أ.د.  ناصر أحمد سنه
الفن نشاط وثيق الصلة بالحياة والمعرفة والحضارة، فليس ثمة حضارة بلا فنون، تضيف لها غايات ووسائل تحقق الخير والحق والحب والجمال والنفع، كما تحتاجه الحضارة ركيزة في نهوضها وانطلاق مسيرتها، وتعبيرا عن إبداعاتها وإنجازاتها، وهو ـ أي الفن ـ يرتفع ويسمو بارتفاعها وسموها، وينحدر ويهبط باضمحلالها وهبوطها.
المتأمل في الحالة الفنية لدينا ـ وهي من أهم التحديات التي يواجهها العقل العربي ـ يجد أن لدينا أفلاما ومسرحيات، ومواد إذاعية وتلفازيه، ورسم وفنون تشكيلية، و"إنترنت" مجاني تحصل منه على ما تريد، "وأشرطة كاسيت"، ومئات القنوات الفضائية الغنائية، معظمها تبث أغاني "الفيديو كليب" التي بها ما بها..، فهل يقدم هذا السيلِ العرم فناً يخضع للشروط المنهجية للعمل الفني، أم هو"لا فن"؟، وهل باتت الفنون تغرد خارج قيم الأمة، ناشرة ما يتناقض وثوابتها.. مروجة لثقافة (الآخر)، ورؤيته الوافدة؟، ولماذا التحسر علي فنون:"الزمن الجميل"؟، وكيف  تساهم شمولية وجماليات الفنون ذات الخصوصية الحضارية، في النهوض بأمتنا العربية والإسلامية، وتقديم الأنموذج الإنساني العالمي؟، السطور التالية محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات..

مقاربة أولية.. التعبير الفني

التعبير الفني ـ علي شتي أشكاله ومضامينه ـ أداة تساعد الإنسان علي معرفة الكون، ومضاعفة الوعي والتعبير عن الذات، فهو لغة عالمية مغروزة في النفس الإنسانية لتكثيف إحساسها بالخير والحق والحب والجمال، كما تساعدها علي تنظيم وضبط وتوجيه انفعالاتها، وأفكارها (فرح وبهجة، ألم وحزن، وتشتت وضياع، وقلق واضطراب..الخ)، والفن المتوازن يتناول تلك الأمور والمشاعر ويعالجها (تركيزا وتكثيفا وتلميحا وتصريحا وتجريدا وتجسيدا وشكلا ومضمونا في آن واحد)، ليصنع من العمل الفني ـ بصورة مباشرة وغير مباشرة ـ قيمة إنسانية أخلاقية جمالية إيجابية، ومن ثم ينتزع من نفوسنا كل إحساس بالصراع أو التمزق ليترك توافقا رائعا بين هذا العمل الفني وبين زيادة الوعي الذاتي والأخلاقي والفكري والوجداني .. الفردي والجمعي. هذا التوافق يعتبره النقاد جزءا عضويا وأساسيا من وظيفة الفن.
جناحي التعبير في الأعمال السينمائية والمسرحية والإذاعية والتلفزيونية وغيرها هي: روح الشعر (جوهر الفن) والدراما (الحركة/ الصراع/ البناء، والدراما تختلف عن الفن المأساوي= التراجيديا، وحتى الكوميديا= الملهاة يتحتم أيضا أن تكون درامية)، فالبناء الدرامي المتكامل ضرورة، وحد فاصل بين الفن الجيد والرديء. ولقد نشا المسرح من رحم الشعر، فلغة المسرح لغة خصبة ذات إيقاع موحى، يتعانق والإيقاع الحركي التمثيلي. والفن المسرحي نتج عنه الفن السينمائي الذي هو خليط من أشكال فنية متعددة، بيد أن السينما تستمد قوتها من تأثير وإيحاء وإبهار الصورة مع الصوت(1).
بينما تهدف الإيقاعات الموسيقية والغنائية إلي إعمال الخيال الخصب والعقل الواعي، وليس التأثير الحسي فقط، ومن ثم تسعي لإعادة إنشاء تلك الأصوات في عقولنا ووجداننا، لتتناغم مع إيقاعاتنا الداخلية، لتنتج أفكارا ومعان، واحاسيس وجماليات جديدة مبتغاة.
ويأتي التوظيف الجيد للفنون التشكيلية والرسم والخط والزخرفة والتصوير وغيرها.. شكلا ومضمونا ليثير الخيال والحس معا، فهي تمد حاسة البصر باحتياجاتها الإدراكية التي تستطيع أن تميز بين سبعة وعشرين جنسا من المدركات كلٌ منها مخالف للآخر:"الألوان والضوء والظلمة والأطراف والحجم والبعد والقرب والوضع والشكل والتفرق والاتصال والعدد والحركة والسكون والملامسة والخشونة والكثافة والشفيف والظل والحسن والقبيح والبشاشة والاختلاف والضحك والبكاء والرطوبة المعتبرة بالسيلان واليبس المعتبر بالتماسك".

حضارتهم وحضارتنا: مرتكزات الفن

الفن في فلسفة الحضارة الغربية يستند بقوة إلي النظرة الإغريقية الرومانية القديمة التي اعتبرت الإنسان جسدا ماديا فقط، فراحت تتمادى في إبراز مفاتنه، وإشاعة جماله، وتنمية عضلاته ليصارع الخصوم والوحوش.. و"الآلهة الوثنية"، وليعب من الغرائز والشهوات. وعلي الجانب الآخر عبرت فنون عن وجدان المرء مستندة علي مذاهب ـ"كالبوذية والهندوكية والرهبانية"ـ أماتت الجسد وهجرت الزواج، وانفرد المرء فيها واعتزل الناس، وترك دنياه بزعم كسبه لروحه، فماذا جنت البشرية غير الانقلاب على تلكم الرهبانية المبتدعة.
وفي عصرها الحديث ـ بعد الثورة علي الكنيسةـ ارتكزت فنون الغرب على الفصل/ القطيعة بين الدين/الأخلاق وبين الفنون، وسادت فنون تعبر عن نظريات:"العقلانية والمادية والعلمانية و الدارونية الاجتماعية والسياسية، والفرودية، والحتمية البيولوجية، البراجماتية النفعية، والحداثة وما بعد الحداثة، والعولمة". فرأينا شيوع فنون تدعو لسيطرة واستعباد الأقوى للأضعف، وتمجد النزعة العنصرية،و"فنون القتل والتدمير"، "وعبادة الجنس، والسوبر ماركت".. حيث لا اعتراف إلا باللذة.. المؤقتة والعابرة والمتغيرة واللانهائية، فكلما استهلك الإنسان ازداد رغبة في المزيد، فلا حد للإشباع، لذا فكل شئ مباح بلا حدود، بغية الوصول إلى ما لا يمكن الوصول إليه من السعادة والكينونة.
وبدلا من تبنيها التعبير الإنساني الأصيل تتبنى فنون"العولمة والحداثة وما بعد الحداثة"، الثقافة الشعبية في ثوبها الرديء لتنتجً ذوقا رديئاً ، متلاعبة بالصورة في أسوا أحوالها، وتسوقها لتكرس"صناعتها وثقافتها"، ولم تعد العين بريئة، بل تصارع هذا السيل العرم من الصور ذات الإغواء والأغراء والتلميح والتصريح الجنسي، معتمدة التغيير السريع أكثر من الثبات والبقاء، فتعلو بأسماء لتحقق ربحية اقتصادية، ومن ثم تهوى بهم لتأتى بآخرين وهكذا دواليك(2).
إن مرتكزات الفن الغربي، ومن سار علي منوالها ـ عدا مدارس فنية محدودة ـ  تسعى لإفراغ الإنسان من كل فكر إلا "الفكر العدمي"، ومن كل عقيدة إلا "عقيدة اللذة"، ومن كل قيم إلا "قيم المادة والاستهلاك"، ومن كل سمو للإنسان إلا أنه "تطور من الحيوان"، ومن كل شوق روحي ألا "أنه مجموعة من الحاجات المادية والغرائز الجنسية علية إشباعها كي لا يصاب بالكبت".. فماذا عبرت فنون إنسان الحداثة وما بعد الحداثة  والعولمة إلا عن عمق التأزم الإنساني والتعاسة والتمرد والجريمة والمخدرات والبغاء والانتحار؟.
أما الفنون في فلسفة الحضارة العربية الإسلامية فتستند إلي أن الإنسان جسد وروح ووجدان وعقل .. جسد وغرائز تشد إلي الإخلاد إلي الأرض، وروح ووجدان يسعيان إلي الحق والخير والجمال، وبينهم عقل يفكر، وإرادة تختار، ومسؤولية فردية وجـمعية:"إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا"(الإنسان :3)، وسبل ميسرة تجعل كل نشاط وفعل حياتي  منضبطا بـ:"أقرا بسم ربك الذي خلق"(العلق:1)، ومقاصد شريعة تعمل علي حفظ ضرورات الناس الخمس: العقل والنفس والنسل والدين والمال، التي لا يصلح الأمر إلا بها، فالفنون التي تعمل علي حفظها هي فنون "إسلامية"، والتي تخالفها ليست من الإسلام في شيء، فالوسطية الإسلامية تحل الأزمة الإنسانية,و"الفصام النكد" بين جوانب الإنسان، وأعظم ما تقدمه الذاتية الإسلامية للفن المعاصر: الرؤية المترابطة لمكونات الإنسان واحتياجاتها المتعددة في تكامل وتداخل، تحقيق التوازن/ التوحد بين أعمال الدنيا والآخرة وفق القيم الحاكمة، إشباع فني وتوجيه وإرشاد غير مباشر.
فحضارة الإسلام تنفرد برؤيتها الفنية والجمالية والتجريدية التي تنبع من موقف الفنان المسلم من الكون.. توحيدا وتنوعا وتناغما وانسجاما وتوازنا.. وفي هذا التوحيد /الوحدة/ التنوع ثراءً للتذوق الفني، بعيدا عن كل ما يشين السمو النفسي، والصفاء الاجتماعي:" قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن أو بنى أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن، وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون"(النور:30-31). فـ "المثيرات البصرية" والمتكررة وما تحمله من رسائل للمخ فتختلط بالانفعالات والنزوع السلوكي، مما قد يسبب ـ إذا لم تشبع ـ  قلقاً وضغطا وتأزما نفسانيا علاجه والوقاية منه:"غض البصر وحفظ الفرج، والنهى عن التبرج والسفور في غير سياقاتهما الشرعية"، فإذا ما نحا نحواً غير شرعي يؤدي إلى الوقوع في الموبقات:"إن الله تعالى يغار، وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرم الله عليه"(3).
إن تعاليم "النور"وغيرها قد شرعها الله تعالى ليسود المجتمعات الطهر والحياء والإيمان:"والحياء لا يأتي إلا بخير"(4)، والخير سمة فنون المجتمع المسلم، فنون لا تفتح أبواب الإثارة، بل تدرء دواعي الفتن قبل قيامها، تئد الغواية في مهدها، وتطفأ سعار الشهوات قبل تأجج نيرانها، وتحفظ علي الناس كرامتهم وذاتيتهم التي ميزهم الله بها عن سائر المخلوقات، وتبقي للمرأة كرامة تعلو بها عن ان تكون سلعة رخيصة، أو أداة من أدوات الزينة، أو متعة لكل الناس، أو معرضا للأزياء لكل غادي ورائح، أو مصدرا من مصادر الترف لكل ناظر. إنها فطرة سليمة، والفن الإسلامي يقوي ويضعف بقوة وضعف الفطرة، فهو مؤشر لها في صحتها واعتلالها.

حضارتهم وحضارتنا: "صناعة الفن"

الإنفاق العالمي على الفنون ومنتجاتها يزيد عن 3  تريليون دولار (العام 2003م)، بينما يبلغ ما يُنفق في العالم الإسلامي نحو 800 مليون دولار، وتتبني شركات الدعاية الكبرى"صناعة السينما والغناء" فتروج أو تستحدث منتجات جديدة وتسوقها تجاريا بإدماجها خلفية للمشاهد أو في الحوار أوفي الدراما، ومن خلال أساليب الإيحاء والاستهواء والتقمص، وربط المنتجات التجارية بالشعور بالسعادة والحب والنجاح والبقاء، يتم تسويق هذه المنتجات: موديلات سيارات وملابس ومجوهرات ونظارات ومشروبات ووجبات سريعة.. حتى دمي  وحفاضات الأطفال، كما قد تروج لسلاسل مطاعم عالمية أو ملاهي أو مقاهي بعينها الخ.، وقد لا يجني الفيلم أرباحا في دور العرض، لكنه يعوضها أضعافا لقاء الدعاية / بيع هذه المنتجات (تكلف إنتاج فيلم "تهديد الشبح" 115 مليون دولار ولكنه جني 3.5 مليار دولار من بيع منتجات أعلن عنها الفيلم). وعندما اشترت شركة "كوكا كولا" استوديوهات كولومبيا للإنتاج الفني.. أغرقت الأفلام بالدعاية عن مشروبها، أما شركة" ديزني" العملاقة فتروج عن الجولات داخل ملاهيها، وعن منتجاتها والوجبات السريعة عبر أفلامها ومجلاتها ونحو23 ألف فرع عالمي من أفرع سلسة مطاعم ماكدونلاد. أما مضمون وشكل الأفلام/ الأغاني التي تنتجها الآلة الفنية الغربية فأغلبها يتسم بالعنف والعنصرية وسطوة "السوبر مان والكاوبوي" والجريمة المنظمة والمخدرات والإثارة والعرى والجنس والإباحية (أمريكا تحتكر 70% من أفلام وثقافة الجنس).
لقد تبدت الحدود الفاصلة بين الإبداع الفني والتجارة والتسويق، واصبح اهتمام صناعة الفن منصبا على السوق والربح. فضلا عن أن معظم نقاد الأعمال الفنية يعملون لدي الشركات التي تصنع هذه الأفلام/ الأغاني، وليس للمرء أن يكون ناقدا موضوعيا ومسوقا للعمل الفني في آن معا.
أما المسألة الفنية لدينا فهي ـ أكثر من كونها صناعة وافدة كلية ـ صناعة محلية/ مُقلدة قد تبغي التنفيس عن واقع متأزم، والهروب من مشاكل مزمنة تحتاج إلى جهود كبيرة لحلها، وذلك بالترفيه عن المجتمعات بتقديم وجبات من غناء ورقص ولهو وقضايا هامشية "لتعيش حياتها، وتقتل أوقاتها". فالمتأمل في صناعة الأعمال السينمائية/ المسرحية/ التلفزيونية لدينا يجد مضامينها نمطية متكررة مثل:
- مواضيع الغرام بين الرجل والمرأة، لقائهما فراقهما "شباب امرأة ، مذكرات مراهقة"، ووقوعهما في الخطيئة "بدافع من الحب"، مع تكرار التلميح/ التصريح بان الزواج والأسرة والأولاد تقتل الحب وتمثل عبئاً ثقيلاً ينوء على الحمل والتحمل:"إمبراطورية ميم، أفواه وأرانب"، وما من مشهد يظهر فيه "مأذون شرعي" (أو حتى مدرس اللغة العربية والدين.."السفيرة عزيزة") ليتمم عقد الزوجية الشرعي، إلا وكان مثارا للسخرية والضحك منه أو عليه.
- حياة الراقصات والغواني وفتيات الهوي والحانات وتاجرات المخدرات:"ما تيجي نرقص،الراقصة والطبال، الراقصة والسياسي، درب الهوي، سوق المتعة، خمسة باب"، والتبرير الدائم بأنهن:"ضحايا للمجتمع وللفقر ولمرض ذويهن الذي دفعهن لهذا المسلك"، وأعمال فنية تروج " لحرية المرأة وتحررها" وخروجها عن "التقاليد والضوابط الاجتماعية".." آه من حواء"، ومساواتها بالرجل حتى في حالة:"الخيانة الزوجية".."عفوا أيها القانون، أريد حلا، بنات اليوم، الأفوكاتو الخ".
- مضامين الجنس والعنف والبلطجة والعدوان علي الضعفاء، وكسب المال بأية وسيلة" الشطار"، والتبذير والترف: "كابوريا، المنسي"، ومظاهر التفكك الأسري والاجتماعي، وتأكل علاقات وروابط الأبوة والأمومة.."وبالوالدين إحسانا".
- شيوع السحر والشعوذة والمخدرات والمسكرات.. تجارة/ وتعاطي "الكيف"..هروبا من كل مشكلة تواجه الممثل، مع عدم الإبراز الكافي لمآل من ينحرفون في هذا الطريق.
- الإسهام فيما سمي"الحرب علي الإرهاب" بربط السمت الإسلامي للشخصية بالعنف والتشدد وتدمير المجتمع والسطحية وعدم الوعي بمشكلات المجتمع والعالم، في حين تبدو الشخصيات الأخرى"المتغربة والغريبة عن المجتمع وقيمه" أكثر استنارة ووعي وهدوء وتسامح".."الإرهابي"،و"طيور الظلام"،و"الإرهاب والكباب" الخ.
- والدراما التلفزيونية/ المسرحية تشد الناس عبر تفاصيل هامشية علي جانب قضايا المجتمع، والمسرح قد تحول لأعمال هزلية لا تهتم إلا بإثارة مسحة من السخرية والضحك، وقد تسفر عن سلبيات مجتمعية"مدرسة المشاغبين"، بل لقد تحول المسرح في غالب أعماله إلي مرقص "مسرحية حزمني يابابا"، وعينه علي"شباك التذاكر، والسياحة الداخلية، والجمهور عايز كده".
- حتى تلك الروايات والأعمال الأدبية والاجتماعية والتاريخية التي حُـولت لأعمال سينمائية/مسرحية/ تلفزيونية، فغالبا ما تُعرض مشوهه ومن زوايا ضيقة/ سطحية / محشوة بأمور لا تمت للنص وللمضمون وللواقع الأصلي بصلة:"شهيدة الحب الإلهي" رابعة العدوية العام 1962م، السيد البدوي العام 1953م،  ولولا جهود المخرج"حسام الدين مصطفي"، وأشعار"عبد الفتاح مصطفي" لما نجح فيلم "الشيماء" عن رائعة أديب الإسلام علي احمد باكثير" شادية الإسلام"(5).
وماذا عن أغاني "الفيديو كليب" في الفضائيات العربية؟
في دراسة ميدانية حديثة ـ في الجامعة الأردنية للباحثة مارغو حداد ـ ذكرت أن الأثر السلبي لأغاني الفيديو كليب العربية ـ والتي فاقت في إثارتها للغرائز ومخاطبتها للجسد نظيرتها الأجنبيةـ بات واضحا فقد أعطت صورة نمطية سلبية عن المرأة كسلعة استهلاك للرجل، تعرضها في غرف النوم مع إيحاءات وحركات مخلة، ولا علاقة لها بمضمون الأغنية، ويبدو أن المرتكز لهذه الأعمال تجاري بحت: مزيد من الرقص والتعري.. لمزيد من البيع والتسويق. ويبقي الضررـ كما تشير صاحبة الدراسةـ علي الأطفال والشباب والذين لا يميزون بين الفن الجيد والهابط، وكذلك تكريس النظرة السلبية عن المرأة العربية (6). كما أن الإيقاع الموسيقي في غالب هذه الأغاني فقرة واحدة مكررة، وغالبا ما يتم صناعتها رقمياً.
ثم هناك مئات من أشرطة "الكاسيت" تطل برأسها كل يوم، وحتي نغمات " الجوال والخلوي" وتصدمك أينما ذهبت بأصوات وكلمات وضجيج.. ليس له من جماليات الفن من شي:"تلوث سمعي غنائي"، والسؤال المطروح: أين دور الرقابة علي المصنفات الفنية؟، وأين دور علماء الاجتماع والنفس والنخب الفنية والاجتماعية في علاج هذه الظاهرة التي تحطم الذائقة الفنية الفردية والمجتمعية.

"صناعة الفن الأصيل".. والخصوصية الإسلامية

بات واضحاـ وإن كان يستلزم المزيد ـ تنامي الأفلام والمسرحيات والمسلسلات والأناشيد التي تتناول جوانب تاريخية واجتماعية جيدة، وقيم إيجابية نافعة، فناً ملتزماً شكلا ومضمونا.. حيث التعبير الراقي، والقواعد الرفيعة، والرسالة الأخلاقية، والأفكار السامية، والتوجيهات غير المباشرة، سموا بالذائقة الذاتية الفردية والجمعية والإنسانية. وبإمكاننا القول إن الفكرة تحدد إسلامية العمل الفني، والجماليات تحدد إبداعيته (7) ، وهو فن منفتح أمام موضوعات متنوعة، وأشكال شتي، ومدارس محلية عريقة:" فقد انفتح علي الفنون السابقة والمعاصرة له، يتفاعل معها ويطورها وفق أنساقه وجمالياته ليخرج بمدارس متميزة في الفن الإسلامي كمدارس الفن الإسلامي في مصر والشام، والمدرسة الفارسية والهندية، والمدرسة الأندلسية، والمدرسة العثمانية التركية"(8).
ولأهمية الأعمال السينمائية التي تناولت السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي.. تناولها النقاد بكثير من النقد.. للشكل والمضمون وأسلوب الحوار، وتشخيص الصحابة الكرام، والمشاهد المجافية للواقع التاريخي، كي يتم تطوير هذه المسيرة وتحسنيها.. بدءاً من أفلام:"ظهور الإسلام" عن قصة "الوعد الحق" لطه حسين العام 1950م، ثم"انتصار الإسلام" العام 1951م من إنتاج شركة" أفلام شلتوت" للإنتاج الفني، ثم "بلال مؤذن الرسول" العام 1953م، و"خالد بن الوليد" العام 1955م، والذي شارك في كتابة السيناريو الحوار الخاص به الشيخ د.أحمد الشرباصى، و"الله اكبر" العام 1958م، و"هجرة الرسول" العام 1963م، ثم "فجر الإسلام" العام 1971م من روائع قصص عبد الحميد جودة السحار، و"وا إسلاماه" عن قصة لعلي احمد باكثير. ثم تأتى أفلام"الناصر صلاح الدين" ليوسف شاهين، و"عمر المختار، والرسالة" " لمصطفي العقاد" في نسختيهما العربية.
وفي المسرح الإسلامي برزت فرق مسرحية كــ "فرقة الشبان المسلمين"، ونصوص وأعمال مسرحية جديرة منها:"الملحمة الإسلامية الكبرى..عمر" في تسعة عشر جزء لعلي احمد باكثير، وله نصوص مسرحية أخري كـ" إله إسرائيل"، ومسرحيات عبد الحميد جودة السحار ومنها "الله اكبر"، "عالم وطاغية"، و"يوسف الصديق" ليوسف القرضاوي،و" عروة بن حزام" لهاشم الرفاعي، و"محكمة الصلح الكبرى" لمحمد ماضي أبو العزايم، و"النجاشي ملك الحبشة"، و"جوار الله"، و"الأبطال"، و"هرقل عظيم الروم" لمحمد عبد المنعم العربي،"مسرور ومقرور" لأحمد بهجت، "محاكمة رجل مجهول" لعز الدين إسماعيل، و"محكمة الهزل العليا.. تحاكم الأيدي المتوضئة" لجابر قميحة، و"أصحاب الأخدود" لمحمود أحمد نجيب،"وعودة هولاكو"، و"القضية"، و"الواقع .. صورة طبق الأصل" لسلطان بن محمد القاسمي وغيرهم. ولا ينسي المسلسل التلفزيوني الكبير:"محمد رسول الله"  من إخراج"أحمد طنطاوي"، وسيناريو وحوار" مينة الصاوي" عن إبداعات القصص الموسوعي لعبد الحميد جودة السحار(9).
والقرآن الكريم بإعجازه المتعدد يقدم نموذجا إعجازيا صوتيا، حيث ظواهر المدود والغنة والفواصل والنظم القرآني، ويكفي أن تستمع للأداء الصوتي المتميز للشيوخ الفضلاء أمثال: محمد رفعت، ومصطفي إسماعيل، والمنشاوي والحصري، وعبد الباسط عبد الصمد، والحذيفي والسديس والعفاسي وغيرهم، لتمتلئ إيمانا وسموا وتجاوبا وخشوعا، كما أن التراث اللغوي العربي حافل بالتوظيف الفني للأصوات، وحسنا تخصص فضائيات لإذاعة القرآن الكريم علي مدار الساعة لمثل هؤلاء الأعلام وغيرهم. كما وهناك أغانٍ وفنون إنشاد إسلامي أصيل، والعديد من المنشدين المرموقين..عربا أو عجماً، فمن العرب:" الشيخ سيد النقشبندي، ونصر الدين طوبار، وأبو راتب، وعماد رامي ، وخالد بركات وآخرين". ومن العجم:"كات استيفن أو يوسف إسلام" ، و"سامي يوسف"، "وجوليان فايس أو جلال الدين" وغيرهم، وإقبال الجماهير عليها عبر شرائط الكاسيت ونغمات " الجوال، وعبر القنوات الفضائية التي تسارع لبثها.
وفي تنوعه يبهرك الفن الإسلامي:" بتنوع أشكاله وصناعاته ومجالاته وزخرفته، وهذا التنوع يبلغ شأوا من الصعب معه أن تجد تحفتين أو عملين فنيين متماثلين، ومع ذلك يمتاز بوحدته"(10). ففي واحد فقط من متاحفنا الإسلامية ـ المتحف الإسلامي بالقاهرة ـ توجد 96 ألف تحفة فنية رائعة ونادرة وفريدة.
وتتبدى جماليات الفن الإسلامي كثيرا في تناول الفنان المسلم ـ وقد استلهم إعجاز القرآن الكريم وتصويره الفني واللوني وذكره الألوان الأساسية، الأحمر والأصفر والأزرق والأخضر، في تساو للمحايدة الأبيض والأسود ورسم صورا بديعة بها (11) ـ لعلاقات اللون والمساحة والتناسب والتناسق والتناغم والإيقاع والظلال والحركة في فنون العمارة والزخرفة والمنمنمات والزجاج والخزف والقاشاني والنحاسيات والمعادن والنسيج والسجاد والخط العربي وغيرها.. عطاء فنيا وجماليا ونفعيا لكل ما تحتاجه النفس وحواسها المتعددة.
فالعمارة.. عمار واستقرار وبناء يؤيده الإسلام، سواء للمساجد:"إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر"(التوبة:18)، أو الربط والزوايا والتكايا والخانقاوات أو عمائر المدينة الإسلامية من مساكن ومشافي و دور العلم وأسبلة وعمائر الوقف على الفقراء وعابري السبيل، حتى الحيوانات الضالة وفي هذه وتلك تبدو جماليات تكيف العمران مع الفراغ العمراني والارتفاع والزخرفة.
والزخرفة والمنمنمات في الفن الإسلامي بديعة، يقول د. بشر فارس في كتابه "سر الزخرفة الإسلامية":"منه تبتدئ الأسباب وتنتهي المسببات، وبفضل اللدونة، الوحدة، في الزخرفة الإسلامية، دوارة تارة وتارة متوترة، وهي في أكثر الأحوال تلتوي وقلما يدركها البهر.. ووجهتها أبدا ما لا حد له فهي ماضية بلا ملل، وهيهات أن تبلغ ما تهدف إليه فشانها شان إيقاع يترنح منقادا للصبر". وفنيات الزجاج والخزف والقاشاني  والنسيج والسجاد نالت من الفنان المسلم الاهتمام الأكبر، والتطوير المستمر لما فيها من التجريد والجمال، فضلا عن النفع لتتمازج الأغراض الثلاثة في آن واحد.
إن الإسلام مدد للحضارة وينبوعها الصافي، وهو سند للفنان التشكيلي المسلم، ففي التشكيل قدرة فائقة علي الإقناع والإمتاع عبر حواجز اللسان واللغة والمسافة والجنس، بيد أن الفن الإسلامي وبخاصة في مدارسه الفنية شديدة التجريد في مصر والشام، حسب ما تذكر د. نعمات أحمد فؤاد:" لم يعط صورة الإنسان أو الشجر أو النهر" كينونة".. لأنه يعتبرها ظلالا عابرة في طريق تطلعه الدائم إلي ما وراء الطبيعة...إلي الله الواحد الخالق:"هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسني، يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم"(الحشر: 24)، ويقول تعالي شأنه:"يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، اعملوا آل داود شكرا، وقليل من عبادي الشكور"(سبأ:13).
والعربية لغة القرآن.. معجزة الإسلام، لذا فالخط العربي وزخرفته وجمالياته وتحسينه ذو شان هام لدي الفنان المسلم، فالله تعالي قد اقسم بأداته:"القلم"، ومن ثم فالعناية به "ترتيل" كحب ترتيل القرآن، يقول د. فريد شافعي:"اخرج الفنانون المسلمون من الحروف وأطرافها أشكالا وعناصر زخرفية تتجمع في كلمات وعبارات ينتج منها كلها موضوعات زخرفية ذات إيقاع فني متناغم وتبزها في أحايين كثيرة عناصر نباتية وهندسية وضعت في مستوي خلفي منها لتزيد من جمالها، وزينوا بها منتجات الفنون من عمارة وكتب وتحف زخرفية"(12).

الفن الإسلامي يقدم أنموذجا إنسانيا عالميا

تكفي الإشارة لما ذكره "ول ديورانت" في قصة الحضارة إن:"المسيحية في مثاليتها المجردة وُضعت لتسير عليها أقلية ورعة، ولكن الإسلام احتفل بالدين والدنيا معا، الإسلام ميزته انه أسلوب حياة ونمط سلوك من ابسط الأمور لأعلاها، الإسلام يحب المتعة من غير إثم، والفن نعيم روح، ولكن الترف المادي عبء، بيد أن الترف لمعنوي نجاح، ونعمة كبري حين تجعل من الحياة فنا جميل،ا وان تجعل من الفن حياة جميلة، والفن الإسلامي متفائل فهو من بشر الإسلام وبشريته إلي جانب قدسيته .. دين لا ينكر الزينة والمتاع، ومن هنا ولع الفن الإسلامي بالتزويق، وكأنه موسيقي الشعر العربي المقفى، أو فيه سحر الكهرمان، أو بيان حسان، أو غنائيات البحتري، وحتى الخزف ترقص فيه الألوان من الفرحة، وتغني الظلال في تطريب، وينسكب الضياء مشرقا كنور الأيمان، قريرا كضمير المؤمن، إنه فن أولئك الذين فرقوا بين النظر والسمع، وحلم الإنسان المعاصر الاستقرار والوئام والسلام النفسي  وهو ما نجح الإسلام في الإيحاء به من خلال البهجة/ السعادة في العمل الفردي والجماعي، والقدرة علي التنويع مع الاحتفاظ بوحدة العمل".

صفوة القول: إن الفن يعالج قضايا الفرد والمجتمع والإنسانية، وهو يدرك الأبعاد والظروف والقوانين التي تتحكم في حركتهم، فهو الضمير الواعي الذي يـُقوم المسار، كما ويعكس الآلام والآمال والتطلعات للمستقبل، وليس فنا منبت الصلة عن الواقع تحت دعوي"الفن للفن"، ومن هنا دوره الهام في مشروع النهوض الحضاري للامة، وتقديم الأنموذج الإنساني . بيد أن الفن عندما يقلد أنماطا وافدة يحيد عن غاياته الأصيلة، ويفتقد معالم أصالته وخصوصيته، ومن المعلوم: انه كلما توغلت في الخصوصية.. كلما ازددت عالمية، فتلك الأنماط المستوردة غريبة عن  واقع الناس وتفكيرهم وثقافتهم، فالأمة العربية والإسلامية التي تسعى للنهوض واستعادة ريادتها، محور اهتمامها العمل والبناء والقصد والاعتدال في كل شئ، وليس الكسل والتراخي والاستهلاك المُفرط  والبحث عن اللذة. إن صور الفن المتوازن والذي يقتدي بهدي الوسطية الإسلامية، ورسالتها الثقافية الفنية السامية مدعاة لقيام فن أصيل ذو هوية، ورؤية ذاتية يحتاجها المشروع النهضوي والأنموذج الإنساني الذي ينتشل الإنسانية من أزمتها.

الهوامش
1-د. نبيل راغب: النقد الفني، دار المعارف ، 1981م
2- بتصرف د. شاكر عبد الحميد: عصر الصورة.. السلبيات والإيجابيات، سلسلة عالم المعرفة: 311، يناير 2005م، الكويت.
3- متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
4- في الصحيحين من حديث عمران بن حصين.
5-أنظر: التصوير الفني للصحابة والأنبياء، مجلة الوعي الإسلامي ،العدد: 494، شوال 1427هـ،  ص 10ـ15، الكويت.
6-انظر: منار الإسلام العدد: 384، ذو الحجة 1427هـ الإمارات.
7- قياسا علي دراسات عن الأدب الإسلامي"حسن الإمراني": سيمياء الأدب الإسلامي .. المصطلح والدلالة، مؤسسة الندوى/ المغرب.
8- أنظر: مدارس الفن في الحضارة الإسلامية، مجلة الوعي الإسلامي ،العدد: 496، ص 46، الكويت.
9- أنظر، مجلة الوعي الإسلامي ،العدد: 494، مرجع سابق.
10- بتصرف د.نعمات أحمد فؤاد.. من عبقرية الإسلام، دار المعارف، 1983، ص 112.
11- احمد رفت: الألوان في القرآن، و"الرسم بالألوان في القرآن".
12- العمارة الإسلامية في مصر الإسلامية، م 1، ص 264ـ265.

بقلم: أ.د. ناصر أحمد سنه/ كاتب وأكاديمي من مصر
E.mail:عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

JoomShaper