عندما تغيب الشمس لتشرق في مكان آخر ويتَّشح نصف الأرض باللون الأسود والظلام الكالح، ويضيء القمر كامل الاستدارة في وسط السماء الصافية فيبدو كحبَّة اللؤلؤ البراقة، ويحل السكون وتُطفأ الأضواء ويحط النعاس على أعين الجميع؛ فمنهم من ينام على الأرصفة ومنهم من ينام على الحصير، والآخر على الأسرّة، والبعض الآخر على وسائد من ريش النعام، ولكن في النهاية الجميع نائم باستثناء قلة تظل مستيقظة طوعاً لملاقاة العظيم، القهار.
تغفل وتنام كل العيون إلا بعض عيون عباد الرحمن، الذين يقضون الليل بين السجود والقيام لربهم، فقلوبهم وأرواحهم تتلمس في هدوء وسكينة، عن تلك اللحظات التي يتحرر فيها الإنسان وينزع كل القيود والأقنعة الأرضية عن القوة والتماسك ليخر راكعاً ويعيش كامل ضعفه الحقيقي أمام الرحمن الرحيم، فتبرح الدموع التي كانت تخفيها عيونه عن العالم، في لحظات صفاء بعيدة عن الزيف والنفاق، والتي لا يعرف طعمها إلا من تذوقها. ولن أبالغ إن قلت إنها لحظات تفوق المئات من جلسات العلاج النفسي والاسترخاء.
هذا هو الشعور الذي يتخللني، وأعتقد أنه يتخلل جميع من يؤدي صلاة التهجد، حيث يدعو الله بكل ما يشتهي ويطلب دون الشعور باليأس أو المستحيل، مؤمناً تماماً بقرب الله واستجابته للدعاء، فهو وحده القادر على تغيير الأقدار وصنع المعجزات.
ما هي صلاة قيام الليل وما كيفيتها؟
في هدأة الليل، حين تستريح الأصوات وتخبو الأضواء، تبدأ رحلة الروح نحو عنان السماء مع صلاة قيام الليل، تلك العبادة التي تتجلى فيها أسمى معاني الخشوع والتقرب إلى الباري. ينسلّ وقتها من لحظات ما بعد صلاة العشاء إلى طلوع فجر جديد، معلناً عن فسحة زمنية مباركة تتيح للقلوب أن تناجي خالقها في سكون وخشوع.
تلك السُّنة المؤكدة التي جاءت عن خير الأنام، محمد صلى الله عليه وسلم، تُؤدى على شكل ركعتين ركعتين، كما بيّن ذلك في قوله: "صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فإذا رَأَيْتَ أنَّ الصُّبْحَ يُدْرِكُكَ فأوْتِرْ بواحِدَةٍ. فقِيلَ لاِبْنِ عُمَرَ: ما مَثْنَى مَثْنَى؟ قالَ: أنْ تُسَلِّمَ في كُلِّ رَكْعَتَيْنِ". ويُفضّل في الوتر أن يُصلى بركعة واحدة بعد صلاة العشاء، ويمكن زيادتها إلى ثلاث أو خمس ركعات، مع السلام بعد كل ركعتين ثم إتمامها بركعة واحدة.
أما التهجد، فهو ذلك النداء الإلهي الذي يوقظ القلوب من سباتها لتنعم بلذة الحديث إلى الخالق في جوف الليل. تلك الصلاة التي تعد نافلة الليل الأثيرة، تحمل في طياتها سراً عظيماً يُفتح لمن استيقظوا ليلاً ليتهجدوا بها، متأملين قوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾ [ الإسراء: 79]، ما يجعلها رحلة روحانية تسمو بالنفس إلى مقامات الإيمان الرفيع.
الفرق بين قيام الليل والتهجد:
التهجد يُعرف بأنه القيام للصلاة بعد نوم جزء من الليل، بينما قيام الليل يشمل، بجانب الصلاة، أنواعاً أخرى من العبادة كالذكر والدعاء وقراءة القرآن. وبذلك، يعد التهجُّد نوعاً من قيام الليل، يكون بالنوم ثم الاستيقاظ لأداء الصلاة، ومن ثم فإن قيام الليل أعم وأشمل من التهجد، لأنه يشمل الصلاة وغيرها، ويشمل الصلاة قبل النوم وبعده .
صلاة التراويح
في شهر رمضان، تأتي صلاة التراويح كصورة من صور قيام الليل، وتُصلى في الليل بعد العشاء. وسميت بذلك، لأن التراويح، جمع ترويحة، أي ترويحة للنفس، أي استراحة، من الراحة وهي زوال المشقة والتعب، وسميت بذلك الجلسة التي بعد أربع ركعات في ليالي رمضان بالترويحة للاستراحة، وسميت هذه الصلاة بالتراويح؛ لأنهم كانوا يطيلون القيام فيها ويجلسون بعد كل أربع ركعات للاستراحة.
تُعدّ هذه الصلاة سُنةً مؤكدةً وجزءاً لا يتجزأ من العبادات الرمضانية، وقد حثّ النبي- صلى الله عليه وسلم- على قيام رمضان، مبشراً بغفران الذنوب لمن قام الشهر الكريم إيماناً واحتساباً.
وقد صلاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في جماعة ثم ترك الاجتماع عليها؛ مخافة أن تُفْرَض على أمته.
ثم استمر المسلمون بعد ذلك يُصلون صلاة التراويح كما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يصلونها كيفما اتفق لهم، فهذا يصلي بجَمْع، وذاك يصلي بمفرده، حتى جمعهم عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- على إمام واحد يصلي بهم التراويح، وكان ذلك أول اجتماع الناس على قارئ واحد في رمضان، ومؤسساً بذلك سُنة جماعية مُتبعة حتى يومنا هذا.
فضل قيام الليل:
قيام الليل، لحظات من الصفاء والتأمل، حيث يناجي العبد ربه في سكون الليل وهدوئه، مبتغياً القرب والرضوان. هذه العبادة، بفضلها العميم، تنير درب المؤمن، معززةً الوصل بينه وبين الخالق، ومقويةً لإرادته وسيطرته على نفسه، ومنشئةً للسكينة والطمأنينة في روعه.
في رحاب شهر رمضان، يتجلى قيام الليل كفرصة ذهبية تتيح للمؤمن التقرب أكثر فأكثر إلى الله، في زمنٍ تفتح فيه أبواب الجنة على مصراعيها، وتُضاعف فيه الحسنات. إنها ليست مجرد عبادة، بل هي رحلة روحية يرتقي بها المؤمنون إلى مراتب القرب من الرحمن.
في كتابه الكريم يصف الله عباده المؤمنين، بقوله: "وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً" [ الفرقان: 63].
وقد أكد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أفضل الصلاة بعد الفرائض هي صلاة الليل، فقال: "أفضل الصيام، بعد رمضان، شهر الله المُحرَّمُ، وأفضل الصَّلاة، بعد الفرِيضة، صلاةُ اللَّيل" مشيراً إلى مكانتها الرفيعة وفضلها العظيم بين العبادات.
ومن جمال هذه الصلاة أنها تحمل معها ساعة استجابة، حيث لا يسأل المسلم شيئاً يخص دنياه أو آخرته إلا استجاب الله له، إذ قال رسول الله: (إنَّ في اللَّيْلِ لَسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللهَ خَيْراً مِن أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَذلكَ كُلَّ لَيْلَةٍ). وهو ما يُبرز أهمية الدعاء والإلحاح فيه خلال هذه الأوقات المباركة.
إن قيام الليل ليس فقط عبادة تتجلى فيها الروحانية والتقوى، بل هو كذلك علامة الإيمان الذي ينير قلوب المؤمنين، مما يجعلهم يُقلُّون من النوم، مُتحرِّين تلك اللحظات الثمينة للوقوف بين يدي ربهم. وقد وعد رسولنا الكريم بأن للمقيمين قيام الليل منزلة رفيعة في الجنة، فقال: (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرْفَةً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، فَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لِمَنْ أَلَانَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ لِلَّهِ قَائِماً وَالنَّاسُ نِيَامٌ).
في عتمة الليل، حين تهمس الروح بصدقها وتصفو الأنفس من شوائب الحياة، يبرز قيام الليل كملاذ روحاني يفيض بالسكينة والأمل. هذه العبادة العظيمة ليست إلا رحمة بالمرء، حيث يضع همومه بين يدي الخالق، ليعود قلبه مطمئناً وصدره منشرحاً، خالياً من ثقل الهموم التي كانت تقوّض سكينته.