المدن بصخبها واكتظاظها والمتطلبات المهنية والاستلاب الرقمي والتعدد اللامحدود للخيارات وعوامل خارجية أخرى كثيرة تجعلنا نعيش تحت ضغط مستمر.
وفي تقرير نشرته صحيفة "لوتون" (letemps) السويسرية، تطرقت الكاتبة ماري بيير جينيكان إلى كتاب "الهدوء.. كيفية محاربة الاضطرابات الداخلية" الصادر في مارس/آذار الماضي، الذي يوضح فيه المؤلفان غيتان كوزين وكونستانتين بوشلر الأسباب التي تقف وراء شعور الفرد المعاصر بالتوتر الشديد.


وذكر المؤلفان أن مجتمعاتنا منذ القرن الـ18 غرقت في انشغال دائم، ونتيجة لذلك بتنا نعيش أياما مملوءة بالمهام لدرجة أننا نشعر بالانزعاج وعدم الراحة عندما يكون لدينا وقت فراغ وعادة ما يطغى على هذه اللحظات الشعور بالملل والصمت. ويتمثل الحل لهذه المشكلة -حسب المؤلفين- في إبطاء الوتيرة العامة لحياتنا من خلال العمل أقل وعلى وجه الخصوص إعطاء كل تجربة أهميتها الحقيقية.
التسارع الكبير
تسارعت وتيرة الحياة إلى حد كبير بحلول القرن الـ20، من تأويل الموسيقى الكلاسيكية إلى النسق الذي أصبحت عليه الحياة اليومية وحتى طريقة كلامنا.
وتشير دراسة نرويجية إلى أن عدد الكلمات التي ينطق بها نواب البرلمان في الدقيقة زادت بنسبة 50% تقريبا في الفترة بين 1945 و1995، ويمكن ملاحظة هذا الاختلاف عند مشاهدة برنامج أو فيلم يعود للسبعينيات، حيث نشعر بأن كل شيء يمر ببطء.
أما العامل الآخر الذي يفسر النسق الجنوني الذي باتت عليه حياتنا اليومية فهو التوسع الحضري الهائل، ففي 1950 كان 30% فقط من السكان يعيشون في المدن، ومنذ 2007 تجاوزت النسبة 50%، ومن المتوقع أن تصل إلى 75% في عام 2050.
والنتيجة الطبيعية لذلك أن تستمر الضوضاء بالتزايد، ولكن مشكلة عصرنا لا تتعلق بحجم الضوضاء بقدر ما تتعلق بمدة التعرض لها. وسواء كنت في المساحات الداخلية أو الخارجية، فإن تراكمات هذا التلوث الضوضائي حتى إذا كان طفيفًا تؤدي إلى إجهاد الأعصاب.
القرار الكبير
يضاف إلى العوامل السابقة التشتت الذهني الناتج عن التعرض للعالم الرقمي، فقد أظهرت دراسة استشهد بها مؤلفا الكتاب أن طلاب جامعة "ستانفورد" في 2014 قاموا بتغيير موضوع اهتمامهم كل 19 ثانية، فضلا عن رسائل البريد الإلكتروني والشبكات الاجتماعية التي تؤثر على تركيز النشاط الرئيسي، ولكن أزمة الانتباه لا تقتصر على الشباب فقط.
وأشارت الكاتبة إلى أن الحل في هذه الحالة يتمثل في عزل نفسك قدر الإمكان، واللجوء إلى الطبيعة إذا كان ذلك ممكنًا وقضاء عطلة نهاية الأسبوع أو حتى الإجازة بأكملها من دون أي برنامج.
ويؤكد المؤلفان أن الفراغ أو العدم ليس عدو الرفاهية، بل على العكس تماما يسمح لنا الهدوء المطلق بمعرفة من نحن وماذا نريد أن نفعل في حياتنا؛ فمن خلال الإكثار من التطبيقات والمهام لا نقوم إلا بملء الفراغات في حياتنا.
الضغط الكبير
ولكن عندما نطبق برنامج الاسترخاء النفسي والهروب من المدينة ومتطلباتها، مثلما يفعل الأبيقوريون (نسبة إلى أبيقور الفيلسوف اليوناني الذي عاش في الفترة بين عامي 341-270 ق.م) في الحديقة، فإن الملل يتغلب علينا في أغلب الأحيان. فأمور مثل وظيفة رائعة، وعائلة مثالية، ومنزل أحلام، وأثاث فخم… كلها تشير إلى أن حياتنا سباق دائم، وفي أفضل الأحوال سنرى ذلك على أنه نمط حياة أصلي، وفي أسوأ الأحوال سنراه رهانًا خاسرًا.
مع ذلك، يشير الثنائي إلى أن المنطق الغربي يستعبد الفرد أكثر مما يخدمه، والإرهاق وأمراض القلب والأوعية الدموية والاكتئاب والإدمان بجميع أنواعه وفقدان الشعور كلها أمور قاتلة، لذلك وجب علينا أن نحذو حذو ثورو (هنري ديفيد ثورو شاعر وفيلسوف أميركي عاش بين 1817 و1862) وفيتجانشتاين (لودفيغ فيتجانشتاين فيلسوف نمساوي بريطاني عاش بين 1889 و1951) وقبلهما أبيقور وسينيكا (فيلسوف وخطيب وكاتب مسرحي روماني ولد في العام الرابع قبل الميلاد وتوفي سنة 65 م) ونستقر ونغوص في أعماقنا ونعرف ما نريده في قرارة أنفسنا بدلًا من التباهي بما نستحقه.
البديل الكبير
بعد سنوات عديدة من الإجهاد الداخلي، كيف توقف هذه الآلة من دون أن يصيبك الذهول؟ يرى الكاتبان كوزين وبوتشلر أنه يجب استبدال الكثافة بالتماسك والمعنى. فعلى عكس ما نعتقد، فإن الفرد ينشغل بالسعي وراء القوة أكثر من عيشها من أجل تحقيق رفاهيته.
ويقول عالم الاجتماع تريستان غارسيا إن معظم معاصرينا محكوم عليهم بالرغبة الشديدة أولًا، ثم الرضا والانتقال بسرعة أكبر إلى المرحلة التالية.
قد يكون هذا بديلا رائعا نعم، ولكن كيف نجد التناسق والمعنى بعد ذلك؟
أولا: قم بتمييز الحاجات عن الرغبات، بمعنى التقليل من الكماليات والاحتفاظ بالضروريات فقط، فقد يُعدّ امتلاك هاتف ذكي أمرًا ضروريا اليوم، ولكن هل تحتاج إلى الحصول على هاتف أحدث؟
ثم علينا إعادة التفكير في علاقتنا بالعمل؛ فالشخص الذي يرهق نفسه بمهمة ما يكون لديه هوايات جامحة للتعويض عن إحباطه. وفي المقابل، يمكن للشخص الذي يعمل بجدية ولكن من دون إفراط أن يكتفي بهوايات أبسط وأقل تكلفة لأنه يعاني توترا أقل، فتخفيف نمط حياتك لا يعني تقليص حياتك، بل العكس.
السعادة الكبيرة
في النقطة الثالثة، ينصح الكاتبان بخوض التجربة الجمالية التي تعدّ لحظة من التشويق، مثل المناظر الطبيعية الخلابة التي يأسرنا جمالها لدرجة الرغبة في البكاء، فمن خلال أخذ أنفاس عميقة في الطبيعة نقوم بتنشيط الجهاز العصبي نظير الودي الذي بدوره يعطي إشارة للجسم بأن كل شيء على ما يرام. إذن، فالأمر يتعلق بالاستفادة من هذا الهدوء لتعزيز علاقاتنا بكل ما حولنا بدلًا من تغييرها.
ويعتقد غايتان وبوتشلر أن بإمكاننا اختيار السعادة ويحق لنا الوصول إليها وهي أسهل مما نظن. فمن ناحية، هناك أشخاص مرهقون ينغمسون في شواطئ مذهلة ولكنها غير مجدية لتعافيهم، ومن ناحية أخرى هناك أشخاص يعملون أقل لعيش أفضل وتكون شدة أحاسيسهم حقيقية جدا وعميقة جدا لدرجة أن السعادة تصبح في متناولهم.
المصدر : الصحافة السويسرية

JoomShaper