خير الوداع عليك يا شهر الهدى    لم يبق من ذنب ولا عصيان
فعلى فراقك سال دمع عيوننا       مثل انهمال الوابل الهطال
فهو المفصل والمعظم قدره         بين الشهور وسيد الأزمان
قال السلف: (رمضان سوق، قام ثم انفض، ربح فيه من ربح, وخسر فيه من خسر)، فمن أي الفريقين أنتِ؟ واسمعي معي قول الحسن: إن الله جعل رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر المبطلون. إن الفائزين يحزنون على فوات الأيام المعدودات من شهر النفحات، وهو حزن يستجلبون به الأمل والرجاء؛ لأنه يبعث الشوق إلى مرضاة الله، والندم على ما فرط في جنب الله، فشأن المؤمن أن يلازمه الوجل، مهما قدم من طاعة وعمل.
سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون) [المؤمنون:60]، فقالت: يا رسول الله، أهم الذين يسرقون، ويزنون، ويشربون الخمر؛ ويخافون من الله؟ قال (لا، يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون؛ وهم يخافون ألا يُقبل منهم) [صححه الألباني].
وهذا هو حال الطائعين بعد رمضان أختي الحبيبة، فبعد أن صاموا، وقاموا، وقرأوا القرآن، وتعبدوا إلى الله تعالى، يخافون ألا يتقبل الله منهم أعمالهم؛ لأنهم أدركوا قيمة ما حصلوه في الأيام الماضية، وعلموا أن بضاعتهم لم تكن مزجاة، ولكن بقى أن يوف الله لهم الكيل ويتصدق عليهم.
غزلك لا تنقضيه:
لا تنقض غزلك؛ كالمرأة التي غزلت ثوبًا جميلًا وبذلت فيه من الجهد الكثير، جلست بإرادتها لتفك عراه عروة عروة، وتنقض خيوطه خيطًا خيطًا، يقول تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالِّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةً أَنكَاثًا} [النحل:92]، إياكِ أن تكوني أختي الحبيبة من عباد رمضان وليس من عباد رب رمضان.
الثبات هدي خير الأنام:
والثبات على الطاعة هو هدي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان يدعو دائمًا فيقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) [صححه الألباني]، وكان يحث أصحابه على الثبات على العبادة ولو كانت قليلة، فكان يقول: (أحب الأعمال إلى الله، أدومها وإن قل) [صححه الألباني].
كيف السبيل؟
لكي لا تحيدي عن جادة الطريق، لابد من إشارات وعلامات بعد رمضان تداومي عليها وتحرصي على تأديتها لتكوني طوال العام قريبة من رمضان ومن رب رمضان:
- عليكِ بصحبة أخوات الخير: اختاري من يعينك على طاعة الله، فالمرء على دين خليله، والأخلاء بعضهم يوم القيامة لبعض عدو إلا المتقين.
- صلاتك: أدي الصلاة على وقتها، وثقي بأن أرجى عمل بعمله المسلم وأفضل ما يقربك من الله هو الحفاظ على الفرائض، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (ما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) [رواه البخاري].
- كوني مشعلًا للخير: احملي هم دينك، واعملي على نشره بين الناس، وانشغلي بالدعوة إلى الله، بخُلُقك وسلوكك وعملك قبل أن تكوني داعية بلسانك، واعلمي بأن الله الذي يراكِ تعملين من أجله وتصرفين الأوقات في سبيله؛ سيوفقك إلى الثبات على دينه، فهو رب شكور حليم، يضاعف الأجر لمن يشاء.
- حبل الله المتين: لتحافظي على علاقة ثابته مع القرآن؛ فهو علامة قربك أو بعدك عن الله، لا تهجري القرآن، ولا تقطعي صلتك بالقرآن، فهو حبل الله الذي إن قُطع حُرم العبد كل الخير، فمن كانت لا تستطيع القراءة وتتلعثم تتعلم التجويد، ومن كانت تقرأ فلتبدأ بالحفظ، ومن كانت حافظة فعليها بالمراجعة، ولتبدأ بداية تلاوة جديدة بعد رمضان.
- النوافل: ثم ليكن لك ورد من النوافل اليومية من صلاة وصيام وصدقة وغيرها حتى تنتقلي من درجة المحبة لله إلى درجة المحبوبة من الله، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل؛ حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به...) [رواه البخاري]، ولتكن بدايتك بصيام ست من شوال تطبيقًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان، ثم أتبعه ستًا من شوال؛ كان كصيام الدهر) [صححه الألباني].
حبيتي وأختي المسلمة، بمثل ما استقبلت به رمضان "استقبال المودعين" بالطاعة، فودعيه وداع المستقبلين للشهور التي تتلوه بالطاعة، فكلها أيام الله، ورب رمضان هو رب باقي العام.
 صمت أيام الشهر إيمانًا واحتسابًا، وقمتِ لياليه وليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، هكذا نظنك، وهذا الإيمان والاحتساب شرط في كل عبادة في أية لحظة، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، فاجعلي صيامك تطوعًا بعد رمضان إيمانًا واحتسابًا، وعملك وطلبك للعلم، وصبرك، ونفقتك، وكل عملك، وطاعتك إيمانًا واحتسابًا، فالاحتساب هو لب الإخلاص وروح القرب، فهو فريضة الدهر، لا مناسبة الشهر.
حافظتِ على الصلاة بخشوعها وأتممت سجودها وركوعها، وتلك الصلاة قد شرعت إقامتها لذكر الله {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، فهلا أبقيت على ذكرك لله في كل أيام الله.
قيامك طوال الشهر في الصلاة مع نفسك أو مع الإمام مهما طال، حجة عليك بأن لك القدرة على طول القيام، فلا تقصِّري فيه سائر العام، وليكن لك نصيب من القيام بعد شهر رمضان فهو شرف المؤمن، فلا تفرطي في شرفك بقية العام.
ختمت القرآن مرة أو أكثر من مرة في رمضان، فإذا كنت عزفت عن النوافل والصوارف حتى أنجزتِ هذا، هلا عزمتِ على صرفها عنك مرات أخر للإكثار من قراءة القرآن في سائر الأيام؟
حافظتِ بقدر استطاعتك على قلبك وعقلك وجوارحك عن الحرام في شهر الصيام، ولكن صيام تلك الجوارح عن الحرام لا نهاية له بغروب شمس أو بهلال عيد، فهو شريعة الله في سائر العام {إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُ أُوْلَـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
أرحامك، إخوانك، أخواتك، جيرانك، أهل بيتك؛ أحييتِ صلتهم في رمضان، فلا تعديهم في الموتى بعد رمضان، فالصيام يحيي قلبك في الشهر الفضيل لوصلهم ليظل الوصال حيًا سائر الأيام.
كنتِ في شهرك جواده كريمة، لكن ربك الحي الذي لا يموت هو الغني الأكرم الجواد، فعاملي عباده بما تحبي أن يعاملك به من الجود والكرم، فعساه أن يجود عليك بنعيم الجنان.
عاهدي الله على الطاعة وأنت في نهاية موسم الطاعات، فقد كان نبيك صلى الله عليه وسلم يعاهد الله على الطاعة فيقول في دعائه المسمى سيد الاستغفار: (اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت.... ) [رواه البخاري].
نعمة سابغة ورحمة واسعة أن تخرجي من رمضان مغفورًا لك، فحافظي على تلك النعمة ولا تبدليها نقمة بالعودة إلى العصيان بعد وداع رمضان.
كيف تعرفي هل قبل منا رمضان أم لا؟
أولًا لا تغتري بعبادتك ولا تقلولي، لقد صمت رمضان كاملًا بل احمدي الله أن وفقك وبلغك شهر رمضان شهر الخير والإحسان، واحمديه أن وفقك أيضًا لصيامه وقيامه فكم من محروم وممنوع، واستغفري الله فتلك عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد كل طاعة.... الاستغفار .
يقول علي رضي الله عنه، (كان أصحاب النبي يعملون العمل بهمة ثم إذا فرغوا أصابهم الهم أقبل العمل أم لا).
نحن لا نطلب أن نكون بعد رمضان كما كنا في رمضان، فهذا شيء صعب فأيام رمضان لها ميزة خاصة، وقدرة خاصة وطاقة خاصة، ولكن نأخذ من هذه الطاقة والقدرة ما يعيننا على الثبات بعد رمضان فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل وهنا تتضح الحكمة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر) [صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (2433)]، والحكمة أن تثبت على الطاعة وتأكيد على الاستمرار في فعل الخيرات وبان رب رمضان هو رب كل الشهور.
رمضان نقطة بداية وليس نقطة نهاية:
شهر رمضان فرصة للتغيير، فرصه لكسب المزيد من المهارات، ففي رمضان نتعلم كيف ننظم الوقت نأكل في موعد محدد ونمسك عن الطعام في وقت محدد، وتتعلم منه أيضا فن الاتزان فنحن في رمضان نوازن بين غذاء الروح وغذاء البدن ففي بقية شهور السنة نركز على غذاء البدن، ونهمل غذاء الروح فيحدث الكسل والفتور وعدم المقدرة على العبادة أما في رمضان، فيزيد تركيزنا على غذاء الروح مثل الذكر قيام الليل القرآن فتنشط الروح، وإذا نشطت الروح أصبح الجسد قادرًا على الطاعة والزيادة فيها.
 ونتعلم من رمضان أيضًا الصبر والمسامحة والإيثار فكثيرًا ما كنت أجد على مائدة الإفطار أخوة لي قبل أن يأكل أحدهم تمرته ينظر إلى من بجانبه فأن لم يجد أمامه تمرا آثره على نفسه والكثير من الأخلاق، فلماذا بعد رمضان نترك كل هذا بعد أن تعودنا عليه وعندي، مثال لرجل يمتلك سيارة قام بإدخالها إلى مركز الصيانة لعمل صيانة لها وإصلاح ما فسد فيها، ثم بعد أن تمت عملية الصيانة اللازمة لها وتزويدها بالبنزين أوقف السيارة ولم يستعملها ... فهل هذا معقول بعد أن أصبحت السيارة قادرة على السيرة بسرعة وبقوة يتركها .
فهذا الحال يحدث بعد رمضان، فبعد أن يتم شحن بطاريات الإيمان فينا ونصبح قادرين على المضي في طريق الهداية والإيمان، نتوقف ونهمل أنفسنا نتصالح مع الشيطان ونركز على البدن في الغذاء لا على الروح والبدن معًا .
تقبل الله منا ومنكِ، ونسأله تعالى أن يجعلنا من المقبولين والثابتين بعد رمضان...اللهم آمين.

JoomShaper