د.ناصر احمد سنه
الإنسان بطبعه كائن اجتماعي لديه حاجات مُلحة للتواصل والتفاعل والتلاقي. أمور أخذت أشكالاَ وأنماطاً متعددة عبر التاريخ الإنساني، وأثمرت حضارة، وتاريخاً، وفنوناً، وثقافة.. شفهية وكتابية. بيد أنه بات التواصل الخلوي، وتسارع نمو وتطور آلياته وتجهيزاته وأجهزته، يتربع على عرش أكثر وسائل التواصل والاتصال شيوعاً علي كوكب الأرض. فمن البيت للعمل، لقاعات الدرس، في وسائل المواصلات، وعلي متن السفن والطائرات، وفي الطرقات والأندية والمتنزهات الخ تجده يلازم الناس كظلهم. ولم تعد غاية هذا التواصل تبادل الكلمات أو نقل الرسائل القصيرة، بل تعدي الأمر وتشعب أكثر من هذا بكثير. الأمر الذي يلح في النظر إليه نظرة سوسيولوجية عامة.

لقد تغيرت اهتمامات المجتمعات.. أمسي الهاتف الخلوي/النقال/ المحمول شغلاً شاغلاً للكثيرين وللعديد من طبقات الناس. فالعالم لم يعرف اختراعا انتشر استخدامه بالسرعة التي انتشرت بها أجهزة الخلوي/ المحمول، والتي تجاوز عددها المليارى جهاز! والمرشحة للتضاعف خلال أعوام قادمة. فحيثما حللت أو ارتحلت بدلا من الاستمتاع بقراءة كتاب، أو تبادل حديث مثمر، أو تناول غفوة من نوم استعدادا للعمل، سادت وسيطرت أجراس الخلوي/ الجوال على تلك الموقف جميعها. رنين مستمر، ومحادثات بصوت جهوري، بين غضب وثورة، وبين محبة ولوعة، تحية باردة، وأخري مراوغة، وثالثة مواعدة. انتهكت الخصوصيات، ولم يعد ثمة خجل من كشف مستور، أو الإعلان عن تجارة وهي تبور.
فبدءا من نقل وتبادل الملفات الصوتية والنصية الرقمية، وتبادل الصور وأفلام الفيديو، وتنظيم المواعيد وإجراء المكالمات بالصوت والصورة، وتخزين كافة البيانات الشخصية، وتحديد الموقع المرتبط بالأقمار الصناعية (أو ما يعرف بتقنية (GPS  وغيرها الكثير من الخدمات التي أصبح الناس يتعاملون معها بشكل يومي ومستم.
ولقد تحول الهاتف الجوال إلى صديق شخصي، يسدي النصائح ويقترح كيفية التصرف في بعض المواقف، بل وإلي طبيب خاص يوضع في الجيب ليقدم بعض النصائح الطبية ويراقب الوضع الصحي ويسجل بعض القراءات الطبية الخاصة، كضغط الدم، وعدد دقات القلب، ودرجة الحرارة وغيرها من المؤشرات الطبية العامة والهامة .

وأجهزة مزودة ببرمجيات متطورة، تعمل على جمع وتحليل البيانات والأقوال وردود الأفعال فتحولها إلى معلومات يمكن الاستفادة منها مستقبلا لتقويم الوضع العملي والصحي والنفسي للشخص. فضلاً عن أنها ستسدي بعض النصائح والإرشادات والاقتراحات ـ كتابة على شاشة الهاتفـ يأخذها الشخص المعني بعين الاعتبار.

نظرة سوسيولوجية
مقارنة بالحاسوب والإنترنت لقي التواصل/ الهاتف الجوال اهتماما سوسيولوجيا أقل."إن الإنترنت أعطت مكانة ضخمة كمبتكر وإبداع جديد، ولها حساباتها وأبعادها وتداعياتها، بينما أهملت التسهيلات الإجمالية التي قدمها الهاتف الجوال"..هكذا يذهب "مانويل كاستيلز"، عالم الاجتماع في جامعة بيريكللى الأمريكية.
وفى دراسة حديثة صادرة عن نفس الجامعة كشفت عن:" أن 98% من المعلومات حول العالم، تنتقل عبر الهواتف، سواء الثابت أو النقال. وفى هذا الصدد تجد الإشارة إلى أن الأوربيين يتبادلون شهرياً نحو  30 مليار رسالة قصيرة "أس أم أس SMS. بينما تشير أرقام هيئات الاتصالات الصينية إلي أن: عدد الرسائل القصيرة يتجاوز 60 مليارا سنويا، بمعدل 2-5 رسائل يوميا. إن معظم مستخدمي هذه الخدمة هم من الشباب (15-25 عاما)، لقد أوجدت الرسائل القصيرة ظاهرة ثقافية جديدة "ثقافة الأصابع" التي أثرت تأثيرا ليس فقط علي حياة الفرد اليومية بل احتلت مكانها علي حساب "أدب الرسائل الورقي" الذي كاد أن ينقرض كجنس من الأجناس الأدبية.
لقد أضحى استخدام الرسائل القصيرة وسيلة اتصال شائعة بين سكان الكرة الأرضية وخاصة الشباب، يستخدمها الناس لتبادل النكات والمعلومات والأرصاد الجوية واليانصيب والأوراق المالية ونقل التهاني في الأعياد وتحديد مواعيد وأماكن اللقاءات، والتعبير عن المواقف العلاقات والمشاعر.. فرحاً وحزناً، حبا وبغضاً، استمرارا أو انتهاء..زواجاً وطلاقاً.
وهناك زيادة واهتمام ملحوظ في تزيين وتجميل نداءات المحمول ، بحيث تؤدى وظيفة اجتماعية وعاطفية كإظهار القلق، التضامن، الالتزام، الإفصاح بالقرب، الإشفاق، التعاطف والحب. ولقد بات مجرد رنين المحمول (missed Call) يعتبر إشارة كافية على حدوث اتصال، وعلامة على الرغبة في التواصل بصرف النظر عما وصل فعلا من مضمون الرسالة! فالمكالمات الهاتفية تذكر بتواصل/ ترابط قويّ.
في حين ابتكر المفسدون طرقاً شيطانية لاستخدام الهواتف النقالة، فاستعملوها أداوتا للتنصت، والتجسس، والابتزاز، والاغتيال، والتفجير عن بعد.
علي اية حال.. ثمة اتفاقاً علي أن أجهزة الهواتف النقالة قد تمسي بديلاً عن أجهزة الكمبيوتر الشخصية المكتبية الثابتة أو المتنقلة. ذلك لأنها متعددة الوسائط، وقادرة علي نقل الصّوت والصورة، والرّسائل النّصّيّة، وتحميل صفحات الإنترنت، وتّطبيقات أخري متنوعة إذا تم تشفّيرها رّقمياً. إن مستخدمي المحمول يتصفحون نحو 25.5 مليون صفحة في اليوم عبر خدمة تصفح الإنترنت على المحمول (الواب).   
في بواكير استعمال المحمول اقتصر استخدامه على النخبة، وللأغراض المهنية. بيد أنه مع ازدياد فاعليته وتنوعها، وتوحده مع الحجم والوزن الأصغر والمتناقص، وقلة حاجته للطاقة، ورخص ثمنه، وسهولة استعماله (من قبل الأطفال الصغار، والنّاس الأمّيين والمعاقين والمهمشين، وغير القادرين على استعمال الحاسوب) أسباب زادت من سعة انتشاره وتأثيراته الاجتماعية. فالناس جاهزون ومستعدون دوماً كي ينفقوا مبالغ مالية كبيرة على فواتيره الشّهريّة، ومستلزماته وتطوراته التقنية، أكثر من تلك التي ينفقونها على خدمات الكمبيوتر ومزوّدات الإنترنت.

ولعل الموجة الأولى من أدوات التواصل والاتصال الخلوية أدت إلى تحولات في فهم الأفراد لأنفسهم وللعالم. ففي الدول الأقل نمواً، بات انتشارها وقدرتها أكبر وأعظم على دمج كثير من الناس، الأميون بصورة أو أخري، والذين يعيشون في عشوائيات مُفتقدين شبكات هواتف تقليدية أرضية (ظلت لعقود طويلة مقصورة إلى حد ما على الطبقات العليا من المجتمع)، ولم يتعاملوا مع حواسيب!. يبلغ عدد المشتركين الهنود في الهواتف المحمولة 563.73 مليون شخص، أي قرابة نصف عدد السكان . كما إن معدل نمو قطاع الهواتف المحمولة في منطقة الشرق الأوسط، ارتفع حتى وصل ما نسبته 167 % عام 2009، أي أن عدد الاشتراكات تجاوز في بعض البلدان عدد السكان.
ولعل الهاتف المحمول قد ساهم في تضييق فجوة رقمية بعمر قرن في استخدام التّليفون بين دول متقدّمة ودول أقلّ تقدماً (انظر: د.أحمد محمد صالح: نحو نظريّة اجتماعيّة للهاتف المحمول موقع أنفاس الإلكتروني).

المحمول للجميع
أظهر استخدامه "مساواة" بين الناس، بصرف النظر عن العمر، والجنس، والوظيفة، والخلفية الثقافية/ الاجتماعية/ الطبقية، والثروة، والدخل الخ. فهو يسد على الأقل بعض الفجوات بين الطبقات الاجتماعية المختلفة. وعلي الرغم من انتشاره الواسع بين الناس، حيث كادت تختفي رمزيته التي تعكس مدي الوجاهة والمكانة الاجتماعية، لكن ربما مازالت يبرز التفاوتات الاجتماعية، حسب أنماط الاستعمالات الواقعية، والأغراض الاجتماعية فى المواقف المختلفة، وأيضا بالأوضاع المختلفة للعلاقات والأدوار الاجتماعية.
لكن امتلاك "الموبايل"، جسد الاختلاف بين الثقافتين الشرقية والغربية؛ ففي الغرب يشترونه بالسعر الذي يتناسب مع الغرض منه، ولا يطلبون فيه إمكانيات لا يريدونها. لكن في الشرق غالباً ما يدخل عامل التقليد الشكلي/ المظهري فيغلب العملي البرغماتي. لكن شتان بين "عبثية الاستعمال" وبين "روعة الاستخدام"، وفاعلية الاستفادة.
لقد توسع الاستعمال من حالات العمل والتجارة والاطمئنان على الأهل والأبناء والأحبّة، وحالات الطّوارئ إلى الحالات الرّوتينيّة والدردشة/ الثرثرة، ومن الاتصالات المعيّنة الآلية إلى الاتّصالات المعبّرة فوق العادية. ولقد أصبح من الشائع ان يعجز المستخدمين عن توقع أنماط استعمالهم المقبلة للمحمول بطريقة سليمة! لكن ثمة سؤال لم ينجح البعض في تحويل نفسه إلى مجرد آلة مهمتها الكلام دون أن يقول ما ينبغي أن يقال؟.
ومن المنظور الكمّيّ حيث مقدار/ كم استخدام الهاتف المحمول ينتج عنه تصوّر متعدّد الأبعاد: كثافة/ كيفية/ نوعية/غاية الاستخدام، والوقت المستغرق فيه، وكم الناس المستقبلين/ الراسلين للمكالمات، والرسائل والتفاعلات.
فقدراته العمليّة المعيّنة تّسهل أو تعيق أساليب متنوّعة لتواصل/السّلوك الاجتماعيّ، كالتّفاعلات والعلاقات، وتخلق ظّروفاً بيئيّة جديدة تتجاوز النّظم الاجتماعيّة التّقليديّة .
في الختام..لقد غير التواصل الخلوي ما عـُرف بـ"التجاور الطبيعي/ الإقامة في بيئات مستقرة" كشرط إقامة/ تطور/ استدامة أشكال وأنماط العلاقات التواصلية التفاعلية بين الناس. ولقد كانت تكنولوجيات الاتصال اللاسلكي وراء كل المبتكرات التكنولوجية التي جعلت التواصل والاتصالات متوافقة مع قابلية التحرك المكاني، فتجاوزت ذلك الشرط . ولقد أتاحت الهاتف الخلوي حرية للناس في التواصل والاتصال والتفاعل، مع تحررهم من تلكم القيود الشرطية.
إجمال القول: إنها ثورة تواصل واتصالات هائلة ومدهشة تكاد أن تعصف بحياتنا التقليدية الوادعة. ومن يدر ما ستحمله الأيام والسنوات القادمة من تطورات ومفاجآت؟. خطوات تسعي في طريق دمج الآلة في الإنسان، أو أنسنة الآلة بشكل سيغير الكثير من نظرتنا ومفاهيمنا وأفكارنا الاجتماعية.

أ.د. ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي. Ahmed Senna Prof. Dr. Nasser
E.mail:عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.



 

JoomShaper