د. زهير فهد الحارثي
تراكمات التاريخ المحتشدة بالتجارب والأحداث، عادة ما تعكس لنا حقيقة فواصل تاريخية، وبما أننا نعيش مرحلة من هذه المراحل، فإننا نلحظ مدى تأثيرها في حياة الشعوب ما ينتج عنها تحولاً ما يؤثر بدرجة معينة في النشاط البشري، منظوراً إليه ثقافياً واجتماعيا وفكرياً، ومن تلك التحولات ما بات يُطلق عليها مؤسسات المجتمع المدني.
ليس شرطا أن أنقل المفهوم الغربي كما هو، فالأشكال ليست مهمة، بقدرما أن المراد يكمن في المضمون والمفهوم، وفي اعتقادي هكذا مفاهيم لها مرجعية في الشرائع والأديان السماوية والقوانين الوضعية وإن اختلفت الأسماء.
فمن المعروف أن مؤسسات المجتمع المدني في الغرب لها أُطر قانونية وبرامج معينة ضمن آلية محددة، تجيز لها القيام بذلك الدور المهم، ضمن النسيج المجتمعي لهذه الدولة أو تلك، في حين أن بنية مؤسسات المجتمع المدني في العالم العربي - على قلتها ومحدودية إنتاجيتها وتفاعلها - مازالت مهترئة لكونها تنزع إلى الطرح (الشخصاني) من دون وجود مرجعية قانونية يعطيها الحق في التعبير عن وجه نظر هذه الفئة أو تلك. وهذه ثغرة واضحة نجحت في ردمها مؤسسات المجتمع المدني في الغرب؛ لارتهانها العمل المؤسسي القانوني.

على أن بعضهم يرى أن الحل لخلق تناغم بين الدولة أو المجتمع، يكمن في الفضاء المدني وجمعياته ومجتمعه، وليس من الحيز السياسي وتنظيماته، وقد يكون في ذلك بعض الصحة إلى حد كبير، لكنه ليس بالضرورة هو الحل القاطع، كما انه لا يعني انه لا ينطوي على سلبيات، بل قد يجعل الحالة أكثر سوءا.

على أن المجتمع المدني بمفهومه الحقيقي يؤدي دورا هاما في الإنتاجية والتفاعل ضمن منظومة متوازنة، تتمثل في الرقابة على الدولة ومساعدتها في خططها وبرامجها في آن واحد، لكن عند المغالاة في هذا التوجه، تكون النتيجة اضطرابا وخللا في النسيج المجتمعي، ولذا فإن المجتمع المدني ليس بالضرورة، هو الضابط لشكل العلاقة مع الدولة، ولكن هذا الشعار بات ضمن أجندة وخطب الزعماء والرؤساء، اعتقادا منهم بأنه هو السر القادر على كسب أصوات الناخبين، وفعلا - وفي أوقات مختلفة - حقق هذا المفهوم (المجتمع المدني) نجاحات باهرة لكل أولئك الذين انخرطوا في المجالين السياسي والاقتصادي.

ولعل هذا المصطلح جاء منتجا كإفراز للثورتين الأميركية والفرنسية، وان كان الرومان والإغريقيون هم أول من ابتدعوا مفهومه، إلا أن فكرته تطورت في أواخر القرن الثامن عشر، حيث رسخ فلاسفة التنوير، آنذاك، مفهوما جديدا، وكأنه بمثابة كيان مستقل عن الدولة، يُضم المواطنون فيه لخدمة مصالحهم وحاجياتهم. غير أن من استخلص فكرته، وعرضها عرضا صادقا ومؤثرا، وانعكست في كتاباته المثيرة هو المفكر انطونيو غرامشي، التي نشرها بعد الحرب العالمية الثانية، محددا أن المجتمع المدني ما هو إلا صورة للكفاح ضد الدكتاتورية، وانه نشاط سياسي مستقل عن هيمنة الدولة وسلطتها، وسرعان ما لبث أن تحول هذا الشعار إلى سلاح يستخدمه الناشطون لوقف استبداد الدولة.

وفي خضم تلك التفاعلات، انبثقت جماعات تنادي بحماية المصالح العامة، وتحولت قضايا المرأة، وحقوق الإنسان، والبيئة، ومكافحة الفساد، والفقر، وغيرها من الأولويات التي تدافع عنها تلك الجماعات، وما برحت ترسخ هذا النهج في كل مناسبة وملتقى، ولم تمض سنوات حتى بات هذا المصطلح يشمل كل المنظمات والجمعيات الكائنة والمستقلة عن إطار الدولة (النقابات العمالية، نقابات الأطباء والصحفيين والمحامين، الجمعيات الثقافية والطلابية... إلخ).

بيد أن النقطة المفصلية تكمن في سؤال لاذع: هل كل هذه المنظمات والجمعيات تعمل من أجل غاية نبيلة، وتهدف إلى المصلحة العامة؟ بعضهم يشكك في نزاهة تلك الطروحات وصدقيتها، بدليل أن استغلال (المصلحة العامة) لتحقيق رغبات ذاتوية ومصالح شخصية، لا يزال أسلوب بعض تلك المنظمات. ولعل كثيرا من المفكرين يرون إشكالية (المصلحة العامة) بشكل جليّ، وهي التي تُستغل من قبل بعض الجماعات والمنظمات. هذا الطرح يرسّخ الاعتقاد في أن المصلحة العامة كمصطلح لا تلبث أن تتحول إلى وجهي عملة واحدة، ولذلك عندما ينادي مناصرو (البيئة) بالهواء النظيف كمصلحة عامة، فإن مناصري انخفاض تكاليف الطاقة يرون في قضيتهم تحقيقا لمصلحة عامة، وعندما تطالب نقابة العمال بضمان العمل لأبناء البلد على افتراض انه مصلحة عامة، فإن الحكومة بفتحها السوق ترى أن التجارة الحرة شرط يجب أن يتحقق؛ لأنه يحقق مصالح البلد العليا، كما أن نقابة الصحفيين في دعوتها لمساحة اكبر في حرية التعبير والإعلام، تقابلها رؤية راجحة في حماية أفراد المجتمع من القذف أو التشهير من دون مسوغ قانوني.

على أن طرح مثل هذه الأمثلة لا يقلل من أهمية المجتمع المدني ودوره في دعم قضايا المواطنين أمام الدولة، مرسخا المطالبة بالديمقراطية، وانخراط المواطن في بلورتها. ولكن السؤال الذي يُطرح هنا يتعلق في ما إذا كانت الديمقراطية الغربية هي الأرضية التي يخرج منها المجتمع المدني، وانه لا قيمة للأخير ولا حضور له طالما انه لا يطابق الصورة الغربية، أو يتماهى مع تشكلها، وهذا ما يذهب إليه بعض المفكرين الأميركيين، في حين أن بعضهم يعارض ذلك التوجه؛ لأنه ليس بالضرورة أن تلبس الثوب المجتمعي الأميركي حتى تكون مجتمعا مدنيا، بل أن بعض الدول المتقدمة في النهج الديمقراطي تجد أن دور المجتمع ضعيف مقارنة بدور الدولة، مثل فرنسا واسبانيا واليابان، ولكنها، رغم هذا، تجدها منسجمة ومتناغمة العلاقة، أي العلاقة ما بين الفرد والدولة.

غير أنني أرى أن أهمية المجتمعات المدنية تكمن في عملية الرقابة والضغط على الحكومات من أجل قضايا تهم المجتمع، ولذا تتضح أهميتها في الدول التي تنزع إلى الأوتوقراطية، في حين أن الدول الديمقراطية، وبترسيخ من دستورها ومكوناتها السياسية والاجتماعية، تخلق حالة من التوازن في ذات النظام، وبالتالي فالعلاقة تنتظم داخل النسيج بكامله، ولذلك لا نستغرب إن كانت المنظمات المدنية في دولة ديمقراطية كاليابان ليست فعّالة بدرجة كبيرة، لأن النظام السياسي هو الذي اخذ على عاتقه تحقيق التوازن، ضمن برامج ونصوص وقوانين تؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق الاستقرار والإنتاجية.

صفوة القول إنه ليس شرطا أن انقل المفهوم الغربي كما هو، فالأشكال ليست مهمة، بقدرما أن المراد يكمن في المضمون والمفهوم، وفي اعتقادي هكذا مفاهيم لها مرجعية في الشرائع والأديان السماوية والقوانين الوضعية، وان اختلفت الأسماء، ويبدو أن الحل يكمن في عقلنة السياسة في عالمنا العربي، وترتبط بهاجس الشعوب؛ لكي تتناغم تلك العلاقة، وبالتالي تدفع المواطنة إلى الأمام من اجل البناء والرخاء.

 

جريدة الرياض

JoomShaper