بثينة حمدان
لا أجمل من أن نحب، ونعشق، ونغرق في مشاعر وعواطف أخاذة إلى أبعد الحدود، ما أجمل أن نعشق فجأة ودفعة واحدة فلا نستطيع السيطرة على هذه المشاعر.. حب في الطفولة والمراهقة والشباب وفي مرحلة النضج، كله حب يبدأ طائشاً إلى أن يشد الخطى، ويمتن جذوره، ويواجه العواصف، عواصف الغيرة والشك والأنانية، عواصف الأهل والمجتمع، لكن الأهم أن يواجه بحسم في داخلنا، في عقلنا قبل أن يخرج إلى النور، وقبل أن يختم بميثاق الصراحة والصدق والإخلاص إلى الأبد. قد تسيل دموعنا، قد ترشح من أجسادنا أنهار العرق إثر كلمة حب، وإثر سماعنا رنين الهاتف، نتكهرب إذا تصافحنا، ونشتعل إذا تفرقنا. قد نتألم.. نتوجع ومع هذا نبقى مصرين على الحب. قد تصيبنا أمراض كثيرة وأعراض كثيرة تشير إلى الوقوع في الحب، كأن ننسى أن لدينا كرامة، فلا كرامة في الحب، كأن ننسى أن لدينا أهل، فلا أهل في الحب، قد ننسى الشارع والناس، فلا وطن في الحب، وننسى ذاتنا وفقرنا وجوعنا، ونتغذى على الحب، ونرغب كثيراً أن نبيع طقوس المجتمع وعاداته، من زفاف وذهب ومهر وبيت، رغبة في أن نحب فقط، ونعيش مثل طفل صغير بلا مسؤولية، ولا مرجعية، ولا ميثاق يوترنا ويجعلنا نفكر في شكليات قد تغطي بريق الحب ولو قليلاً.
رغم كل هذا، رغم كل هذا فإن هناك حب آخر يأخذنا.. يسرقنا من هذا الحب والعشق بل والهيام، حب يأخذنا فعلاً من الأهل، من المحيط، وتصبح الاجتماعيات آخر همنا، يصبح هو همنا، حب ينسينا تضحيات الحب الأول، وينسينا أنه ثمرة الحب الأول.
قد يوقظنا بكاء هذا الحب الجديد من نومنا العميق بينما لا يفعل الحب الأول، قد ينهكنا، بينما لا يفعل الحب الأول، يأخذ من أجسادنا الراحة، يأخذ منا الخصوصية والاستقلالية التي حاربنا لأجلها منذ نعومة أظافرنا، مروراً بمراهقتنا وصولاً إلى تأسيس منزل الزوجية، فجأة نمنحها بعقلنا وقلبنا إلى هذا الحب الجديد.
نعم هناك حب آخر يتملكنا بسهولة، وهو الحب الوحيد الذي يكون في نيتنا أن نحققه، الحب الوحيد الذي ننتظره تسعة شهور، الوحيد الذي نعطيه من لحمنا ودمنا ونحن راضين، الوحيد الذي إذا تشاجرنا معه، وتشاجر معنا، نسامحه ونطلب له الهداية والراحة والصحة والعمر المديد طوال الحياة ومهما حصل، بينما إذا افترقنا عن الحب الأول، فقد نفارقه إلى حد الكراهية والانتقام، والنفقة والمؤخر....
هو حب يبدأ قبل لحظة الولادة، ويستمر طوال تسعة شهور وإلى نهاية العمر، حب نعمل كي يعيش هو، نتعب كي يفرح هو.
ورغم أن وقتنا لم يعد ملكنا، وذاتنا لم تعد ملكنا تماماً، إلا أننا نقفز فرحاً حين يتعلم الابتسامة، وحين يتعلم الكلام، وحين يعيش بكرامة، ويكون شخصيته، وحين يصبح له أصدقاء، وقصص يرويها لنا كل يوم، نفرح حين يعبر عن حبه لنا، وحين يتعلم كتابة أحرف اسمه، ونتألم بسعادة حين يفارقنا إلى المدرسة، نقفز فرحاً حين يقول أو تقول: بابا.. ماما.
هناك حب .. وهناك حب حقيقي
- التفاصيل