التحرش بهن والمخدرات والشذوذ الجنسي وإدمان الصور والأفلام الجنسية والاستغلال الجنسي للأطفال، وسواها من المصائب المشابهة.
من الضروري أن يعي هؤلاء أن العادات والظواهر السيئة، تماماً كما هي حال الحسنة منها، إنما تنتشر بالتقليد وشيوع الانطباع العام بانتشارها، ما يفضي إلى جرأة كل من يخفيها خوفاً من المجتمع على إبدائها بمرور الوقت، وإلا كيف تحولت علاقات الصداقة (مع ممارسات الزواج) بين الجنسين في الغرب إلى أمر عادي بمرور الوقت، الأمر الذي ينطبق على الشذوذ؟ هل وقع ذلك بين عشية وضحاها أم أنه نتاج تطبيع نفسي للمجتمع عليها تمّ على مر عقود من الزمن، وربما أكثر من ذلك في بعض الظواهر؟
وعندما يطلب الشارع الكريم أربعة شهود "يرون المِرْوِدَ في المكحلة" من أجل إثبات واقعة الزنا، فهو إنما يتصدى بالعقوبة فقط لمن ينتهكون حرمة المجتمع ويتعمدون نشر الفاحشة فيه، وهم قلة قليلة جداً في واقع الحال، أما الذين يمارسونها بدون مجاهرة فيعتمد معهم لغة سد الذرائع والتحذير من العقاب الأخروي.
هناك طرق شتى للتعامل مع طالبي الاستشارة في مثل هذه القضايا دون التورط في نشر الفاحشة، من بينها التواصل المباشر معهم، ومن بينها وضع المشورة في إطار من النصائح التي تعالج الظاهرة المعنية، وليس كحالات يقصّ فيها كل أحد حكايته، ثم تكون تعقيبات تؤكد ذات الحالة حتى يرى المعني أن أمره عادي ما دام كل هؤلاء أو أولئك مثله أو مثلها، ولعلنا نشير هنا إلى إمكان أن تكون المشاكل المعروضة مفتعلة من أناس سيئي النية يقصدون بالفعل نشر الفاحشة، الأمر الذي تستخدمه بعض المواقع التي تسعى لتحقيق ذات الهدف.
الجانب الثاني الذي يستحق التوقف هنا هو المتعلق بالشخص الذي يسدي النصيحة، ففي إحدى المرات قرأت استشارة قدمتها أكاديمية في موقع إسلامي لامرأة اشتكت حال زوجها، إذ نصحتْها بطلب الطلاق لأن زوجها لا أمل فيه، مع أن ما يفعله (يشاهد الأفلام الخليعة سراً) لا يستحق هدم أسرة وتشريد أطفالها، حتى لو لم يتب عنه، فكيف وإمكان توبته يبدو وارداً (قالت المرأة إنه خلوق ومتدين).
ما نريد قوله هو أن تقديم الاستشارات والنصائح في قضايا الأسرة والمشاكل الاجتماعية الحساسة ليست من السهولة بحيث يتجرأ عليها أي أحد، فهي خليط من التجارب الطويلة وعلم النفس والاجتماع، فضلاً عن العلم الشرعي معطوفة على قدر كبير من الحكمة، وهذه لا تتوفر مجتمِعةً إلا عند قلة من الناس.
نحن إذن إزاء قضية بالغة الأهمية لا يجب أن يمر عليها العلماء وأهل الاختصاص مرور الكرام، ذلك أن الحفاظ على تماسك الأسرة والمجتمع هو مهمة الدعاة والمصلحين في كل زمان ومكان، وإذا لم يتصدوا لها على النحو الصائب، فسيعم الخراب.
يقول تعالى "فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ..".
صحيفة العرب القطرية