رحاب لؤي
لا يتوقف العقل عن إبهار العلماء، كل تلك القدرات الخاصة والخصائص المميزة تثير المزيد من الشغف والحماسة لدى الباحثين للتعرف أكثر إلى ذلك العضو المذهل، لتتوالى الاكتشافات الواعدة في الوقت الذي تساهم فيه العادات اليومية البسيطة والظروف العصيبة في تدهور الحالة العقلية والمعرفية للإنسان، وكذلك في ضعف صحة الدماغ، ليظل السؤال الذي لا ينفك العلماء يبحثون له عن إجابة: ما الطريقة الفعالة لحماية المخ البشري من التدهور؟


بها سمٌ قاتل! تخفف من متابعة الأخبار
صارت متابعة الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي مصدر إزعاج شديد، وفي الوقت الذي لا يتوقف فيه البعض عن الاصطدام بكل الأخبار الحزينة والمخيفة من كل الاتجاهات (تلفزيون، رسائل نصية، رسائل إلكترونية، راديو)، اتخذ الكثيرون قرارًا بالتوقف عن متابعة الأخبار.
فبحسب بحث في جامعة كانبيرا وجد أن استخدام الأخبار الكثيفة انخفض من 69% في أبريل (نيسان) 2020 إلى 51% عام 2021، وما زال الانخفاض مستمرًّا، بوصفه واحدة من وسائل الحفاظ على الصحة العقلية والنفسية. ربما يكون هذا جيدًا، لكنه ليس الأمر الوحيد الجيد للحفاظ على العقل، فثمة عادات من شأنها تدهور الحالة العقلية للدماغ، يبدو بعضها طبيعيًّا إلى حد بعيد.
وهكذا تخسر عقلك سريعًا
«خسر الرعب فضائله بعد أن أصبح من بين العادات» *إميل سيوران، «المياه كلها بلون الغرق»
عادات مريحة للغاية، لا تبدو مؤذية للوهلة الأولى، لكن عددًا من الدراسات والمراجعات أظهر الخطر المحدق الذي تشكله تلك العادات على الصحة بشكل عام، وعلى المخ بشكل خاص، أهمها:
• الجلوس لفترات طويلة: يجلس الشخص البالغ في المتوسط ست ساعات ونصف يوميًّا، تلك الفترة تتسبب في تغيرات في جزء من الدماغ مرتبط بصنع الذكريات الجديدة، فكلما جلس المرء لفترة أطول تسبب ذلك في التمهيد لمقدمات الخرف والتدهور المعرفي.
• الوحدة: ليس الاكتئاب هو النتيجة الأشهر لبقاء المرء وحيدًا، وفقًا لدراسة نشرت في المجلة الأمريكية لعلم الأعصاب في مارس (آذار) 2022، تزيد العزلة من خطر الإصابة بالزهايمر، وتسرع من عملية التدهور المعرفي، ووفق دراسة تعود إلى عام 2012 يفقد الأشخاص الوحيدون مزيدًا من المادة الرمادية في أدمغتهم، المسئولة عن معالجة المعلومات.
• الأرق: لا يحصل ثلث البالغين على كفايتهم من النوم، فبحسب التوصيات يجب أن يحصل الشخص البالغ على عدد ساعات نوم تتراوح بين سبع إلى ثماني ساعات نوم، إلا أن هذا لا يحدث وفقًا لمراكز «السيطرة على الأمراض والوقاية منها (cdc)» بالولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ تبين أن واحدًا من كل ثلاثة بالغين لا يحصل على كفايته من النوم، وهو ما يترتب عليه عدة مشكلات أبرزها تدهور المهارات المعرفية وعلى رأسها الذاكرة والتفكير والقدرة على حل المشكلات؛ حين ينام المرء أقل من سبع ساعات في الليلة الواحدة.
• نمط الحياة الخاطئ: وفقًا للموقع الطبي «ويب ميد»، فإن نمط الحياة غير الصحي من شأنه المساهمة في تدهور الدماغ، يشمل هذا الإكثار من تناول الأكلات السريعة، إذ تصير أجزاء الدماغ أصغر لدى الأشخاص الذين يتناولون الكثير من البرجر والمقليات والمشروبات الغازية، التدخين أيضًا يقلص العقل، وهذا ليس بالشيء الجيد، لأنه يجعل الذاكرة أسوأ ويجعل الشخص أكثر عرضة للإصابة بالخرف، أما الأمر الأكثر ارتباطًا بنمط الحياة غير الصحي، هو الإكثار من تناول الوجبات الدسمة، والتي تعوق بناء شبكة قوية من الاتصالات في الدماغ تساعد على التفكير والتذكر.
• التركيز على الأفكار السلبية: الأشخاص الذين يجترون الضغائن والأفكار السلبية، لا يبقون فقط في حالة مزاجية متشائمة، لكنهم وفق دراسة تزداد لديهم رواسب بروتينات الأميلويد والتاو في أدمغتهم، والتي تعد من العلامات البيولوجية لمرض الزهايمر.
• البقاء في الظلام لفترات طويلة: هذه ليست مزحة، عدم الحصول على ما يكفي من الضوء الطبيعي يصيب المرء بالاكتئاب ويبطئ عقله لذا يعد التعرض المنتظم لضوء النهار واحدًا من الأمور التي تبقي العقل بصحة جيدة.
• البقاء دون تمارين رياضية أو نشاط بدني: الرياضة ليست رفاهية، أو أمرًا زائدًا عن الحاجة، خاصة لكبار السن، حيث يفقد المرء مع مرور الوقت قدرات الخلايا المسئولة عن التعلم والذاكرة، والتي تفقد حجمها مع التقدم في العمر، وكذلك مع الاكتئاب والإصابة بالزهايمر.
• إياك وسماعات الرأس: قد تساهم سماعات الرأس ذات الصوت المرتفع في إلحاق الضرر ليس فقط بالأذن، ولكن بالدماغ، إذ يرتبط فقدان السمع لدى كبار السن بمشكلات الدماغ مثل الزهايمر، ويحدث ذلك من منطلق أن العقل يحتاج كي يعمل لأن يفهم ما يقال حوله.
• السكر يصيب العقل: وفق دراسة فإن سكر التحلية المستخدم على نطاق واسع يؤثر في مدى مرونة الدماغ، ومدى قدرته على التغيير، الدراسة التي أجريت على الفئران وجدت أن تغذية الفئران بماء الفركتوز بعد إصابة الدماغ، أعاقت التعافي بشكل خطير، وقال مؤلف الدراسة فيرناندو جوميز بينيلا، الأستاذ بجامعة كاليفورنيا: «السكر يضعف الوظيفة الإدراكية للحيوانات».
لكن.. هل تغيير العادات المؤذية ممكن؟
«ليس أصعب على النفس من تغيير ما اعتادت، فالموت نفسه لا صعوبة فيه لولا أنه يغير ما تعودناه، وفراق الموتى لا يحزننا لولا أنه تغيير عادة أو عادات كثيرة» *عباس محمود العقاد، «سارة»
يقول رودولف تانزي، مدير وحدة أبحاث الوراثة والشيخوخة والمدير المشارك بمركز مكانس لصحة الدماغ في مستشفى ماساتشوستس العام التابع لجامعة هارفارد، إن «تغيير العادات المؤذية سهل وممكن، عبر عدة عادات»، من بينها:
لا تجلس كثيرًا: من بين العادات التي رصدها تانزي: التحرك بعد 15 لـ30 دقيقة من الجلوس، حتى لو تطلب هذا ضبط المنبه أو ساعة الهاتف. ويتضمن القيام لعبة الضغط، وجولة سريعة حول البيت، أو في الحي.
كن اجتماعيًّا: ليس المقصود هنا أنه يجب على المرء أن يعرف الجميع ويكون على علاقة بعدد ضخم من الأشخاص، ولكن على الأقل شخصين أو ثلاثة يمكن مشاركة الأخبار والأحداث معهم بشكل أساسي، وتحويل تلك المجموعة إلى «جسد اجتماعي» يجري معهم تبادل الرسائل النصية، والتفاعل الهادف المحفز للعقل.
نم جيدًا: الذهاب إلى السرير ساعة واحدة قبل المعتاد يساعد في تقليل السهر ليلًا، ويمنح العقل والجسد وقتًا إضافيًّا للنوم والراحة.
لا بأس: الانزعاج المستمر، والشعور بالقلق مؤذ لذا سيكون من المفيد أن تعتمد المرونة أسلوب حياة، خذ نفسًا عميقًا وذكر نفسك بأنك لا تعرف دائمًا ما هو الأفضل، يعد ذلك شكلًا من أشكال الغرور ومن ثم إزالة القلق، قبل أن يخرج عن نطاق السيطرة، ردد «أنا بخير الآن».
مارس الرياضة بانتظام: يرتبط النشاط البدني بشكل واضح بصحة الدماغ، والوظائف الإدراكية، فالأشخاص الذين يمارسون الرياضة يمتلكون حجمًا أكبر للدماغ، ومهارات أفضل في التفكير والذاكرة. في المقابل يقل خطر إصابتهم بالخرف، في دراسة حديثة نشرت بمجلة علم الأعصاب، وجد أن كبار السن الذين يمارسون الرياضة بقوة لديهم درجات اختبار معرفية تجعلهم 10 سنوات أصغر من عمرهم الحقيقي، وسبب هذا ليس واضحًا، ولكن الدراسة ترجح أنه ربما يرجع لزيادة تدفق الدم إلى الدماغ نتيجة النشاط البدني، ما يساعد على تكوين خلايا عصبية جديدة.
اتباع نظام غذائي صحي: تناول أطعمة منخفضة السكر وغنية بالأطعمة الكاملة والدهون الصحية والعديد من الفواكه والخضراوات الملونة، بقدر ما يمكن تناوله هو أحد أفضل الأشياء التي يمكن فعلها للعقل.
وعقار جديد قد يعيد لذاكرة كبار السن الأمل
حتى في حالات الضرر، يبقى الأمل موجودًا، فقد أعلن علماء بجامعة ألاباما في برمنجهام بالمملكة المتحدة، اكتشاف عقار جديد من شأنه المساعدة في حالات إصابات الدماغ والاضطرابات المرتبطة بالضعف الإدراكي، ولديه القدرة على مكافحة الاكتئاب، فضلًا عن دوره في تنظيم إشارات الخلايا العصبية في الدماغ، عبر القضاء على إنزيم كيناز، وذلك بعد أن جعل فئران التجارب مرنة في مواجهة الإجهاد، فضلًا عن تعزيز إدراكها وحماية خلاياها العصبية من السكتة الدماغية وصدمات الرأس، وتقليل الانتكاس العصبي والتدهور المعرفي والإدراكي بما في ذلك الزهايمر.

JoomShaper