د. محمد بهجت الحديثي   
قال تعالى ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) فصلت 33. تعتبر الدعوة إلى الله من أهم وأعظم وأشرف الأعمال التي يمكن للمسلم المؤمن القيام بها، وهي أعلى درجات الايجابية، فهي مهنة الأنبياء والمرسلين والصالحين. ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم)) (1).

قال تعالى ((قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي)) يوسف 108، فهل أنت إيجابي ومتبع في أمر الدعوة أم لا؟ ولابن القيم كلمة جميلة في هذا المقام، يقول: اعلم أن مقام الدعوة إلى الله وإصلاح الأرض أعلى مقامات العبودية لله، لأنه مقام محمد (صلى الله عليه وسلم). إنها قضية يجب أن تكون محور حياة كل مسلم، فكل مسلم مطالب أن يكون إيجابيا في أمر الدعوة إلى الله تعالى. عبر من قصة سيدنا سليمان عليه السلام.. إيجابية نملة (2) 
قال تعالى ((وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)) النمل 18-19. لماذا هذه القصة؟ هذه الايات توضح أمرا جميلا جدا وهو الإيجابية.
هي شعرت بالخطر المحدق بقومها، فلم تهتم بنفسها فقط، وتذهب، بل حملت همَّ قومها. فالقرآن الكريم لم يقل: قالت قائدة النمل أو قائد النمل لكن نملة تحب قومها فقامت بما عليها وتصرفت بإيجابية، فنادت (يا)، ونبهت (أيها) وأمرت (ادخلوا)، ونهت (لا يحطمنكم)، وخصت (سليمان)، وعمَت (جنوده) وأحسنت الظن بالجيش الاسلامي الذي يقوده سليمان فاعتذرت بقولها (وهم لا يشعرون)، فأي فصاحة هذه وأي ايجابية. أفلا نتعظ نحن المسلمين ونتعلم ونعتبر من هذه النملة؟!
ولا حظوا أنها ما احتقرت نفسها، ما قالت: ما قدري في هذا المجتمع، ماذا يمكن لي أن أفعل وأنا مجرد نملة فالنمل كثير، لكنها رأت أن عليها واجبًا يجب أن تقوم به، فقامت به.

تحذير.. إحذر الْمُعَوِّقِينَ
إذا أردنا أن ننضم إلى صفوف الإيجابيين وجماعتهم، علينا أن نحذر أن نكون من الفئة التي سماها الله (الْمُعَوِّقِينَ))، أي: المثبطين، فقال ((قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا)) الأحزاب 18.
فلنحذر ان نكون من أو مع الأشخاص السلبيين المحبطين، المثبطين للعزائم، الذين يجعلون السهل صعبا، والممكن مستحيلا. فعندما تبادر مبادرة إيجابية في طريق الإصلاح، ترى لسان حالهم يقول: لا فائدة.. هذا الزمن تعيس.. ومن المستحيل أن نحدث أي تغيير.. كن واقعي.. عليك بنفسك فقط.. دعك من هذا واشتغل بما هو أهم!
فتخرج من هذا المكان يملئك الحزن لسماع هذه الكلمات وليس لديك همة لأن تفعل شيئا. وهذا لا يعني مقاطعتهم، ولكن أن نحاول قدر الإمكان عدم التأثر بما يقولون.

وقفة مع ومضات مضيئة من علم النفس - تأثير الإيحاءات السلبية على النفس
يبدأ (الدكتور جوزيف ميرفي –أحد أبرز رواد علوم التنمية البشرية وتطوير الذات) الحديث في أحد فصول كتابه (قوة عقلك الباطن) متسائلا: "هل قبلت بأي من هذه؟"، ثم يضيف قائلا: "يقابل أغلبنا منذ الطفولة إيحاءات سلبية كثيرة ولأننا لا نعرف كيف نقومها، فإننا نقبلها بدون وعي منا مما يجعلها حقيقة. وإليك بعض الإيحاءات السلبية:
أنت لا تستطيع
إنك لن تبلغ أو تصل إلى أي شيء
إنك سوف تفشل
إنك على خطأ
ليس هناك فائدة من ذلك
ما الفائدة، لا أحد يهتم
لقد كبرت على ذلك
إن الأمور تزداد سوءا
ليس هناك أمل
لا فائدة من المحاولة"

يوصي (ميرفي) قراءه أن يحذروا من تقبل مثل هذه الإيحاءات أو أي إيحاءات سلبية أخرى؛ يقول: "اكبح باستمرار جماح الإيحاءات والافتراضات السلبية التي يطلقها الناس. فأنت لست مضطرا لأن تتأثر بإيحاءات هدامة من الآخرين. فأغلبنا قد عانى منها في طفولته وفي متقبل عمره. وإذا رجعت للوراء واسترجعت ذكرياتك بسهولة، ستجد كيف أسهم الوالدان والأصدقاء والأقارب والمدرسون في جملة من الإيحاءات السلبية. وعملية الإيحاء الخارجي تتم بشكل متواصل في كل بيت ومكتب ومصنع. وسوف تجد أن الكثير من هذه الإيحاءات غرضها أن تجعلك تفكر وتشعر وتتصرف مثلما يريد الآخرون وبالوسائل التي يرغبونها هم.
بتقبل هذا النوع من الإيحاءات –السلبية- الخارجية فأنت تشترك في إمكانية تحقيقها. عندما كنت طفلا لم يكن لك حول ولا قوة أمام اقتراحات وإيحاءات من يهمونك من الكبار، فلم تكن تعلم شيئا، وكان العقل بجانبيه الواعي والباطن يمثل شيئا غامضا لم تفكر فيه ولم يكن يشغل لك بالا. ولكن كشخص بالغ وراشد الآن فلديك القدرة على الاختيار".

إحسم موقفك ... قصة أصحاب السبت (3) 
أصل المشكلة..
قال تعالى ((واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)) الاعراف 163. وملخصها أن بعض بني إسرائيل احتالوا على شرع الله فارتكبوا جرما شديدا وهو الصيد في اليوم الذي حرم الله تعالى عليهم العمل فيه (يوم السبت). فاختبرهم الله بإرسال السمك يوم السبت أمام أعينهم بكثرة، فتحايلوا على الأمر وأخذوا يضعون الشباك في الجمعة ليلا ويجمعون ما فيها صباح الأحد.

فرقة ايجابية وأخرى سلبية..
فانقسم المؤمنون إلى فرقتين، الفرقة الأولى كانت إيجابية.. وبدأ المؤمنين الإيجابيين في دعوتهم إلى الله عز وجل وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، حتى يكون لهم حجة عند لقاء الله بأنهم حاولوا الإصلاح ما استطاعوا.
أما الفرقة الثانية من المؤمنين فقد اتخذوا موقفا سلبيا.. بل أخذوا يعتبون على الذين كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويدعون إلى الحق، يقولون لهم: "لم تَعِظون قوما الله مُهلكهم في الدنيا بمعصيتهم إياه أو معذبهم عذابا شديدا في الآخرة؟!" التفسير الميسر، فهم قوم ميؤوس منهم ولن يستمعوا لنصحكم.. ((وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) الأعراف 164. وهكذا كان جواب الفرقة الإيجاببية الداعية إلى الله تعالى: "نعظهم وننهاهم لنـُعذَرَ فيهم، ونؤدي فرض الله علينا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورجاءنا أن يتقوا الله فيخافوه ويتوبوا من معصيتهم ربهم وتعديهم على ما حرم عليهم". (4) 

النتيجة!..
إذن، أصبح هناك فرقة عاصية.. وفرقة إيجابية قامت بواجب الإصلاح والدعوة إلى الله.. وفرقة سلبية لم تتحرك ولم تصلح ولم تدعوا إلى الله تعالى.. فماذا كان مصير كل واحدة من هؤلاء؟
لم يستجب أصحاب السبت لنصح المؤمنين ولدعوتهم فأنزل الله بهم العقوبة ((فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ)) الاعراف 165. الفرقة الإيجابية (الداعية إلى الله تعالى) أنجاها الله عز وجل من العذاب، والفرقة العاصية أخذها الله تعالى بعذاب بئيس، أما الفرقة السلبية التي آثرت موقف المتفرج! لم تُذكر. فقد أهمل القرآن ذكرها واختلف العلماء في ذلك. فمنهم من قال أنهم لم يستحقوا أن يذكروا لأنهم كانوا سلبيين ولم يحسموا موقفهم، فلم يذكر الله لهم مصير. والرأي الثاني يرى أنهم قد دخلوا مع الظالمين وهم معنيون بقوله تعالى ((وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ)) فهم والذين اقترفوا المعاصي سواء في هذا الحكم، لأنهم بقوا حياديين حيال المعصية وسكتوا عنها فأصبحوا بذلك عصاة. فمع أي فرقة تحب أن تكون؟! وهل تستطيع حسم موقفك الآن وبقوة؟!

الإنسان المسلم المؤمن الذي ارتضى الاسلام دينا له، هو واحد من اثنين:
• إما ايجابي، عامل وداعية إلى لله تعالى:
وهو بذلك قد أدى الواجب، وفاز بثواب الله، ما في ذلك من شك، متى توافرت شروطه.
وبقيت الإفادة والنتائج وهذه أمرها إلى الله، فقد تأتي فرصة لم تكن في حسابه تجعل عمله يأتي بأبرك الثمرات. وهو بذلك –وبدعوته وعمله وعدم قعوده- قد اوجد فرصة الافادة التي قد تأتي فيقطف ثمارها باذن الله، وقد لا تأتي فيقطف ثمارها أولاده والجيل الذي يليه.

• وإما سلبي، قاعد:
وهو بذلك قد لزمه إثم التقصير، وضاع منه أجر الدعوة.
وحرم الإفادة قطعاً.

كن إيجابيا ولو بآية
إن الدعوة إلى الله أمر سهل جدا، معناها أن تأخذ بيد أهلك وأقاربك وأصحابك وزملائك في العمل وجيرانك لكي يتقربوا إلى الله، ولو خطوة واحدة. هذه هي الدعوة إلى الله تعالى بكل يسر وبساطة. يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ((بلغوا عني ولو آية)) (5) . فإذا لم تعرف في الإسلام إلا شيئا واحدا من الخير فادعوا الناس إليه.

ملاحظة مهمة.. 
إن القعود والتقاعس عن أمر الدعوة إلى الخير –وأعلاها: الدعوة إلى الله- واعتقاد عدم وجوبها على جميع المسلمين، إنما سببه في الغالب: ضعف في الإيمان، الخوف، الجبن، الحرص على الراحة، التعود على السلبية، التشاؤم وفقدان الأمل في إمكانية الإصلاح، الخوف من التعب والجهد الذي قد يصيب الداعية، وغيرها من الأسباب النفسية التي قد تؤدي بصاحبها إلى إعتزال أمر الدعوة وتركه بصورة دائمة ومتعمدة. 

المستقبل للإسلام
قال الصادق المصدوق (عليه أفضل الصلاة والسلام) ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر)). (6)
وقال (صلى الله عليه وسلم) ((تكون النبوة فيكم ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون فيكم ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم يكون ملكا عاضا فيظل فيكم ما شاء الله له أن يكون ثم يرفعه إذا شاء أن يرفعه، ثم يكون ملكا جبريا فيكون فيكم ما شاء الله له أن يكون ثم يرفعه إذا شاء أن يرفعه، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)) (7). ملكا عاضا: هو كناية عن شدة الاستمساك بأمر ما، وهو أمر أشبه بالملك الوراثي كما كان عليه الحال في القرون السابقة. وملكا جبريا: اي من الاجبار (القهر والاكراه) وهو الذي يقوم على التجبر والطغيان، وهو أمر أشبه بالأنظمة الدكتاتورية التي تحكم بالنار والحديد كما هو الحال في عصرنا هذا.

قال تعالى ((لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) الحديد 10، فهنيئا لمن كتبه الله تعالى من الدعاة الايجابيين السابقين المساهمين بنهضة الأمة وعزة الاسلام.
-----
(1) رواه حذيفة بن اليمان
(2) من كتاب قصص الأنبياء، الأستاذ عمرو خالد بتصرف
(3) من كتاب خواطر قرآنية، الأستاذ عمرو خالد بتصرف
(4) التفسير الميسر
(5) أخرجه البخاري
(6) رواه تميم الداري وصححه الالباني.
(7) رواه أحمد

JoomShaper