إنها باختصار الحقيقة المضحكة المبكية.. أسرنا بما فيها من علاقات إنسانية ومساحات اجتماعية صار لا فارق بينها وبين أي من منتجاتنا الاستهلاكية  فكلاهما مصنوع بأيد غربية ، ولكن العلامة المُسجلة كتب عليها هذه المرة: "صنع في الأمم المتحدة"، ونعني الأمم المتحدة أي مبنى الأمم المتحدة في نيويورك الأمريكية و ليس المعنى التي تشتمل عليه من تمثيل لعوالم وثقافات وحضارات ممتدة عبر 185 دولة . ولفكّ هذا اللغز رأينا أن نبدأ بالفصل الأخير من تلك المسرحية الواقعية الهزلية، فصل لتوصيف ما آلت إليه حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا الأسرية بصفة خاصة، ثم نتبع ذلك بفصول ومشاهد نهدف منها للوقوف على: لماذا، متى وكيف حدث ما حدث لحياتنا الاجتماعية في العقود الأخيرة؟!.

لو فكّر أحد زوارنا يومًا أن يتصفح أرشيف صفحة "حواء وآدم" لهاله هذا الكم من المقالات التي أخذت ترصد التغيرات التي انتابت الأسرة في العالم وامتدت إلى أسرنا العربية والإسلامية، فهناك ما يمكن أن نسميه "ثورة جنسية"  نشهدها عبر القنوات الفضائية وعبر شبكة الإنترنت والصحافة الصفراء، وهناك الهوس بالجنس والجسد.. كيف يتم التصدي لذلك؟.

إنه برفع سن الزواج.. وخفض سن الجنس في كثير من الأحيان، وفي أحيان أخرى أصبح هناك ضرورة ملحة لتعديل قوانين الأحوال الشخصية لمواكبة مشاكل لم تعرفها أسرنا العربية من قبل، وفي سياق ذلك تم رصد التغيرات التي أحدثها القانون الجديد في قطر، ثم تلك التي تلتها في فلسطين، ولبنان.

ولا يكتمل مشهد تغيرات العلاقة الزوجية في أسرنا العربية إلا حينما نشير إلى التحولات والظواهر الاجتماعية التي استجدّت في مجتمعاتنا  مثل قضية بيع الأرحام التي أثيرت مؤخرًا حتى كدنا نرى لافتات "أرحام للبيع" معلقة هنا وهناك لم يتوقف النقاش حولها.

وعلى جانب آخر من خشبة المسرح نجد قطاعاً كبيراً من الأبناء – تلك النبتة التي غالبًا ما توصف بالبراءة- ما بقي منهم سوى ملامح للشراسة والعنف والعدوانية.. ماذا دهاهم؟ ونسأل معا: أين البراءة، بل أين الطفولة؟!.

نرصد على طول الخارطة في كافة الاتجاهات وفي سائر المدن  أطفالاً للشوارع، أطفالاً يباعون ليشتروا، في العراق يستغيثون، وفي فلسطين يُقصفون، وفي باقي الدول "يعملون" كالعبيد.

وفي أحسن الأحوال عندما تضاء أنوار المسرح قليلاً لتنهي ذلك المشهد المأسوي لا نرى سوى أطفال مغيبين عن واقعهم، جالسين أمام التلفاز أو مدخنين لسيجارة، معرضين حياتهم للموت البطيء بينما تتمتم شفاههم السوداء من أثر الدخان بـ "بابا أوبح".

تُسدل الستائر وينتهي فصل قُصد منه توصيف جانبا ً كبيراً من الواقع.. واقع أسرنا بكل تجلياته ،  ويبقى على المشاهد أن ينتظر ما يُسمَّى في صناعة السنيما بالـflashback  لعله يكون مفسرًا لجانب من الأسباب والمسببات.

لا شك أن الأسباب مقدمات وتداعيات لتلك المتغيرات المتعددة المتشابكة والمعقدة والبحث فيها يحتاج إلى دراسات متعمقة تمتد لسنوات، ولكننا في هذا الملف لا نهدف إلا لتسليط الضوء على بُعد واحد كان له في العقود الماضية أبعد الأثر دون أن ندري – في أغلب الأحيان – على حياتنا الاجتماعية ألا وهو البعد الدولي وبالتحديد تأثير توظيف الأمم المتحدة  ومؤتمراتها الدورية لتحقيق تلك التغييرات ، ولنلقي الضوء على مؤتمرات الطفل بمناسبة قرب انعقاد قمة الطفل في الأمم المتحدة (نيويورك) في سبتمبر القادم.

إنه مجرد بُعد واحد وسط مئات المسببات والمقدمات، ولكنه بلا شك بعد له ثقله وتأثيره القوي على مجريات الأمور بسبب غياب التواجد  الإسلامي الفعال إضافة إلى غياب أو تغييب أطراف كثيرة تهتم بالحفاظ على الأسرة بمفهومها التقليدي و إمداداتها العائلية والاجتماعية في هذه المؤتمرات.

مؤتمر "قمة الطفل" الذي سيتم عقده من الفترة بين 19 إلى 21سبتمبر 2001 يعتبر بمثابة متابعة لمؤتمر القمة العالمي من أجل الطفل الذي تم عقده في1990، ونتج عنه الإعلان العالمي لحقوق الطفل، بمعنى أن "قمة الطفل" ما هي إلا التزام متجدد وتعهد من قبل الدول المختلفة بالقيام بأعمال  محددة خلال العقد القادم ، فالدول الموقعة على وثيقة الطفل التي ستصدر في نهاية المؤتمر إذن ملزَمة بما فيها من بنود، والتي قد لا تتوافق في كل الأحوال مع الخصوصية الثقافية للمجتمعات المختلفة.

كان عدم مراعاة خصوصية المجتمعات (وبما في ذلك التشريعات الدينية الخاضع لها شعوب تلك المجتمعات)  هو الشرارة الصغيرة التي فجّرت المعارضة الإسلامية والعربية في العديد من المؤتمرات السابقة، وكان من أبرزها مؤتمر السكان والتنمية الذي عُقد في القاهرة في سبتمبر 1994، وتضمن نصوصا وبنودا حول الممارسات والحقوق الجنسية للمراهقين وتعريف الأشكال والأنماط المتعددة للأسرة (امرأة + امرأة) أو (رجل + رجل)، حق الإجهاض وتنظيم الأسرة (كان الهدف هو الاتفاق حول كل ذلك وإقراره).

وكان السبيل لتمرير مثل هذه المفاهيم في هذا المؤتمر ومؤتمر بكين، الذي شابهه في بنوده وتبعه بعامين هو اعتماد الألفاظ الفضفاضة في وثيقته والتي تقبل أكثر من تفسير،  من أبرزها  ألفاظ مثل :"الصحة الجنسية والرعاية الصحية التناسلية"، وهي كلمات قُصد منها تمرير فكرة safe abortion  أو حق الإجهاض الآمن، بما لا يخضع قضية الحق في الإجهاض للنقاش وإنما الطريقة الآمنة لتنفيذه .

لم يكن ذلك فقط هو ما أثار حفيظة المشاركين من الوفود الإسلامية والعربية  تجاه مؤتمر السكان والتنمية، بل والسماح بحضور "جماعات الشواذ"،  ولهذه الجماعات  دورها البارز في الضغط على إدارة مؤتمرات الأمم المتحدة، فلولاها ما أُدرجت كل هذه البنود التي تناشد دول العالم (على إطلاقها) بالاعتراف بهم وبحقوقهم في تكوين أنماط جديدة من الأسر وحقهم في التبني لتكتمل الأسرة. حتى استطاعوا في نهاية المطاف جذب جمعيات وجماعات من المسيحيين وحتى المسلمين.

ليست هذه  فقط هي القوة المؤثرة بصورة واضحة على إدراج تلك البنود (الفجة التي لا تتماشى مع معتقداتنا الدينية كمسلمين)، فهناك  جماعات الحق في الاختيار pro-choice التي تنادي بحق المرأة في الإجهاض، وحتى تتضح الرؤية يكفينا أن نعرف أن هذه الجماعات استطاعت في عام 1992  و1996 أن ترجح كفة الرئيس كلينتون في الانتخابات.

وحتى هذه الجمعيات مثلها مثل جمعيات الشواذ استطاعت أن تستميل قوى دينية (مسيحية) وقساوسة إلى صفهم فزادهم ذلك قوة وفتوة، وامتد الأمر ليصل إلى تأسيس جماعات من المسلمين لمؤسسات تنادي بحق الإجهاض.

ولننتقل الآن إلى سؤال "كيف"،  كيف أمكن لهؤلاء أن يؤثروا في مؤسسة عالمية لها هيبتها بهذه الطريقة الصارخة؟!. يتم ذلك عبر تأثير ما يسمى بالجمعيات الأهلية NGOs؛   فالمؤتمرات الرسمية تواكبها مؤتمرات للجمعيات الأهلية تنعقد بالتوازي معها مكانًا وزمانًا.

إن الجمعيات المدرجة لحضور مؤتمر الطفل في سبتمبر القادم تنسق فما بينها مواقفها: تتعاون وتتكاتف لإحداث أكبر ضغط ممكن لتمرير تحفظاتها وانتقاداتها للوثيقة وبنودها، حيث  تعد الأمم المتحدة وثيقة أي مؤتمر قبل انعقاده بقرابة عام كامل ليتسنى للوفود الرسمية وغير الرسمية التعامل معها بطريقة الإضافة أو الإلغاء d& Delete .

ويعني ذلك ببساطة أنه علينا كشعوب وحتى كحكومات التعامل مع نصوص مفروضة مسبقًا، والمسموح فقط هو اللعب ضمن هذه المساحة عبر إضافة تحفظ (مثال: أن تزيل الجمل بتحفظ، ولكن يتم ذلك مع مراعاة الخصوصية الثقافية للمجتمعات المختلفة، أو تحفظ يتم تنفيذ ذلك بما لا يتعارض والأديان المختلفة... إلخ)، ومع ذلك فقد أدركت بعض الدوائر قواعد اللعبة واجتهدت في تقديم رؤى بديلة في المساحات التي أُتيحت لها.

ولكن.. هل يؤثر ذلك؟


للنجاح في التأثير شروط، أهمها تكوين جماعات قوية بالتنسيق مع جماعات وجمعيات أخرى، وهذه هي شروط اللعبة . فالتأثير الإسلامي الإنساني - رغم كونه في بداياته وخطواته الأولى- حصد بعض نجاحاته  في المؤتمر التحضيري لمؤتمر قمة الطفل في فبراير الفائت حينما تم إدراج أطفال العراق ضمن الأطفال الأكثر تعرضاً لأخطار الحروب عبر شيء من هذا التنسيق .

وتقوم بعض اللجان الإسلامية مثل (لجنة المرأة والطفل  التابعة للمجلس الأعلى للدعوة والإغاثة) بجهد طيب في محاولات توحيد الصف الإسلامي في هذه المعركة وتكوين جبهة قوية موحدة، ولا شك  أن للبعد الدولي أثره على دوائر عدة فكانت  المؤتمرات الإقليمية التحضيرية المختلفة لقمة الطفل  على المستوى العربي، وهنالك مؤتمرات على المستوى الإفريقي.

والخلافات الصغيرة هي عائق  آخر وعلينا كعرب ومسلمين أن نتخطاه؛ لتنتقل دعوتنا إلى رفع الوعي بهذه المواجهات مع ما يهدد أمننا الاجتماعي، من قاعات الأمم المتحدة إلى بيوتنا، ولتكن دعوة للأسر للوقوف أمام الأمم المتحدة إذا ما أخلّت وثائقها بما عاهدناه من فطرة سليمة وإطار قيمي يمنحنا مجتمع أكثر تماسكا ورحمة.

المصدر: إسلام أون لاين

JoomShaper