"في أحد الأيام، منذ زمن بعيد، كان أهل المريخ ينظرون من خلال مناظيرهم فاكتشفوا أهل الزهرة، فوقع أهل المريخ في حبّ أهل الزهرة، فاخترعوا سفناً فضائية وطاروا ليعيشوا مع أهل الزهرة الذين فتحوا لهم أذرعهم وقلوبهم بالمحبة، فعاش الجنسان مشاعر حبّ لم يشعروا بها من قبل رغم اختلافاتهم، وقضوا شهوراً يتعرّفون على بعضهم ويستكشفون حاجاتهم وأنماط سلوكهم المختلفة، ثم قرّروا السفر إلى الأرض، وهناك أُصيبوا جميعاً بنوع من أنواع فقدان الذاكرة، فنسوا أنهم من عالمين مختلفين، ونسوا ما تعلّموه عن اختلافاتهم، ومنذ ذلك اليوم يعيش أكثر الرجال والنساء على خلاف".

باستخدام هذا المجاز في مقدّمة كتابه "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة" يحاول د. جون غراي توضيح أسباب الخلافات بين النساء والرجال،

فيرجعها إلى عدم معرفة كلّ منهما الاختلاف بين طبيعتي الرجل والمرأة النفسية والفسيولوجية، فمرّة يشبّه مزاج الرجل في مدّه وجزره بالأحزمة المطاطية، ويشبّه عواطف المرأة الجيّاشة بالأمواج، ويبيّن الفرق بين طبيعة كل منهما للتعبير عن ضيقه بأنّ الرجال يفضّلون الوحدة، فيذهبون إلى كهوفهم ويؤثرون الصمت، بينما النساء تطلب الاهتمام، وتسترعي الانتباه بكثرة الكلام والتعبير عن مشاعرها، كما يطلق على الرجل اسم "السيد الخبير" حين يحاول أن يعطي المرأة حلولاً في حين أنها تحتاج تعاطفاً، ويسمّي المرأة "رئيسة لجنة تحسين البيت" لأنها تحاول دائما مساعدة الرجل لتحسين طريقة عمله، فيشعر بأنه مُتحكَّم فيه، في الوقت الذي يتمنّى أن تتقبّله كما هو، ولو تفهّموا ذلك لعاشوا في وئام.

في بدايات القرن السابق - ونتيجة الإمعان في ظلم النساء بالدين المحرّف وبأعراف المجتمعات الذكوريّة- تعالت أصوات تطالب بالمساواة بين النساء والرجال، وبتحرير المرأة من براثن الرجل وقوانينه، الذي تلخّص لدى البعض بخلع الحجاب الذي يرى أنه مرسوم ذكوريّ يرسم صورة نمطية و(رجعيّة) للمرأة، ثم تطوّرت المطالبات إلى أكثر من المساواة التي تعترف بالفروق بين الجنسين الناجم عن الاختلاف في أصل الخلق والفطرة، فظهر مصطلح (الجندر) القائم على فلسفة تدعو إلى (التماثل) بين الجنسين في كل شيء، وعدم الأخذ بعين الاعتبار الفروق الطبيعية بينهما عند توزيع بعض الأدوار والوظائف، لأن تلك الأدوار تم تصنيفها اجتماعياً بتأثير المجتمع والتربية – بحسب رأيهم - وبالتالي يمكن تغيير تلك الأدوار بتغيير ثقافة المجتمع، وغرس أنماط جديدة من السلوك بعيداً عن الذكورة والأنوثة، والابتعاد عن التنشئة الأسرية النمطية التي تحدّد أدواراً معينة للمرأة والرجل.
كما تستبطن فلسفة "الجندر" أنّ قرار الذكورة والأنوثة هي ما يريده كل منهما لنفسه وإن كان مناقضاً لواقعه البيولوجي، فيجعل من حقّ الذكر أن يتصرّف كأنثى، بما في ذلك الحق في الزواج من ذكر آخر، وكذلك بالنسبة للمرأة، حتى في إنشاء أسرة قوامها امرأة واحدة تنجب ممن تشاء، أو تتألف من رجل وأولاد بالتبني، للخروج من الصيغة النمطية للأسرة، وقد طالبت بذلك بعض المؤتمرات النسوية، كما طالبت باعتبار الشذوذ الجنسي علاقة طبيعية، وطالبت إدانة كل دولة تحظر العلاقات الجنسية الشاذة، وفي نفس السياق يطالب الشواذ أن لا ينظر إليهم أحد شزراً، مهما ارتكبوا من قباحات في الأماكن العامة، ومهما خرجوا عن الفطرة السليمة، وغيّروا في خلق الله .. يُذكر أن جميلة كاليفورنيا أثناء مسابقة ملكة جمال أمريكا انتقدت زواج المثليّين ودافعت عن الزواج التقليدي ما أفقدها التاج وحلّت في المركز الثاني.

تكمن خطورة فلسفة "الجندر" في وثيقة الطفل فيما يتعلق بتعليم الطفل أنماطاً جديدة تتعلق بحياته كأن يترك الطفل يكتشف نوعه من خلال سلوكه الاجتماعي سواء كان السلوك متماشياً مع جنسه وتركيبه الجسماني أو مخالفاً له دون أي توجيه أو تدخل من الوالدين(!)، لأنّ هذا السلوك نابع من طبيعة الطفل التي قد تجعل منه طبيعياً أو مغايراً لأقرانه أي شاذاً - كما يعتقد أصحاب فلسفة الجندر - الذين ربما اخترعوا هذا المصطلح المبهم ليعطي معنى مختلفاً حسب استخدامه في صياغة الوثائق والاتفاقيات بهدف تمرير ما أسمته مؤتمرات الأمم المتحدة بـ"التنوع الجنسي" الذي يندرج تحته (المثلي، والسحاقي، والطبيعي) فيكون الجميع تحت مظلة تخاطب واحدة.

تطرّف أصحاب هذه الدعوات إلى أبعد حدود التطرّف فقرّروا بالتعاون مع جمعية الكتاب المقدس الدولية إصدار ترجمة جديدة للكتاب المقدس تلتزم بالحيادية في اختيار ألفاظها بحيث يتم استبدال الألفاظ التي تخاطب الذكور بألفاظ تصلح لمخاطبة الجنسين، فمن أمثلة التغييرات التي حدثت منذ عام 1978 إلى الآن في إنجيل متّى مثلاً هي استبدال كلمة أبناء "sons" بكلمة أطفال "children"، وكلمة "رجل" تغيرت إلى شخص "person" لكي تناسب الجنسين، وقد انتقدت بعض الطوائف البروتستانتية هذا التغيير اللغوي، ولكن بعد أن أُجريت تلك التغييرات وبيعت نسخاً كثيرة منه، فتداركوا وقرّروا بيع الترجمة الحديثة بجانب النسخة القديمة.

لسنا ضدّ العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات -وأوّلها الكرامة والحرّية- بين كل صنوف البشر ولسنا بحاجة إلى إنكار الاختلافات الطبيعية للمطالبة بالحقوق وتعديل الموازين، فلا تفاضل بينهم إلا بالتقوى "إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم"، وليست هي دعوة للرجوع إلى الوراء لتقييد حرية المرأة وقمعها، بل لا نريد لها أن تخرج من قهر الاستعلاء الذكوري والاستبداد الديني والجهل، ومن القمع المجتمعي، إلى حضيض الانحلال الأخلاقي ومسخ الفطرة ولو تزيّن بأجمل ألبسة الحرية والمساواة.

أ.رابحة الزيرة

جمعية التجديد الثقافية - مملكة البحرين

 

JoomShaper