د. ديمة طارق طهبوب   
تعودنا في العالم العربي على ثقافة الاستيراد، بل أصبحت لفظة "المستورد" تغلي من قيمة السلعة من الإبرة إلى الصاروخ، وتعلي من شأن المشتري وطبقته الاجتماعية!!
كانت الأشياء الوحيدة التي بقيت من ممتلكاتنا: العروبة والإسلام والأعراف والعادات والتقاليد، وبقينا نُعرَف بالنسبة إليها حتى إن تغيرت أشكالنا وملابسنا وتصرفاتنا، كانت العروبة بكل ما تمثله من مبادئ وممارسات شيئا لا يمكن التخلي عنه تُولد مع المرء وتموت معه، ولا تُنزع عنه إلا بالخيانة الكبرى للدين والوطن.
ولكن حتى هذه بدأنا نفقدها بفضل بعض القنوات الفضائية العربية التي تريد أن تصنع منا كربونات وظلالا باهتة ونسخا مكررة من أصل لا يسمح لنا أن نجاريه مهما حاولنا!

لقد نجح الإعلام الترفيهي في إيجاد ثقافات مستوردة مستنسخة عن الغرب في محيطات عربية، ولكن كما كان استنساخ النعجة دويلي تجربة فاشلة حيث أصيبت الوليدة بالهرم السريع، كذلك كان استنساخ البرامج الترفيهية العربية عن سابقاتها الأجنبية مسخا بلا ملامح أو ذوق!
كانت البداية مع برامج المسابقات التي استوردناها وعربناها لغة ونقدا، فأسالت لعاب الجمهور على الملايين أكثر مما نمت فيهم روح الثقافة وحب القراءة والبحث عن المعلومات، ولكن لا بأس فتمضية السهرة في ميادين العلم واللغة والشعر والتاريخ خير من تمضيتها في مشاهدة كأس وغانية، وحتى برامج المسابقات لم تسلم من نوازع الرأسمالية المقيتة التي أنتجتها فخرج علينا برنامج يبث في الجمهور ثقافة الغاب والبقاء للأقوى، وأن المتسابق لا يفوز أو يتقدم الا بخروج زملائه الذين يوصفون بالحلقة الأضعف The Weakest Link.
ثم توسعت البرامج حتى اخترقت كل شيء وما أبقت حرمة لأي شيء، لا غرف النوم ولا غرف المعيشة، لا البيوت ولا مكاتب العمل، لا قلوبنا ولا مشاعرنا، كلها أصبحت مستباحة لبرامج تلفزيون الواقع من أول علاقة الأزواج إلى مشاكل إنقاص الوزن وتحسين المظهر، حتى أسرتك إذا كانت لا تعجبك فلا تتضايق أيها المشاهد العربي فأنت على موعد قريب مع نسخة عربية للبرنامج الأجنبي الذي تعرضه أحد المحطات العربية بعنوان تبديل الأسرة أو البيت House Swap حيث يمكن للأزواج أن يبدلوا أزواجهم بآخرين فترة من الزمن وكذلك الأبناء آباءهم!!!
بل إن كنت قد ارتكبت خطئا أو ذنبا وتبت عنه وستره الله عليك، فإن برامج الترفيه لن تقبل توبتك وستخرج للملأ كل خواطرك وخلجات نفسك في برنامج لحظة الحقيقة المترجم عن البرنامج المثير للجدل الذي فرق بين كثير من الأسر والأصدقاء في الغرب Moment of Truth ومع ذلك لم نجد غضاضة في إنتاج نسخة عربية منه كأن مجتمعاتنا تحتاج إلى مزيد من العنف والفرقة!!
الغريب أن معظم هذه البرامج أصلية ومستنسخة تصدر عن قناة واحدة! فهل هناك سياسة انتقاء أخلاقية وغربلة للمضامين في هذه القناة؟ أم أنها تعتمد الربحية والانتشار كهدفين لا ثالث لهما ولتذهب المبادئ والأخلاق إلى الجحيم، وهي اللعنة الأكثر تداولا في الغرب Go to hell؟!
الغريب أن هناك برامج لم يتم استنساخها بعد مثل برنامجي الرقص، والرقص مع النجوم You Think you can Dance? & Dancing with the Stars اللذين تبثهما القناة بالانجليزية! فهل هو الاستحياء أم الخوف من نقمة المشاهد العربي على الانحلال الخلقي في مجامعاتنا؟
أم أن هذه تم تغطيتها في برنامج جديد هو نسخة أيضا من برنامج يبحث عن المواهب في بريطانيا وأمريكا؟
إن من يشاهد الحلقات التحضيرية لبرنامج المواهب هذا سيشعر بالأمان والطمأنينة على الشباب ومستقبلهم! فنحن مستودع للمواهب والإبداع دون شك تشهد بذلك الصالات والقاعات الممتلئة عن بكرة أبيها بالمشاركين الموهوبين أو بالأحرى الموهومين (الذين يتوهمون بأن لديهم موهبة) الذين ينتظرون العرض أمام لجنة التحكيم.
لا بد أن المشاهد سيفاجئ بالكم الهائل من جيوش الراقصين والراقصات العرب، ويا ليت الرقص كان دبكة مثلا أو رقصا تراثيا، لكن كلا فذلك "دقة قديمة" والشباب الرايق cool في العالم المتطور المعولم لا بد أن يتقن الراب والهيب هوب والسامبا والسلسا بشعور منكوشة وبناطيل ساحلة وأصوات ترطن بألفاظ غريبة لا تفرق بينها وبين إزعاج الزمامير في ساعة الزحمة!
قد يقول قائل إن أوروبا وأمريكا بالذات عندها مئات القنوات الترفيهية، وربما نصف الشعب يمتهن التمثيل أو الغناء أو الرقص، ونقول نعم ولكن مع هذا أيضا لديهم تطور علمي، بمقابل جيوش الممثلين والراقصين والمغنين لديهم جيوش تحتل بلادنا شرقا وغربا، طولا وعرضا وتنشر فيها الدمار والموت، وأما جيوشنا من الفنانين فهل سيحررون فلسطين والعراق؟ وهل يأبهون أصلا؟
والبرنامج لا يستثني من شرِّه أحدا حتى الأطفال ببراءتهم وجهل أهاليهم لا يسلمون، فيأتي ابن خمس أو عشر سنين ليقلد رقص مايكل جاكسون المعروف بالسير على القمر أو Moon Walk، وتقول له المغنية العضوة في لجنة التحكيم إن مايكل جاكسون في صغره لم يستطع فعل ذلك، فهل نتوقع بناء على كلامها أن يكبر هذا الطفل ليصبح كمايكل جاكسون صاحب النفسية المضطربة والسيرة السيئة في الإساءة إلى الأطفال؟ هل هذه القدوة التي نريدها لأطفالنا؟ ماذا يُتوقع وماذا ننتظر من أطفال أبهروا الفنانين بأدائهم؟ وأين ذهب الزمان الذي كان فيه الأطفال يبهرون ويفحمون السلاطين بكلامهم كما نقل الأبشيهي في كتابه "المستطرف في كل فن مستظرف" أن الحسن بن الفضل دخل وهو صبي على بعض الخلفاء وعنده كثير من أهل العلم، فأحب الحسن أن يتكلم فزجره، وقال: يا صبي تتكلم في هذا المقام؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت صبيا فلست بأصغر من هدهد سليمان، ولا أنت بأكبر من سليمان عليه السلام حين قال: أحطت بما لم تحط به. ثم قال ألم تر أن الله فهم الحكم سليمان ولو كان الأمر بالكبر لكان داود أولى، ومن هنا قيل: "المرء بأصغريه قلبه ولسانه" وليس بترقيص كتفيه ورجليه ولا التنطط كالقرد أو التلوي كالأفعى!
ثم منذ متى أصبح المغنون والفنانون يملكون سلطة القرار والتقييم والكلمة العليا؟! ألم يصنف المؤرخون هؤلاء في باب الملهيات وأسباب ضعف الأمم قبيل انهيارها، عندما يكثر أهل التهريج والمعازف والقيان ويقل العلماء؟.
كم من الشباب والجمهور العربي تابع مسابقة العلوم الفريدة والوحيدة (نجوم العلوم) التي كانت تبحث عن أفضل المخترعين والاختراعات العربية؟!
هل نتوقع خيرا من رجل يرقّص دمية (عروسة) على الوحدة ونص فتثني عليه عضوة التحكيم بالقول بأنه خبير بفنون الرقص الشرقي، ولو أن الراقصات العربيات يرقصن بنفس الطريقة لعاد للرقص الشرقي أمجاده!! إذا أصبح الرجال خبيرين بالرقص الشرقي من إذن يحمل السلاح؟! وهل يملك هؤلاء حتى أن يقفوا في وجه حاكم جائر يدافعون عن لقمة العيش؟
ماذا عن كبار السن الذين تحثنا ثقافتنا على توقيرهم والإحسان إليهم واحترامهم؟ ماذا سيرسخ في أذهان أطفالنا عندما يرون الكبار يتقصعون بلباس ضيق؟ ثم يُثنى عليهم من باب اللياقة والصحة الجسدية التي لا يعترض عليها أحد بشرط أن لا تنزع عن الناس هيبتهم وتظهرهم كالمهرجين في السيرك!
شباب بالمئات ومشاهدون بالآلاف وكلهم مجتمعون باسم الموهبة، هذا الاسم المشتق من اسم الله الوهاب الذي يمنح القوة والقدرة والإرادة والجمال كامتحان للإنسان، إما أن يضعها في الخير فيفلح في الدنيا والآخرة، أو يستخدمها في الشر والفتنة فيكون فيها هلاكه، وهذا تحذير الله سبحانه وتعالى لعباده: "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار".
لا يمكن لأحد أن يكون ضد الموهبة والتفوق، ولكننا يجب أن نكون ضد العبودية والتبعية في هذه المجالات أيضا؛ لأن من وراء اصطيادنا خطة أكبر صرح بها المستشرق زويمر: "إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، يجب أن لا يهتم الشباب المسلم بعظائم الأمور، ويجب أن يحبوا الراحة والكسل، ويسعوا للحصول على الشهوات بأي أسلوب حتى تصبح هدفا في حياتهم".
ولا يفطن لهذا إلا من كان له بصر مديد، وقلب شهيد، وعزم من حديد.


 

JoomShaper