شكوى ممّن يربطون اختلاف المطالع بخرائط سايكس وبيكو
لا تكاد تستشعر مشكلةَ تحرّي الهلال مع حلول رمضان أو عيد الفطر فئةٌ من المسلمين مثل المقيمين في بلدان غربية، وقسم منهم من غير أهلها الأصليين، فكثير منهم ينتمون أو ينتمي آباؤهم وأمّهاتهم إلى بلدان إسلامية عديدة، نشأ معظمها بعد انهيار آخر أشكال الخلافة الإسلامية.
في البلدان الإسلامية توجد مرجعية (بل مرجعيات!) فقهية، بغضّ النظر عن مدى استقلاليتها عن تأثير السياسة والسياسيين، فإذا أُعلن عن ثبوت رؤية الهلال، عبر التحرّي الذي تتوافر شروطه الشرعية، أو دون ذلك، مع التوافق مع ما يثبته علم الفلك أو دون ذلك، فإنّ جميع أهل البلد من المسلمين يلتزمون غالبا بما يُعلَن من جانب مرجعيّته، فتتجلّى –هنا على الأقل- صورة من صور وحدتهم.. أعني وحدتهم "القطرية" فحسب.. أمّا وحدتهم كأمّة فقد بات تحرّي الهلال –للأسف- من مناسبات الإسهام تحت عناوين "فقهية شرعية"، في مسلسلات "استعراض" افتقادها، والإصرار على تغييبها!..   وحدة محليّة.. مفرّقة
نسخة "معدّلة" عن ذلك أو عمّا يشابهه عايشتُها هذا العيد (مرّة أخرى) في مدينة بون بألمانيا، فقد أعلن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث أنّ العيد سيكون بإذن الله يوم "الخميس"، انطلاقا ممّا سبق إقراره فقهيا وما ثبت بأدقّ الحسابات وأضمنها عن طلوع الهلال فلكيا.. وذهبت إلى أحد المصليات المعروفة منذ عدّة عقود، وإذا بي أجد الإمام فيه حائرا، فمَن يتردّدون على المصلّى من المسلمين -وهم ألوف- من حملة الجنسية الألمانية وحملة جنسيات متعدّدة أخرى، ينتظرون كلمته هو، لمعرفتهم المباشرة به وثقتهم فيه، وهو مقتنع بسلامة الأخذ بما تقول به "المرجعية المشتركة" على مستوى أوروبا، ولا يريد أن يفترق المسلمون فيها على يوم فطرهم، إنّما لا يريد أيضا أن يفترق المسلمون في بضعة عشر مصلّى في مدينة بون على يوم فطرهم.
كان في ذلك المساء (مساء يوم الأربعاء) بعد أعلنت غالبية الدول العربية عن "الجمعة" يوم عيد وليس الخميس كما أعلن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.. كان يتبادل الحديث ويتشاور مع أئمة مصليات بون الآخرين عبر الهاتف، وهم "الأقرب" إليه من سواهم في أوروبا، فهم الذين يعايشهم باستمرار، ويحمل جزءا من المسؤولية عمّا يأخذون به. وقرّر أخيرا أن يعطي الوحدة "المحلية"، على مستوى مدينة واحدة من مئات المدن في أوروبا، وفي نطاق المسلمين فيها، الأولويةَ على محاولة الإسهام في تحقيق "وحدة قارّية" للمسلمين، ليس سهلا على كلّ حال أن تتحقق، رغم أنّ يوم صيامهم ويوم فطرهم أصبحا من الأيام التي يتابعها أهل البلدان الأوروبية من غير المسلمين أكثر ممّا مضى!..
في البلدان الغربية غير الإسلامية (وقد يسري على بعض البلدان الأخرى غير الإسلامية) تتعدّد الآراء –ولا أقول: الاجتهادات- ما بين مصلّى وآخر، ومدينة ومدينة، وبلد وبلد، فترى فريقا من ذوي الأصل التركي يتبع لتركيا، وفريقا من ذوي الأصل المغربي يتبع للمغرب.. وهكذا.
أصبحت هذه التفرقة "المحلية" واسعة الانتشار في وسط بلدان تقطنها غالبية من غير المسلمين، وفي وقت يحتاج المسلمون فيه إلى وحدة الصف والكلمة أيّما حاجة.. ولكنّها أصبحت أيضا موضع التشجيع "واقعيا"، عبر مواقف علماء البلدان الإسلامية وتصرّفاتهم.. وليس عبر ما يصنعه ساستها المتفرّقون فقط.
ما بين هذا وذاك نجد أيضا فريقا آخر من المسلمين من ذوي الأصول الوافدة في هذه البلدان، يتجنّب الارتباط بأوضاع التجزئة في "العالم" الإسلامي، إنّما يجتهد بنفسه، عن علم أو دون علم، ليصنع ما يحسبه صوابا، فيساهم من حيث لا يريد في الفوضى العشوائية بدلا من وحدة الكلمة والرؤى.
أمّا المسلمون من ذوي الأصول الغربية، ومن المواليد فيها –وهم الغالبية- فيحارون.. إلى من يميلون، وما عساهم يفعلون، وكيف يتلقّون المزيد من العلم والمعرفة حول إسلامهم، -كما يطالَبون بإلحاح- إذا كان التعامل مع شعيرة من شعائر دينهم، قد أصبح عملية استعراضية دورية متكرّرة.. لحقيقة أنّ كل "فريق" من المسلمين في واد (أو في سبيل من السبل المتشعبة) على خطى علمائهم وساستهم المتفرّقة.. وليس على خطى الحبيب صلّى الله عليه وسلّم؟..
جميع ما يُصنع على هذا النحو لا يُصنع من منطلق إسلامي قويم، بل من منطلقات قومية وعصبية ورؤى فردية ومذهبية وربما حزبية وسياسية، إضافة إلى اعتيادٍ على ممارساتٍ لا يفرضها الشرع إنّما يصوّرها بعض "المجتهدين!" وكأنّها فروض ملزمة، ويغيب في خضمّها ما يرقى حقا لا كلاما إلى مستوى الاجتهادات، بينما الأصل أن توحّد العبادات على الأقلّ المسلمين على انتمائهم الإسلامي، بغضّ النظر عن "سلامة" انتماءاتهم الأخرى فليس هذا موضع الحديث هنا، وبغضّ النظر أيضا عمّا يسوّغ السياسيون لأنفسهم من ممارسات تحافظ على الحدود والأعلام والنزاعات والكراسي.. فليس هذا موضع الحديث هنا أيضا.
إنّ القسط الأعظم من التعامل المعاصر مع طلوع الهلال، رمضان بعد رمضان، وعيدا بعد عيد، أصبح أشبه بتلك المسلسلات "الدرامية" في استقبال الشهر الفضيل بما لا يليق به.
عضلة بين العلماء والعوام
في أوروبا توجد جهة مرجعية فقهية، هي المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وتتبع له لجنة الأهلّة، ويضمّ المجلس عددا كبيرا من العلماء من مختلف الجنسيات، وتضم اللجنة متخصصين في الفقه والفلك، والتزم المجلس منذ نشأته بما سبق أن جرى الاتفاق عليه في مؤتمرات إسلامية كبرى جامعة، انعقدت منذ ثمانينات القرن الميلادي العشرين في أكثر من مدينة إسلامية، بدءا بالمدينة المنوّرة، انتهاء باسطنبول، وجمعت العلماء من شتّى أنحاء العالم الإسلامي وخارجه.. ولكنّ ما اتُّفق عليه لم يجد التطبيق عبر السنوات الماضيات إلاّ من جانب قلّةٍ تقدّر القيمة الكبيرة التي يمثلها وجود ممارسات إسلامية موحّدة، فباتت هي نفسها "فريقا" بين الفرق التي غلب مفعول التجزئة القطرية عليها، لتتحكّم في تحديد الرأي المتبع في كل قطر على حدة بشأن تحرّي الهلال.. وإن نأى كثير منها بنفسه عن رؤية علمية يدعمها الفقه الإسلامي منذ نشأته الأولى.
هذه كلمات قد تجد من يقول اعتمادا على مكانة فقهية له: إنّها من قبيل الخوض فيما لا يعلمه كاتب هذه السطور من علوم الفقه.. هذا وإن لم يخض كاتب هذه السطور في "جانب فقهي" لا يزعم لنفسه فيه باعا ولا تخصصا!.. فليكن ذلك.. ولكن:
إذا كان لا يوجد بعد قول العلماء في هذه المسألة ما يمكن لفرد من عامّة المسلمين بيانه، فماذا يقول الفرد من العامّة، وكيف يتصرّف، وهو يشهد عددا كبيرا من أولئك العلماء، لا يلتزمون بما يتفقون عليه هم وأقرانهم في مؤتمراتهم.. وكأنّهم يريدون تثبيت "صورة للتجزئة" طبق الأصل عمّا نعاني منه على صعيد المؤتمرات السياسية، أو كأنّهم يتعمّدون بفرقتهم تنفير العوام من اتّباعهم؟!..
تساؤلات حول اختلاف المطالع
إذا قال بعض العلماء باختلاف المطالع اجتهادا يعتمدونه.. ويفرّقهم، وبالرؤية البصرية أمرا حتميا يلتزمونه.. ويفرّقهم، فما يقول الفرد من العامة، وما الذي ينتظرونه منه من قول أو تصرّف، وهو يعلم بما يسمعه منهم هم أنفسهم أيضا:
1- أنّ هذين القولين "اجتهادان" وليسا "نصين شرعيين" ممّا هو قطعي الورود وقطعي الدلالة..
2- وأن الاجتهادات مرتبطة –علاوة على المقاصد والأصول والقواعد الشرعية- بمتغيرات المكان والزمان والأحوال..
3- وأنّ هذين الاجتهادين هما من اجتهادات السلف، رحمهم الله تعالى وأجزل لهم الأجر والثواب..
4- وأنّهما اجتهادان قال بهما السلف قبل اختراع السيارة والطائرة والصاروخ والقمر الصناعي والإذاعة والتلفزة وأحدث المقرّبات وأسرع وسائل الاتصال..
5- وأنّه جرى العمل بهما قبل الوصول إلى المريخ مع الاعتماد على علوم حساب حركات الأجرام السماوية بالثانية وأجزاء من الثانية بدقّة متناهية..
6- وأنّ جميع هذه المتغيّرات لم تكن من صنع "غير المسلمين" وحدهم، كما يتعلّل بعض المتعلّلين بشأن "عدم الثقة بها"، كما لو كان للعلوم "جنسية"، أو كما لو لم تكن من العلوم التي دعا الإسلام إلى حيازتها والتفوق فيها والعمل بموجبها..
7- بل ويعلم أيضا أنّ الخطوات الحاسمة الأولى في تطوير علم الفلك في مجرى تاريخ البشرية ليصل إلى ما وصل إليه هذه الأيام.. إنّما كانت خطوات الأفذاذ من العلماء المسلمين من أمثال البيروني وابن خرداذبة والمسعودي وأقرانهم، وهم يقدّمون ما يقدّمون من دراسات حول كروية الأرض ودورانها حول الشمس ويقودون درب العلوم والتقنية في عالمهم وعصرهم.. كما صنعوا في علوم الجغرافية ورسم الخرائط وتحديد خطوط الطول والعرض وغيرها..
أين إذن المسوّغ الذي يفرض علينا أن نقيّد أنفسنا بقيود "عصر الانحطاط" هذا في رؤانا الذاتية المنفصلة عن العالم المتحضّر حولنا، بعد ذلك العصر الإسلامي الحضاري المشرق، وهو الذي مهّد من أجل أن تكون الكلمة التي نقرؤها أو نسمعها اليوم في أقصى الأرض تنتقل إلى أقاصيها الأخرى في لمحة بصر.. ومتى نعيش في عالمنا وعصرنا، ونستعيد بعض ما أراده إسلامنا وصنعه علماؤنا من قبل؟..
الوحدة في عموم الخطاب والتفرقة في تقييده دون مسوّغ شرعي
إنّ القول باختلاف المطالع:
1- كان يراعي عدم قدرة المسلمين في بلدة.. أو قرية.. على إخبار المسلمين في بلدة أخرى وقرية أخرى داخل نطاق "الأرض الإسلامية الواحدة.. في ظلّ خلافة واحدة على الغالب" برؤية الهلال بعد تحرّيه..
2- ما الذي يجعل اليوم ذلك الخطّ الحدودي الذي رسمته خرائط سايكس وبيكو، الإنجليزي والفرنسي، أو رسمه انقلاب عسكري أو غير عسكري في هذا البلد أو ذاك.. هو الذي يحكم على المسلمين في بلد مثل سورية أو مصر أو اليمن أن يطبّقوا اجتهاد اختلاف الأهلة "قطريا" منفصلين عن جيرانهم في لبنان أو فلسطين أو الأردن أو العراق أو السعودية أو الكويت؟..
3- هل بات أساس اجتهاد اختلاف المطالع القديم هو هذه الحدود الجديدة التي توصف بحدود دول مستقلة وكانت حدودا "استعمارية" محضة؟.. هل كانت هي المقصودة عند من اجتهد بهذا الاجتهاد –وفق معطيات عصره- قبل قرون وقرون؟..
4- إذا كان القبول بوسائل التبليغ الحديثة المتبعة حاليا داخل نطاق حدود قطر من الأقطار الإسلامية، هو الأساس لإعلان ثبوت الرؤية في ذلك القطر، فعلام لا يكون ساري المفعول على التبليغ بتلك الوسائل نفسها بما يتجاوز الحدود القطرية؟..
5- وما دامت وسائل التبليغ الحديثة المستخدمة قطريا قابلة للاستخدام بما يشمل المعمورة، فمتى يتجاوز المسؤولون المعنيون، في السلطات السياسية وفي المواقع "الدينية"، أنفسهم، ويتجاوزون التقوقع داخل نطاق أقطارهم، ليساهموا على أرض الواقع في توحيد رؤية الهلال للمسلمين في كافة أنحاء المعمورة؟..
6- ألا يمكن أن توجد مثلا هيئةٌ لهذا الغرض تتبع لمنظمة مؤتمر العالم الإسلامي، ليكون لهذه المنظمة دور يقتضيه اسمها في ميدان العبادات على الأقلّ؟..
لقد نوّه المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في بياناته الأخيرة عن رؤية الهلال أكثر من مرة، إلى اعتماده في الاجتهاد حول رؤية الهلال إلى عموم الخطاب في الحديث الشريف (صوموا لرؤيته.. وأفطروا لرؤيته).. وهو ما يُفهم منه، أن النبي صلّى الله عليه وسلم خاطب المسلمين جميعا، وفي جميع العصور، ولم يخاطب المسلمين في المدينة دون مكة، ناهيك أن يكون قد خاطب المسلمين المعاصرين في سورية دون السعودية أو باكستان دون مصر أو البلدان الإسلامية حاليا دون سواها خارج حدود ما يسمّى العالم الإسلامي.
صوموا.. وأفطروا.. أيها المسلمون، في كل مكان من الأرض، في الماضي والحاضر وإلى يوم الدين، جميعا، دون اعتبار أي عامل من العوامل التي تمزّق شملكم وتثبّت تجزئتكم من وراء حدود نشأت في الماضي القريب أو قد تنشأ في المستقبل.
"الوسيلة".. بين اليقيني والظنّي
ما يسري بصدد عموم الخطاب على لفظة صوموا بما يتجاوز حدود المكان والزمان، يسري على لفظة رؤية، بمعنى ثبوت الرؤية (وفق القاعدة اللغوية: حذف المضاف إليه إذا كان مفهوما من السياق).. فمن المستحيل أن يُربط الصوم برؤية كل فرد من الأفراد بعينيه ظهور الهلال، وهذا ما يعني تلقائيا ربط هذا الخطاب الشرعي بوسائل "ثبوت" الرؤية، مع مراعاة أنّ الخطاب الشرعي يتجاوز دوما حدود الزمان والمكان، لأنّ شرع الله صالح لكلّ زمان ومكان.
إنّ ما أصبح متبعا دون اعتراض، من وسائل حديثة في تحديد أوقات الصلاة "حسابيا"، أي دون اعتماد الرؤية البصرية لحركة الشمس اليومية كما كانت في العهد النبوي.. وكذلك في "التقدير الحسابي" لأوقات الصلاة في بلاد لا تغيب الشمس فيها ستة شهور، ولا ينجلي الليل في الشهور الستة التالية، يعني أن المسلمين بعلمائهم وعامّتهم أدركوا وطبّقوا على أرض الواقع في ركن الصلاة، ما يمكن أن يطبّقوه، ويجب أن يطبّقوه في ركن الصوم أو ركن الحج.
الوسيلة الحسابية الفلكية لحركة الشمس لتثبيت أوقات الصلاة.. كالوسيلة الحسابية الفلكية لحركة القمر لتثبيت مواعيد طلوعه.. بدقّة مماثلة، وأرضية شرعية واحدة شاملة لهاتين الآيتين من آيات الله عزّ وجل، وقد ورد في كتابه الكريم اعتمادهما لتعلموا عدد السنين والحساب.
لا يسري وصف "اليقيني" قطعا على "وسيلة" الرؤية البصرية، كما يشهد على ذلك الاختلافُ المتكرّر سنويا، والآن في عام 1431هـ و2010م أيضا، كما يشهد عليه الوقوع مرارا خلال السنوات الماضية في أخطاء والرجوع عنها لاحقا، بينما وصل علم الفلك إلى مستوى النتائج "اليقينية" في كثير من جوانب ما يشمله تعبير "عدد السنين" وتعبير "الحساب"، وممّا يشهد على ذلك الآن في عام 1431هـ و2010م، أن يتلاقى ما صدر عن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بشأن تحديد يوم عيد الفطر، مع "جميع" ما صدر عن الدول التي تأخذ باعتماد الحساب الفلكي، وقد ذكر موقع (أون إسلام) أنّ "14 دولة وهي تركيا وروسيا وأوكرانيا وتركيا ودول البلقان (بلغاريا، رومانيا، صربيا، كوسوفا، مقدونيا، ألبانيا، البوسنة والهرسك، الجبل الأسود، كرواتيا، سلوفينيا" أعلنت أن العيد يوم الخميس، وأضاف الموقع: "وتعتمد هذه الدول على الحسابات الفلكية في تحديد تواريخ المناسبات الدينية وليس على رؤية الهلال".
ليس الامتناع عن اعتماد الحسابات الفلكية صادرا عن تقدير قويم للحرص على اعتماد "اليقينيّ" وليس "الظنيّ" من الوسائل لتمكين عموم المسلمين من الحرص على أمر "المواقيت" التي يعطيها الإسلام مكانة محورية أساسية في العبادات.
وما نزل الوحي بنصّ شرعي، قطعي الورود، قطعي الدلالة، حول وسيلة من الوسائل أو تقنية من التقنيات مع التشبّث بها دون تطويرها وابتكار المزيد عليها في تنفيذ أيّ أمر من أوامر العبادات والمعاملات.
وما نزل الوحي بنص شرعي، قطعي الورود، قطعي الدلالة، حول جانب من جوانب العلم والمعرفة، مع الجمود عند حدّ من الحدود تمنع البشر من الاستزادة، على طريق الرقيّ والتحضر في مختلف الميادين.
ثغرة نصنعها لصالح المعادين للإسلام
ليس الامتناع عن الأخذ بثبوت مطالع الهلال عبر الحسابات الفلكية ناجما عن رؤية شرعية قدر ما هو ناجم عن اعتيادٍ على وسيلة سابقة هي الرؤية بالعين المجرّدة.. وينبغي التأكيد:
1- ما نشهده من تشبّث وجمود (ليس في ميدان رؤية الهلال فقط) إنّما هو في ميادين اجتهاداتٍ أصبحت تُعامل مع مرور الزمن كأنّها "بدهيات".. وهذا ناجمٌ عن أسباب عديدة، منها "التعصّب" لمذهب أو لعالم قديم أو من المُحْدَثين، ومنها مفعول "الاعتياد" القاهر للنفوس، المتردّدة عن تلبية الشرع واحتياجات الإسلام والمسلمين للتطوّر.
2- وفي هذا تناقض مباشر مع ما يقتضيه الشرع والعقل من تجديدٍ يتوافق مع النصوص القاطعة، فالأصل الإسلامي الذي يجب أن يسري مفعوله دوما هو: ثباث الثوابت (وذاك فيما قال الله تعالى.. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم..) مع التجديد المتتابع للاجتهادات (وذاك شامل لجميع ما قال فلان.. وقال فلان.. من جميع المجتهدين دون استثناء، جزاهم الله خير الجزاء).. وآنذاك تتحقّق مواكبةُ تبدّل المعطيات في المكان والزمان والحال، ويظهر بوضوح ما تعنيه عبارة "الإسلام صالح لكلّ زمان ومكان"..
3- ولا يقوم على مهمّة "التجديد المتتابع للاجتهادات" سوى العلماء الأتقياء المؤهّلين للاجتهاد، وليس (مثلا) مَن يتعدّون على الاجتهاد "حماسة وتهوّرا" دون نصيب كافٍ من العلم ولا مؤهلات كافية للاجتهاد.. وليس (مثلاً آخر) مَن يروّجون للانحراف عن الإسلام، ولا يلتزمون بكلياته وأصوله التشريعية (كما هو الحال مع دعاوى تفسير النص القرآني بقواعد وضعية لغوية من الفلسفات الغربية المتعدّدة المتناقضة) ثم يزعم هؤلاء وهؤلاء وأشباههم: "نحن رجال.. وهم رجال"، وهم يقوّضون خبطَ عشواء أو عبر تدبير وكيدٍ مقصود أركانَ الثوابت، وقواعدَ الاجتهاد والتجديد، وكنوز التراث الإسلامي دون تمييز، ودرب التطوّر والنهوض، في وقت واحد.
إنّ التشبّث بالمعتاد وبالجمود بدلا من الاجتهاد صَنَعا ثغرةً بالغة الخطورة يستغلّها الذين يمارسون العداء للإسلام والمسلمين، الذين يطغون في "انتقاداتهم"، سيّان عن قصد أو دون قصد، عندما يستشهدون بالنتائج الشاذة الناجمة عن تشبّثٍ وجمود في ميدان اجتهادي ما، ليحوّلوا انتقاداتهم الجزئية الجانبية إلى أحكام شمولية تعميمية، ثم زعم سريانها على الميادين التي لا اجتهاد فيها، والتي قال الوحي فيها قولا قاطعا، يكتسب هذا الوصف من مضمون النصوص القطعية الورود وقطعية الدلالة، وليس من مضمون فهم المجتهدين للنصوص عموما، في وقت معين ومكان معين وحال معينة.. فهم –أعني المعادين للإسلام نفسه- إنّما يريدون إنكار موقع الوحي ومكانته في دين الله عزّ وجل، ويدخلون إلى ذلك من مدخل إنكار ما شذّ مع مرور الزمن من اجتهادات بشرية، فبقي الجمود عنده أو التشبّث به دون تجديد.
إنّ الإسلام كان وما يزال (لاعتماده على ركيزتين: ثوابت الوحي الربّاني.. ومشروعية تجدّد الاجتهاد) نهجا ربّانيا للبشر جميعا في كلّ زمان ومكان إلى يوم القيامة، فمن يصرّ على أن يمضي في تطبيق الآيات والأحاديث بتأويل أو تفسير، وهو يعطي الأولوية للمعتاد من اجتهاداتٍ ما، تجاه النصوص القاطعة والمقاصد الشرعية الإسلامية الثابتة، يساهم من حيث لا يريد في دعم مزاعم من يريد أن ينقض عرى الإسلام نفسه، بادّعاء عدم صلاحيته لكلّ زمان ومكان.. أي ادّعاء إنكار مصدر الوحيّ الرباني من وراء الإسلام بمقاصده وكلياته.
وإن من مقاصد الإسلام –فيما يتعلّق برؤية الهلال- ما تقرّره الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة التي تثبّت أنّ هذه الأمّة أمّة واحدة، وأنه لا ينبغي لها أن تتنازع فتفشل ويذهب ريحها، وأنّ عليها التلاقي على حبل الله المتين.. وليس على التفكير والتقرير والممارسات انطلاقا من رؤى قطرية أو وقائع صنعتها خرائط سايكس وبيكو ولم يصنعها السلف الصالح على خطى الحبيب.

JoomShaper