سعد العثمان
قال الله سبحانه: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]، قال ابن كثير في "التفسير" عند هذه الآية: « قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴾؛ جوابُ القسَمِ، يقولُ: قد فازَ ونَجَا من طهَّرَ نفسَهُ بالإيمانِ والطاعةِ؛ فصار زاكيًا طَاهرًا بنعيمِ الجنة، ﴿ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾؛ أي: وقد خَسِرَ من دسَّ نفسَهُ؛ أي: أهملَها في الكفرِ والمعاصي. ويقال: معناهُ: قد أفلحَ من زكَّى اللهُ نفسَهُ؛ أي أصلحَها اللهُ وطهَّرَها من الذنوب ووفَّقَها للتقوَى، وقد خابَ وخسِرَ مَن دسَّاها، دسَّا اللهُ نفسَهُ أي شَهَرَها وأخذلَها وأحملها وأخفَى محملها، حتى عمِلت بالفجور ورَكبتِ المعاصي. وقال ابنُ عبَّاس: أهْلَكَهَا.
وكان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها». ولذلك أفضل ما يُشغل الإنسان نفسَه، هو تزكية هذه النفس الأمارة بالسوء.
قال ابن قدامة المقدسي - رحمه الله - في "مختصر منهاج القاصدين" - ص 156: «من أراد الوقوف على عيوب نفسه فله في ذلك أربع طُرُق:
1- أن يجلِسَ بين يدي شيخٍ بصيرٍ بٍعُيوبِ النفس، يُعَرِّفُه عيوب نفسِه وطُرُقَ علاجها، وهذا قد عزَّ في هذا الزمان وجودُه، فمن وقع به فقد وقعَ بالطبيب الحاذق، فلا ينبغي أن يُفارِقَه.
2- أن يطلُبَ صديقًا صدوقًا بصيرًا متدينًا، ويُنَصِّبَه رقيبًا على نفسِه، لينبِّهه على المكروه من أخلاقِه وأفعاله. وقد كان أميرُ المؤمنين عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه يقول: «رحِم الله امرءًا أهدى إلينا عُيوبَنا». وقد كان السلف يحبون من ينبههم على عيوبهم، ونحنُ الآن في الغالب أبغضُ الناسِ إلينا من يُعرِّفُنا عيوبَنا.
3- أن يستفيدَ معرفةَ عيوبِ نفسِه من ألسنةِ أعدائه، فإنَّ عين السُّخط تبدي المساوئ، وانتفاعُ الإنسانِ بعدُوٍّ مُشاجِرٍ يذكُرُ عيوبَه؛ أكثرُ من انتفاعِه بصديقٍ مُداهنٍ يُخفي عنه عيوبه.
4- أن يُخالِط الناس، فكل ما يراه مذمومًا فيما بينهم يجتنبُه».
هذه أربع طرق تعالج وتصلح نفسك بهن، فأين هم الجادون في إصلاح أنفسهم؟؟.
واعلم أخي المسلم أن إصلاحك لنفسك يكون على مراحل أربع وهي:
1- إصلاح القلب، فالقلب بصلاحه يصلح الجسد كلُّه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإنَّ في الجسد مضغةٌ، إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، رواه البخاري. ولأن الجوارح ترجمان القلب، فهي تعبر عمَّا يُكِنُّه القلب ويستره، ولذا قال أحد السلف الصالح: إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه.
2- إصلاح السلوك، فلا بد من صلاح سلوك الفرد، ولذا عني الإسلام بتهذيب سلوك المسلم، فهو عنوان التزامه وتدينه، قال الله تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41].
3- إعداد الجوارح للسلوك الصالح، كما أن صلاح القلب والسلوك يؤثر بلا شك على جوارح الإنسان، ولذا ينبغي لهذه الجوارح أن تُعَدَّ إعدادًا جيدًا للالتزام بصلاح القلب والسلوك.
4- التجهيز لأداء النفس لدور في المجتمع، فالمسلم يحيا في حياته ليؤدي دورًا، لا ليعيش ليأكل، وينام، ويموت كالدواب، وقد هوَّن القرآن من شأن قوم عاشوا بلا هدف ولا رسالة، فقال عنهم: ﴿ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ [الأعراف: 179]. فالمسلم يحيا لأداء رسالة في مجتمعه، وقد تحدَّث القرآن الكريم عن هذه الرسالة فقال: ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77]. ولذا أوجب الإسلام على المسلم أن يؤدي دورًا في مجتمعه، كلٌ قدر استطاعته، يقول صلى الله عليه وسلم: «على كلِّ مسلمٍ صدقةٌ. قيل: أرأيت إن لم يجد؟. قال: «يعتمل بيديه، فينفع نفسه، ويتصدق». قال: أرأيت إن لم يستطع؟. قال: «يعين ذا الحاجة الملهوف». قال: قيل له: أرأيت إن لم يستطع؟. قال: «يأمر بالمعروف أو الخير». قال: أرأيت إن لم يفعل؟. قال: «يمسك عن الشَّرِّ فإنها صدقة». رواه مسلم.
من أراد أن يبتعد عن الخطأ، وعن الوقوع في الزلل، فليقرأ بقلبه درَّةً من درر الحسن البصري حيث قال: «أدركتُ أقوامًا لم تكن لهم عيوب، فتكلَّموا في عيوب الناس، فأحدث اللّه لهم عيوبًا، وأدركتُ أقوامًا كانت لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فستر اللّه عيوبهم».
هكذا كثير من الناس يُبتلى من حيث لا يدري، لأنه كان في عافية وفضل من الله، فانشغل بغيره، وكل منشغل بغيره فهو ضعيف في نفسه، لأنه لا يقوى على مصارحتها، وكشف ما بها من عطب، فبدلًا من تأديبها، وتقويمها، وإعادتها إلى رشدها، يصارع عدوًا وهميًّا حتى يظل في ميدان الحروب، وحينها يؤجل كلَّ شيءٍ بعد انتهاء الحرب الخيالية.
كن صريحًا مع نفسك، محبًّا نجاتها، مريدًا مصلحتها، ولا تنشغل بغيرها إلَّا فيما أوجبه الله عليك، لا فيما حرَّمه الله عليك!!.
يقول الدكتور/ مصطفى السباعي في كتابه: "هكذا علمتني الحياة": «إذا همَّت نفسك بالمعصية؛ فذكرها بالله، فإن هي اتعظت؛ فاحمد الله، وإن لم تتعظ، فذكرها بأخلاق الرجال، فإن هي اتعظت؛ فاحمد الله، وإن لم تتعظ، فذكرها بالفضيحة إذا علم بها الناس، فإن هي اتعظت؛ فاحمد الله، وإن لم تتعظ، فاعلم بأنَّ نفسك بعد هذه اللحظة؛ قد تحوَّلت إلى حيوان».
استوقفتني هذه الكلمات لأجول بين معانيها ومغزاها؛ فإذا هي تؤصل معانٍ عظيمة، علينا الوقوف أمامها، وتلمس عين الحكمة منها.
من النفوس من تقف عند حدود الله، بمجرد التذكير، وأقلِّ الوعظ، وحالها يقول: لا تنظر لصغر الذنوب، ولكن انظر إلى عِظم من تعصي!!، فهؤلاء يعيشون درجة الإحسان في الطاعة، وهي عبادة الخالق كأنه يراك، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ومنها مريضة تحتاج بعض الرعاية، والكثير من الحكمة لتؤثر الآخر على نفسها، مرضهم الجاه والسلطة، همُّهم ما يقول الناس عنهم، وكيف يستقبلونهم ويحتفوا بهم، تراهم يراؤون الناس في أقوالهم وتعاملاتهم، وللأسف الكثير منا يزيد من مرضهم، بمراءاتهم لهم، ومجاملاتهم لهم.
ونفوس أسرتها أهواؤها وشهواتها؛ فأخذت بهم إلى بؤر السوء، وقاع الانحطاط، حتى تساووا بتصرفاتهم، واتباعهم شهواتهم بالحيوانات أعزكم الله.
فهنيئًا لمن سمت نفسه وعلت فوق شهواتها؛ لتقترب من منازل الملائكة، بل وتعلو عنها، ويباهي الله بصنيعهم الملائكة، والمثال الأوضح في مهرجان عرفات، حيث يجتمع المسلمين من مشارق الأرض و مغاربها، وفي هذا اليوم العظيم يباهي الله ملائكته بأهل عرفات، كما جاء في الحديث القدسي الصحيح: «إنَّ الله يباهي بهم ملائكته، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثًا غبرًا، أقبلوا يضربون من كل فج عميق، أشهدكم بأني قد غفرت لهم».
كثير منا للأسف ذاق لذة المعصية، في غفلة أصابت قلبه، وكثير منا قد منَّ الله عليه باستشعار لذة الطاعة والأنس بالله، ولكن هل جربت لذة ترك المعاصي؟؟.
كلنا نعلم أنَّ عصرنا هذا مليء بالفتن، بل أكاد أجزم أنَّ كلَّ دقيقة تمر علينا بها من الفتن ما يختبر بها الله عبده المؤمن؛ فإذا عرضت عليك المعصية و الفتن فاستشعر هذه اللذة، لذة ترك المعاصي، وكأنَّ لسان حالك يصرخ ويقول: يا ربي أنت تعلم أنَّ لهذه المعصية لذة عاجلة، ولكنِّي تركتها لك وحدك، فلا أحد يراني إلَّا أنت، و لا يطَّلع عليَّ أحد إلا أنت، يارب طهر قلبي، افتح لي أبواب رحمتك، اغفر لي، ليس لي إلا أنت، لقد أتعبتني ذنوبي، لقد أبعدتني عنك ذنوبي، سئمت البعد عنك، أريد القرب منك، أريدك أنت وحدك، لا أريد إلا رضاك.
فوالله الذي لا إله إلا هو، سيقذف الله في قلبك نورًا وطمأنينة، ولذة لا تعادلها لذة أخرى، كنت تفكر في الحصول عليها بالمعصية!!.
تذكر: ﴿ إنَّ النَّفسَ لأمَّارةٌ بالسّوءِ ﴾، فإن عصتك في الطاعة؛ فاعصها أنت عن المعصية!!، ولا شيء أولى بأن تمسكه من نفسك، ولا شيء أولى بأن تقيّده من لسانك وعينك، فهما بحاجة إلى لجام شديد لكي تسيطر عليهما.
تذكر: «أتعصى الله وترجو رحمته؟!»، أفتعصي اللهَ وترجُو جنتَه، وتذكرَ أنك إلى اللهِ قادم، فكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، ولا يظلمُ ربك أحدًا.
تذكر: كم من شهوة ساعة أورثت ذلًا طويلًا!!، وكم من ذنب حرم قيام الليل سنين!!، وكم من نظرة حرمت صاحبها نور البصيرة!!، ويكفي هنا قول وهيب بن الورد حين سئل: أيجد لذة الطاعة من يعصي؟! قال: لا.. ولا حتى من همَّ بها.
فأعظم عقوبات المعاصي حرمان لذة الطاعات، وإن غفل عنها المرء لقلة بصيرته، وضعف إيمانه، أو لفساد قلبه.. قال ابن الجوزي: «قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني؟! فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟».
تذكر: أقوال السلف في المعاصي:
قال ابن عباس: إن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنًا ونقصًا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق.
وقال الفضيل بن عياض: بقدر ما يصغر الذنب عندك، يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك، يصغر عند الله.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: عجبت من رجل يقول فى دعائه: اللهم لا تشمت بي الأعداء، ثم هو يشمت بنفسه كل عدو، فقيل له: كيف ذلك؟ قال: يعصى الله ويشمت به في القيامة كل عدو.
قال أحد الصالحين: ركب الله الملائكة من عقل بلا شهوة وركب البهائم من شهوة بلا عقل وركب ابن آدم من كليهما فمن غلب عقله على شهوته فهو خير من الملائكة ومن غلبت شهوته على عقله فهو شر من البهائم.
وأخيرًا: ارفع يديك لمولاك وتضرع إلى ربك، بقلب خاشع، وطرف دامع، وجبهة ساجدة، مع قصد، وتوجه، وتحرق، وتشوق، وتعلق بالذي لا يخيب مؤمله، ولا يرد سائله، أن يمن عليك بلذة العبادات، ويملأ بها قلبك ونفسك وروحك؛ فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه....
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.