أ.د. ناصر أحمد سنه
يقول جل شأنه: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" (الحجر:28- 29).
المتأمل في الوضع الفكري والثقافي العالمي يلحظ أن كل المرجعيات الوضعية المادية تمر بانقلابات جذرية. وأن عصرنا الحالي يشهد عودة قوية وجادة ومؤثرة "للمقدس الروحي". عودة تبغي التوازن مع ما كان شططا مادياً، ونزوعا استهلاكياً، وخواءً روحياً، وتغييباً قيمياً، وانقلاباً أخلاقياً وسلوكياً.
في العاشر من شهر أكتوبر 2007م تناقلت فضائيات إخبارية أنباء انطلاق مركبة الفضاء الروسية "سيوز" من كازاخستان، كان من بين روادها ـ هذه المرة ـ طبيب ماليزي مسلم هو "شيخ مظفر شاكر"، الذي سيقوم بإجراء تجارب طبية وعلمية ضمن برنامج الرحلة. جُهد ماليزي مشكور ومُقدر يتزامن وخطة ماليزية لارتياد الفضاء في غضون عقد من الزمن.
وفي"عصر الصورة" وتأثيراتها الإيجابية والسلبية، تواردت أيضا صور استعداد رواد هذه المركبة الفضائية للانطلاق، وكيفية ارتداء ملابسهم، واصطحابهم مستلزماتهم الخ. لكن ما استوقفني ـ ضمن هذه الصورـ هو وقوف رائدة الفضاء الأمريكية، ونظيرها الروسي لينالا "مباركة" القس، الذي قام بالإشارة إليهما بالصليب، راسماً علامته عليهما، ومن ثم رشهما "بسائل ما". فقلت في نفسي: هل تدل هذه "المباركة" علي "عودة إلي الإيمان" مرة أخري، وتعبيرا عن شعور بالندم يراود رواد الفضاء الأمريكيون عما  أصابهم من "غرور العلم والتفوق والتحدي" عندما "صوبوا نحو السماء"  ـ في ثمانينيات القرن الماضي ـ مكوك الفضاء.. المتحدي" Challenger" فانفجر عقب إطلاقه محدثاً كارثة علمية كبيرة؟!. يقول تعالي شأنه: "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ"(الانفطار:6).

ويبقي السؤال المطروح: لماذا يعود رواد فضاء وعلماء وساسة ومجتمعات غربية إلي "الإيمان"، بينما ينكر "علمانيون" هنا وهناك، اصطباغ الحياة بالدين والقيم والأخلاق، بدعوى أن: "الدين ملجأ ضعاف العقول، وطور فائت في نمو البشرية"، وأنه "ردة للوراء"، و"ظلامية"، و"حجاب علي العقل" الخ؟؟. كما نراهم يعلنون أن "الإنسان يقوم وحده"، دون حاجة إلي إله، و"طلاق الروح مع المادة"، ويرفعون شعارات "الإيمان بالعقل لا النقل"، و"بالعلم لا الخرافة"، و"بالتقدم لا التخلف". فكيف يفسر هؤلاء مراسم "مباركة" ذلك القس لرائدة الفضاء الأمريكية، ونظيرها الروسي؟! وهل هؤلاء من "ضعاف العقول"، ولو كانت هذه الصورة لرواد فضاء لنا لأقاموا الدنيا ولم يقعدوها، يقول "شوقي" في "سينيته" عن رحلته بالأندلس: 

أحرام علي بلابله الدوح   ...   حلال للطير من كل جنس.

في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي تفتحت عيون الغربيين ـ في شك وقلق وحيرة ـ على أزمتهم العلمية والثقافية، والتي لم يروا مثيلاً لها في مجتمعاتنا المسلمة بعد احتكاكهم بها في الحروب الصليبية، تلك الأزمة المتمثلة في تصادم الأفكار اللاهوتية مع المكتشفات العلمية، ومجافاة "كتابهم المقدس" للعقل والعلم، فضلا عن تغول سلطة الكنيسة على العلم والعلماء. فكان أن أُقصيت الكنيسة وسطوتها، ومن ثم انفصلت الأخلاق ليس فقط عن العلم ونظريته المعرفية (الإبستمولوجية)، بل تم عزل الدين عن شتى مناحي الحياة. لكن بعد أشواط طويلة من هذا " الفصام" تؤكد الأدبيات ذات الصلة أن كثيراً من العقليات العلمية والفكرية والشرائح المجتمعية "عجزت عن إشباع ذواتها حتى في المجالات التي نبهت فيها، ولم تذق سعادتها حتى في المستويات التي ارتقت إليها، ومن ثم تحولت إلي (الإيمان) لتجد فيه راحتها وسعادتها"، ففي "النفس شعث لا يلمه إلا الإقبال علي الله".

لقد كان ممن سار في رحلة "العودة إلي الإيمان" عالم النفس التجريبي الكبير "هنري لنك" في ثلاثينيات القرن الفائت والذي آمن:(بعجز العقل ومحدوديته عن إدراك كنه كثير من الأمور. فـ (عبادة العقل والاحتقار الفكري للديانات) قد جعلا من الإنسان فريسة سهلة لنظريات مدمرة، ومذاهب عدمية وعبثية محيرة، لكن بقدر ما نكتسب من علوم ومعارف حقيقية نلمس مدي عجزنا وجهلنا بالكثير من الظواهر من حولنا. وسواء من الوجهة النفسية أو من أي وجهه يستسيغها العقل يبدو أن الإنسان جُبل علي (الإيمان) بعقيدة، والتصرف وفقها، لذا فالإلحاد مرض عقلي، والإيمان أصح وأفضل، فالإنسان محتاج إلي الإيمان يشق به طريقه في ظلمات الحياة، وبحاجة لملاذ يلوذ به، فبدونهما تستحوذ عليه نوبات من الضعف والشك والقلق تمزق كيانه، فهو لا يقوم وحده..إنه لا مناص من العودة إلي إيماننا متجردين من شوائب الشك، طارحين شوارد القلق، بعيدين عن شطحات الجموح، كي نستعيد راحتنا واطمئناننا، وإذا ما اتحد الدين والعقل بات الإنسان متحدا غير مجزأ، وقوياً غير ضعيف، وثابتا غير مزعزع أمام التيارات غير السوية) (1). ألا ما أعظم كتابنا الخالد المُعجز حينما يخبرنا دوماً.. حالاً ومألاً: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (فصلت: 53).

إن التكنولوجيا والسيطرة العمياء للمادة ـ دون هداية من خلق ـ لم تنجحا بالإنسان، ولم توصلاه لشي نافع ومجدِ، هكذا ذهب"ألكسيس كاريل" إلي أنه:" لا يمكن اختزال الإنسان في جانب واحد مادي أو روحي، وإن اختزاله الروحي كما اختزاله المادي" (2). وفي كتابنا العزيز، يقول الله تعالي: "ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ"(الحديد: 27)

بتأسيسه مجلة شهيرة باسم "روح" عام 1932م.. لعب الفيلسوف "ايمانويل مونييه" (1905 ـ 1950م) دورا مهما في في إدانة الفوضى الاقتصادية والاجتماعية والروحية للعالم الرأسمالي، ونزعته الفردانية البورجوازية التي تفصل الإنسان عن جذوره الروحية، بل وطلاق الروح مع المادة، وإحلال قيم المال والربح محل "روح الإنجيل"، ثم الغرق في بحبوحة مادية، والاستمتاع بالاستهلاك، واشباع الغرائز التي اصبحت مهيمنة على فرنسا وعموم أوروبا بعد انحسار المسيحية والقيم الدينية.

وبلوَر "مونييه"، الذي كان (ثوريا باسم الروح أولا) عام 1936م أسس (الفلسفة الشخصانية/ الروحانية) التي تجمع بين (المسيحية والعدالة الاجتماعية) وتقوم علي الاهتمام بالإنسان في أبعاده الثلاثة: الجسد والعقل والروح. إن فلسفته تؤكد علي أن: "الإنسان هو شخص أولاً، وإنه ذات حرة، وله أعماق روحية، وليس فقط حيواناً يأكل ويشرب، أو يتناسل ويستهلك ثم ينتهي الأمر!". هذا يعني أن تلك (الفلسفة الشخصانية/ الروحانية) لم تهمل العوامل المادية وحق الإنسان في الرفاهية والسعادة. ولكنها ربطت كل ذلك بالإشباع الروحي أيضا، لان الإشباع المادي لا يكفي على عكس ما تزعم الفلسفة البورجوازية أو الوضعية. فالإنسان من جسد وروح وليس من جسد فقط أو من روح فقط.

وفي ذات الوقت أدان "مونييه" بقوة الحركات الفاشية التي بدأت في الظهور في المجتمعات الأوروبية. فهذه الحركات "تقدس القوة والعنف والدم والارض”، وتحل -هذه القيم المزيفة- محل القيم الروحية والأخلاقية للدين. وأعتبر "مونييه" "عبادة الزعيم" بمثابة "اهانة للعقل واستقالة للشخص البشري". وفي الفترة ذاتها أدان الماركسية أيضا لتهوينها "للجانب الروحي". فالماركسية تعتبر ان جوهر التاريخ يكمن في الصيرورة الاقتصادية والعوامل المادية. أما القيم الفكرية والاخلاقية والروحية فهي – بنظرها- ليست إلا أشياء ثانوية. إنها مجرد انعكاس لتطور المجتمع..اقتصادياً ومادياً. وكان أحد اتباعه يقول: "نحن نؤمن بالحرية الإنسانية ضد المادية التاريخية، ونريد ثورة تتقيد بمطالب الروح والفكر، ولا نريد ان نكون (عبيدا للمادة) كما يفعل الماركسيون والشيوعيون الذين وصل بهم الأمر إلى حد (تأليهها) تقريبا".

لقد كان لتطرف المجتمع البورجوازي الغربي في اتجاه الماديات والشهوات وإهماله للروحانيات أثر بالغ في ظهور تلك الفلسفة وغيرها من اتجاهات المفكرين والعلماء الغربيين. فبعض نقاد الحداثة المادية ذهبوا بعيداً في إدانة التقدم، والرفاهية، والآلات التكنولوجية باسم أولوية "القيم الروحية". فهذا التيار راح يهاجم (حركة الحداثة) ككل بدءاً من عصر النهضة، وانتهاء بحكم العلم والعقل مروراً بعصر التنوير في القرن الثامن عشر. فالتفاؤل المطلق بالحداثة راح يتفسخ في القرن العشرين بعد الحرب العالمية الأولى. فكم هي الهوّة سحيقة بين فترة "كلود برنار، وداروين، وسبنسر، وهيبوليت تين" من جهة، وبين فترة "هيدغر وشبنغلر، وبيردياييف" من جهة أخرى. فالأولون قد عاشوا وماتوا قبل الحرب، وأما الآخرون فظهروا بعدها.

فكلود برنار (1813 – 1878م) هو أحد علماء فرنسا الكبار، وكشوفه الطبية لا تقل أهمية عن كشوفات "لويس باستور" (1822 – 1895م)، أما داروين (1809 – 1882م) وما أثار من جدل فأشهر من نار علي علم، وقل الأمر ذاته عن "سبنسر"(1820 – 1903م) المتأثر بداروين والذي بلور (فلسفة التطور) على أساس علمي، ميكانيكي. وأما "هيبوليت تين" (1828 – 1893م) فهو ناقد أدبي وفيلسوف ومؤرخ فرنسي شهير، كان له تأثير على فكر "طه حسين".

وأما "هيدغر" (1889 – 1976م) فكان ناقماً على (الحداثة التكنولوجية) التي قضت على الطبيعة، والبراءة، والارتباط بالأرض والجذور. وأما "شبنغلر" (1880 – 1936م) فهو فيلسوف ألماني كان مضاداً (لعقيدة التقدم) التي جاءت بها (الحداثة التنويرية)، ومتشائماً من حركة التاريخ. ومن أهم كتبه: "انحطاط الغرب"، ثم "الانسان والتكنولوجيا".

وأما "بيردياييف" (1874 – 1948م) فهو فيلسوف من أصل روسي هاجر إلى فرنسا هرباً من الشيوعية. فقد ابتعد عن الماركسية بعد ان كان قد اعتنقها في البداية وأصبح من أنصار (الوجودية المسيحية). والفكرة الأساسية لهذا الفيلسوف الروسي هي ان الفترة المعاصرة (أي الثلاثينات من القرن العشرين) تعني نهاية الحركة النهضوية والإنسانية التي ظهرت في القرن السادس عشر. ومن المعلوم ان عصر النهضة اعتبر الانسان (القيمة الأساسية) في هذا العالم. واعتبر ان سعادته على هذه الأرض أهم من (الطقوس والعبادات). لقد كانت هذه (النزعة الانسانية) غنية وفوارة في مرحلتها الأولى، ولكنها ضعفت في عصر التنوير. ثم تدهورت وانحطت لاحقاً بظهور (الفلسفة الوضعية، والمادية، والاشتراكية والفوضوية). في النهاية أدي كل ذلك الى "الانحطاط الروحي" لعصرنا، ذلك لأن حركة الحداثة قطعت العلائق التي كانت تربط الإنسان بالله، وأدت الى ضلال (المغامرة البشرية) أو انحرافها عن الطريق المستقيم. فالحرية الإنسانية انتهت الى الفراغ، وانقطع الإنسان عن المركز الروحي الأعلى الذي يخلع المعنى/ الغاية على الحياة البشرية.

لقد كان لدى "بيردياييف" نوع من الحنين الى (مسيحية القرون الوسطى)، وكان يعتقد بأنها لو استمرت، أو لو لم يقض عليها (عصر التنوير)، لكانت قد مدت ظلها، و(هيمنتها الروحانية). فالتفوق الساطع للقيم الروحية كان بإمكانه توليد (حضارة كونية). ويرى "بيردياييف" انه اذا كانت هناك بقايا من قيم روحية في أعماق الإنسان الأوروبي فإنها تعود الى المسيحية التي لم تمت تماماً. إن مأساة الانسان الحديث، المحروم من الله، تعود للخضوع للعامل المادي، وتحكم البورصة- بورصة لندن، أو نيويورك - في العالم. لقد أصبح المال "إله" العالم الحديث.

لا يمكن تحرير الإنسان عن طريق (تأليهه) أو (تأليه المادة/الجسد/المال) لأنهم ليسا (الغاية النهائية)، وإنما الغاية النهائية هي: الله. فالله هو المبدأ والمعاد، يقول تعالي: "وما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات:56). واذا ما تخلى الإنسان عنه - جل شأنه- أو عن الإيمان به فإنه يفقد بوصلة اتجاهه، ومن ثم يضيع ويتوه، يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم:"من كانت الآخرة همه جعل الله عناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة ، وكمن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم ياته من الدنيا إلا ما قُدر له" (3). ويقول صلي الله عليه وسلم:" تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يُعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش..."(4).

اما "جاك مارتيان" (1882 – 1973م) الذي يُعد من أتباع القديس "توما الاكويني" (1225 – 1274م) الذي صالح المسيحية مع العقلانية الارسطوطاليسية. وكان قد شن هجوما صاعقا على "الحداثة". وقال بأن سبب البلاء هو "ديكارت" لأنه فصل الفلسفة عن علم اللاهوت، وقد كانا مترابطين بشكل لا ينفصم في عهد القديس توما الاكويني. وبالتالي فان "جاك مارتيان" يريد أيضا العودة إلى حيث كان الدين سائدا والمسيحية في عزّها. وقال بأن: "فصل العلم الرياضي أو الفيزيائي عن الميتافيزيقا أدي إلى تشكل فلسفة دنيوية محضة، لا تهتم بالأسئلة الأساسية بمعنى الوجود والموت، وما بعد الموت، الخ.. فالبشر يكمن همهم في الدراسات الكمية والإحصائية لظواهر الطبيعة، وفي تحسين الوضع المادي للإنسان، واختراع الآلات، وتراكم الثروات دون أي اهتمام بالوضع الروحي أو بالمآل النهائي للإنسان". إن العلم الحديث يهدف إلى إحلال وجهة نظر الإنسان محل وجهة نظر الخالق عز وجل. إنهم يريدون "تأليه" الفكر البشري! ويحهم! لقد أصابهم الغرور والتبجح إلى أقصى حد ممكن. ألا يعلمون أن الإنسان زائل فانٍ في مواجهة الحي الباقي؟! وكيف أُتيح للحداثة الغربية ان تثق بنفسها إلى مثل هذا الحد وتتغطرس إلى مثل هذه الدرجة؟"(5).

ويرى "مارتيان" أن قيم الحداثة تتمثل في النزعة المادية المتطرفة التي لا هدف لها إلا مضاعفة إنتاج السلع المفبركة من أجل إشباع غرائز الإنسان وحاجياته السفلية التي لا نهاية لها... كما وتتمثل في تلك النزعة الفردانية والأنانية التي تعطي الأولوية للفرد. ومن هو المسئول عن ذلك؟. إنهم آباء العالم الحديث الكبار: "مارتن لوثر، ورينيه ديكارت، جان جاك روسو". فما هو الحل؟، كيف يمكن الخروج من أزمة الحداثة الراهنة؟. يقول "مارتيان": المسيحيون مسئولون عن الأزمة الحالية وانحسار الدين عن سطح المجتمعات الغربية. لماذا؟ لأن كنيستهم وقفت إلى جانب الأغنياء في معظم الأحيان على الرغم من إن الإنجيل يدعو إلى العكس: أي الوقوف الى جانب الفقراء.

وبالتالي فإنه كان ينصح المسيحيين بالوقوف في وجه الرأسمالية والشيوعية على حد سواء. فكلتاهما مغرقة في النزعة المادية والبهيمية. لا تسمعهم يتحدثون إلا عن الربح، والفائدة، والنمو الاقتصادي، والبطالة، وزيادة الأسعار أو نقصها، الخ.. حتى اللغة أصبحت مادية بحتة وخالية من كل روحانية. لقد نسوا الله والقيم الروحية. فالإنسان في نظرهم كائن حيواني يستهلك ويستمتع بمباهج الحياة الدنيا وملذاتها، ولا شيء غير ذلك. انه يعيش كالبهيمة غير عابئ باخرته لأنه لا توجد غير هذه الحياة الدنيا في نظره. وينبغي أن يستغلها الى أقصى حد ممكن قبل أن يموت. "إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ" (محمد:12).

ويرى "مارتيان" أهمية الجمع بين النزعة الإنسانية، والعقيدة الروحانية، فهكذا (نحرر) الإنسان على كلا المستويين: من الظلم الاجتماعي أو الطبقي، ومن الاستلاب المادي. وهكذا يستعيد الإنسان بعديه المتكاملين. البعد المادي، والبعد الروحاني. يقول جل شأنه: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" (الحجر:28- 29). إن من الواضح ان الحضارة الحديثة بتركها البعد الثاني ولم تعد تركز إلا على الأول، وهنا يكمن الخلل الكبير فيها وفيمن يسير علي دربها في شتي بقاع العالم. لا شك أنها قد حققت انجازات تكنولوجية ومادية هائلة ووصلت الى أعالي الفضاء، وأعماق المحيطات، وأسرار المجرات، بيد أنها ماست فقيرة في جانبها الروحي.

هذا "الخواء الروحي" دفع ثمنه الجميع، وعلي رأسهم كثير من "الصفوة/ النخبةElite " الغربية. فعلي الرغم من أن حياتهم كانت مليئة بالمفارقات والأحداث المثيرة، فهم نجوم اللقاءات التلفزيونية، والمقابلات الصحفية، والابتسامات المشرقة. تلاحقهم عيون المعجبين، وتـتتبعهم عدسات المصورين، وتطاردهم صحائف الإعلاميين، يرصدون حركاتهم وسكناتهم.. سياراتهم الفارهة، ثيابهم الفاخرة، مجوهراتهم النفيسة، قصورهم المشيدة، أرصدتهم المالية العالية، عاداتهم وهواياتهم الخ.

مع كل ذلك فقائمة الصفوة/ النخبة الذين عانوا فترات من حياتهم من القلق Anxiety، والاكتئاب العميق Deep Depression، وخبروا تجارب نفسية مريرة Sever psychological problems، و ”هربوا" إلي عزلة ووحدة قاتلة، وانتهت حياة بعضهم في مصحات نفسية وعقلية، فضلا عن أولئك الذين حاولوا الانتحار ففشلوا أو نجحوا قائمة تصعب الإحاطة بكل أسمائها. يكفي الإشارة إلي: "فان جوخ"(1853ـ1890م)، و"ارنست همنجواي"(1899-1961م)، و"مارلين مونرو"(1926-1962م)، والمغنية "داليدا"، و"كريستينان أوناسيس"، والروائية الإنجليزية "فرجينيا وولف"، والكاتب والفيلسوف المجري"آرثر كويستلر" الذي فضل الانتحار مع زوجته في بريطانيا، والكاتب الأمريكي "ديل كارينجي"

إذا كان هؤلاء الغربيون من رواد فضاء وعلماء مفكرون وفلاسفة وغيرهم كثير قد وجهوا نقدهم الحاد لمادية الحضارة الغربية، واختزالها الإنسان في جانبه الطيني. أو قد انتحر كثير من " صفوتهم" عندما شعروا أن "الحياة عبء لا يطاق، وأنها لا تحتمل"، فإن كثيرين غيرهم، أمثال جاك كوستو، واللورد هيدلي، وموريس بوكاي، ومالكوم اكس، والجيولوجي الألماني ألفريد كرونير، وروجيه/ رجاء جاروي، وليوبولد فايس/ محمد اسد، وكات استيفن/ يوسف إسلام، ومراد هوفمان وغيرهم كثير- قد تجاوزا مرحلة النقد والتقويم آخذين خطوة جسورة وجريئة بتحولهم إلي الدين الحق .. دين الإسلام. ذلك الدين الذي وجدوا فيه ضالتهم المنشودة، ومصداق فكرهم ورؤاهم، والمُجيب علي أسئلتهم الفلسفية المصيرية.

خلاصة القول

بينما يصارع (الآخر) الزمن، وينتقد توجهاته، ويعدل مساراته، للمحافظة على ارتقائه و(هيمنته)، ويعلن مفكروه ـ مغتالين مشاريع النهوض الأخرى ـ"نهاية الأيدلوجيا" إلا عند "أيدلوجيته"، و"نهاية التاريخ" إلا عند تاريخه، وبدء "صراع الحضارات" انتهاء بانتصار حضارته. وتبقي اللحظة الراهنة التي تعيشها أمتنا: "لحظة معرفية"، ووعى بالنفس والآخر والواقع. وعى بما نملك من قرآن وسنة وتراث مشهود، ووعي بما نحن عليه، وما نصبو ونهفو إليه. إنها "وثبة حضارية" فمازالت مشاريع النهوض الحضاري- رغم محاولات الاغتيال- المرتكزة علي الإيمان الفاعل، والعقيدة السليمة، والإنسان المتوازن بشقيه الروحي والمادي محرك باعث فعال في إقلاعنا الحضاري، لتحقيق خيرية هذه الأمة:" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ(آل عمران:110).

الهوامش والمراجع

1- بتصرف من "هنري لنك": "العودة إلي الإيمان"، ترجمة د. ثروت عكاشة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1996م.

2- ألكسيس كاريل :"الإنسان ذلك المجهول"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1973م، مصر.

3- سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة، برقم: 2389.

4- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، برقم: 2673، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

5- راجع المواقع ذات الصلة علي الشبكة الدولية للمعلومات.

بقلم: أ.د./ ناصر أحمد سنه.. كاتب وأكاديمي مصري.

E.mail:عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

JoomShaper