حسب المفوضية العامة لرعاية اللاجئين ارتفعت نسبتهم عام 2006م بنسبة 14 في المائة في أنحاء العالم بالمقارنة مع 2005م، وجاء في تقريرها السنوي بمناسبة يوم اللاجئين العالمي (20/6/2007م) ما يبيّن أن أهل البلدان الإسلامية يمثلون النسبة الأعظم من اللاجئين في أنحاء العالم، في مقدمتهم اللاجئون الأفغان، وعددهم أكثر من مليونين، ثم العراقيون، والفلسطينيون،
أي من البلدان الواقعة تحت الاحتلال المباشر، كما ازداد ارتفاع عدد اللاجئين من الصومال والسودان، من بين البلدان المستهدفة أكثر من سواها في المرحلة الآنية من مسيرة الهيمنة الأمريكية، والأرقام تعني اللاجئين خارج مواطنهم الأصلية، وعددهم 25 مليونا، ويوجد مثلهم أو أكثر من المشردين داخل حدود الأوطان الأصلية، كما هو معروف عن العراق وأفغانستان وفلسطين أيضا، ويوجد أكثر من 13 مليونا من هؤلاء اللاجئين في القارة الإفريقية. وحسب دراسة لجامعة هامبورج الألمانية لا يُستبعد تشريد أكثر من 200 مليون إنسان إضافة إلى 20 مليونا حاليا في إطار ما يسمّى "مشرّدو تقلبات المناخ العالمي".
ورغم كلّ المزاعم الدولية بشأن المساعدة على إيواء اللاجئين، وتوطينهم مجدّدا في بلادهم، فإن الوضع الحالي (عام 2007م) ازداد سوءا عمّا كان عليه، عاما بعد عام، وهو ما يسري على عام 2001م، بعد ما سمّي قمة الألفية للأمم المتحدة، وآنذاك كان من أقوال رئيس المفوضية العالمية لرعاية اللاجئين لودرس حول اليوم العالمي للاجئين: "ليست القضية بالنسبة إلى اللاجئين قضية يوم في العام يخصص للتذكير بمشكلتهم، فكل يوم في حياة التشريد يوم لا يحسب من عمر اللاجئين".
إنّ ظاهرة اللجوء والتشريد من أوسع ظواهر العصر الحديث انتشارا، مرافقة للحروب والكوارث الطبيعية، ومرافقة أيضا للجوع والفقر والمرض والقحط والجفاف، والأطفال في مقدّمة ضحايا هذه الظاهرة التي يصنعها الإنسان في عالمنا المعاصر، كما تؤكّد الفقرات التالية
الإنسان في طاحونة الأرقام
تنطلق المفوضية العامة للأمم المتحدة من تعريف رسمي للاجئ يقول إنه مَن يعيش مضطرا خارج حدود بلد يحمل جنسيته، ولا يستطيع العودة إليه، بسبب انتمائه العرقي أو الديني أو القومي، بينما يطلق وصف المشرّد على المضطر للعيش في غير مكان إقامته داخل وطنه الأم. وشملت السجلات الرسمية للمنظمة الدولية أكثر من 20 مليون لاجئ ومشرّد في أنحاء العالم (عام 2001م وارتفع إلى 25 مليونا عا 2007م)، ومن الناحية الرسمية لا تزال المجموعة الكبرى منهم هي الأفغان، رغم سائر ما قيل عن عودة القسم الأعظم منهم بعد الغزو الأمريكي، ويربو عددهم وفق إحصائيات المفوضية على ثلاثة ملايين، بينما يبلغ عدد المشرّدين الفلسطينيين أكثر من ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف (رسميا.. والعدد أكبر من ذلك) إنّما لا تُدرجهم المفوّضية جميعا تحت عنوان "لاجئين".
وترجّح المصادر الدولية نفسها أن يكون عدد اللاجئين وقف التعريف الرسمي المذكور أكثر من خمسين مليون وليس 20 مليونا، وربّما كان أكبر من ذلك بكثير، إذ لا يوجد إحصاء شامل مثلا للاجئين والمشرّدين في القوقاز والبلقان وأنجولا وإندونيسيا وغيرها. وانطلاقا من رقم (50 مليونا) تتراوح نسبة اللاجئين والمشرّدين من المسلمين ما بين الثلثين والأربعة أخماس، ومعظمهم مشّردون ما بين الأقطار الإسلامية نفسها وداخل الوطن الأم، كما هو الحال في البوسنه والهرسك والبلقان عموما، أو أفغانستان والدولتين المجاورتين لها، أو اللاجئين الفلسطينيين، وينطبق هذا الوضع على الأفارقة المشرّدين من غير المسلمين أيضا، وعند المقارنة يظهر مدى ضعف ادّعاءات بعض الدول الغربية، لا سيما الأوروبية، أنّها أصبحت تستوعب أعدادا ضخمة من اللاجئين تتجاوز طاقاتها، فاللاجئون الأفغان والفلسطينيون فقط، وهم موزعون على بضعة بلدان إسلامية في الدرجة الأولى، أكثر عددا من اللاجئين في الدول الأوروبية الغربية جميعا، كما أنّ نسبة اللاجئين الفلسطينيين إلى السكان في بلد كلبنان أو سورية، تزيد على نسبة اللاجئين من مختلف البلدان إلى السكان في بلد أوروبي غربي رئيسي كفرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا.
وتقول إحصاءات المنظمة عن اللاجئين والمشردين الذين ترعاهم -وفق سجلاتها- إنّ الثلثين لاجئون والثلث من المشرّدين داخل حدود أوطانهم الأصلية، وإنّ ربعهم معا هم لاجئون ومشرّدون في أوروبا الغربية والشرقية أي أكثر من خمسة ملايين ونصف المليون بقليل (منهم حوالي مليونين ونصف من المسلمين البوشناق والألبان) والربع الثاني، أو خمسة ملايين وثلاثمائة ألف تقريبا هم اللاجئون والمشردون في بلدان القارة الافريقية، فتتعادل القارتان بذلك من حيث "عدد" من يُفترض أن تستوعبهم من اللاجئين، مع ملاحظة أن وسطي دخل الفرد في الأولى يعادل أكثر من مائة ضعف وسطي الفرد في الثانية. كما يوجد أكثر من ثمانية ملايين ونصف المليون لاجئ في آسيا والمحيط الهادي، وهو الرقم الذي يشمل سبعة ملايين من الأفغان والفلسطينيين، وتستضيف الأمريكتان معا مليونا وستمائة ألف، أكثر من ثلثيهم في أمريكا الجنوبية.
مسؤولية السياسة العوراء
تأسست المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين عام 1950م كمنظمة "مؤقتة" عملت في أوروبا فقط لرعاية اللاجئين الذين خلّفتهم الحرب العالمية الثانية، وهذا ممّا يبرز التناقض الكبير بين سياسة "الأسوار المرتفعة والحدود المحصّنة" التي يتبعها الاتحاد الأوروبي، وبين ما كان يُنتظر من دول عرفت بنفسها الجوانب الإنسانية لقضية اللجوء والتشريد، هذا علاوة على أن الدول الغربية عموما والأوروبية على وجه التخصيص، تحمل قسطا أكبر من المسؤولية عن ظاهرة اللجوء والتشرّد عالميا، الناجمة -إلى جانب الأسباب المحلية المحضة- عن صراعات النفوذ الدولي المعروفة وعن هوّة الثراء والفقر الذي صنعها الخلل الكبير في نظام الاقتصاد الدولي في العقود الماضية، ويزيده في الوقت الحاضر التوجّه المكثف نحو مزيد من "العولمة".
وليس مجهولا أنّ مشكلة اللاجئين ليست مشكلة "سياسية" فحسب، لا سيّما وأن صانعي القرار السياسي لا يضعونها على جدول أعمالهم إلا كمشكلة جانبية يستثمرون الحديث عنها سياسيا، دون صنع ما يكفي لمواجهتها واقعيا، فالقضايا ذات الطابع الإنساني لا تمثل عنصرا فاعلا إلا في مرتبة متأخرة للغاية في صناعة المواقف والقرارات، انطلاقا من اعتبارات سياسية واقتصادية أنانية محضة، وقد يبدو ما يعنيه ذلك بصورة أشدّ وضوحا عند الإشارة إلى أنّ ظاهرة الأطفال المشرّدين أصبحت من الظواهر المتنامية عاما بعد عام حتى في قلب مراكز الحضارة الحديثة في أثرى الدول الصناعية في الوقت الحاضر، وهم يشكّلون الثلث من أصل بضعة وعشرين مليون مشرد في الولايات المتحدة الأمريكية ومثلهم في أوروبا الغربية، كما أنّ نسبة الأطفال الذين يعانون من الجوع داخل المجتمعات الصناعية في ارتفاع مستمر، وقد بلغت الملايين أيضا في هذه الأثناء، كما في بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها.
ومهما قيل في البعد السياسي والاقتصادي سيبقى البعد الإنساني لقضية التشريد هو الأشدّ تأثيرا على من يتابع القضية خارج نطاق القوالب السياسية الموضوعة لها، وبالتالي فعلى قدر تغييب هذا البعد عن وسـائل الإعلام، وعن الوعي العام، تزداد مسؤولية صانعي القرار السياسي والاقتصادي، تجاه ما تعنيه حياة اللجوء والتشريد من معاناة ومن مآسي فردية لا حصر لها.
على سبيل المثال، كم تخصّص وسائل الإعلام وغيرها من الجهات ذات العلاقة، لعرض ما أصبح عليه وضع اللاجئين في أفغانستان بعد الغزو الأمريكي، أو كم خصصت قبل الغزو لعرض الأوضاع مثلا في مخيم اللاجئين "جالوزاي"، وقد غدا لفترة طويلة نموذجا لواقع حياتهم في التشريد، في أكثر من مائتي مخيم مثله، وقد مضى على قيامه زهاء ربع قرن، وضمّ زهاء نصف مليون لاجئ، لجأ كثير منهم إليه هربا من الحروب ومن الفقر والجفاف في وقت واحد، ولا يجد اللاجئون فيه حتى "الخيام" بمعنى الكلمة، فضلا عن نقص الماء نقصا كبيرا، وافتقاد الدواء افتقادا تاما، والتعرض لحرارة الشمس صيفا في حدود أربعين درجة، وبرودة الصقيع شتاء إلى ما دون الصفر بعدة درجات، وفي ذلك المخيم يموت يوميا عشرات الأطفال جوعا وعطشا ومرضا.
الطفولة الموؤودة في الخيام
الأطفال هم أشدّ فئات اللاجئين والمشرّدين تعرّضا لمختلف جوانب مأساة التشريد الكبرى، وقد ذكرت الرئيسة السابقة للمفوضية صادوق في كلمة لها أن واحدا فقط من كل ثمانية أطفال في المخيمات (من التي تجد رعاية المفوضية أصلا) يزور المدرسة، وأنّ العدد الأعظم منهم لا يعرف ما تعنيه كلمة "حديقة"، وهم يبيتون على الجوع والعطش وفي العراء غالبا، قد فقدوا معنى الطفولة نفسها، كما فقدوا انتماءهم لأي وطن، فمن يولد في مخيم للاجئين، لا يجري تسجيله في سجلات المواليد في وطنه الأم أصلا، وكثير منهم بدأ حياة التشريد بعد أن فقد أبويه وأقرباءه.
على أنّ الأبعاد الفعلية لمأساة الطفولة في حياة التشريد أوسع من ذلك بكثير، ولا يمكن التفصيل في جوانبها جميعا في إطار مقالة ما، بل لا يفيد التعامل معها كمادة في "الدراسات والبحوث الأكاديمية" وفي الإحصاءات فحسب. وتكفي الإشارة إلى بعض العناوين الرئيسية لبيان أهمية التفاعل مع القضية من جذورها، بعد أن أصبح كثير من الأطفال والناشئة المشرّدين ضحيّة عدد من الظواهر المأساوية الأخرى، التي انتشرت وتفاقمت في ظل مزيد من التطوّر التقني الحديث في عالم الحضارة المادية المعاصر، وأصبحت مواطن التشريد من مصادر "غذائها" الرئيسية، ومن ذلك على سبيل التنويه دون تفصيل:
1- حياة التشريد دون مأوى ولا غذاء ولا دواء ولا أيّ شكل من أشكال الرعاية بحدودها الدنيا، تساهم إسهاما مباشرا في كارثة استفحال وباء نقص المناعة الذاتية في القارة الافريقية، علما بأنّ ثلث ضحاياه هم من الأطفال، وقد وصل عدد ضحاياه في هذه الأثناء إلى أكثر من 40 مليونا في العالم، ثلثاهم في افريقية، علاوة على المصابين بالفيروس ولم تظهر عليهم أعراض المرض بعد، وهم أضعاف مضاعفة، كما أنّ عدد من أصبح يُطلق عليهم وصف "أيتام الإيدز" بعد فقد الآباء والأمهات بسبب الوباء، يزيد على اثني عشر مليون طفل.
2- تجارة الرقيق الأبيض تشمل النساء، كما تشمل الأطفال من الذكور والإناث، وبدأت مع انتشار ظاهرة العولمة "تزدهر" ازدهارا سريعا ومطّردا في المناطق التي ارتفعت فيها نسبة التشريد، كجنوب شرق آسيا وافريقية وشرق أوروبا حتى باتت ميزانية العصابات العاملة في هذه التجارة "الحديثة" تتجاوز مئات المليارات، ومعظم "الرقيق" في هذا التجارة "يُستورد" إلى البلدان الغربية، لتشغيلهم في ميادين الدعارة في الدرجة الأولى، لا سيّما من الناشئة والشباب في مقتبل العمر.
3 – باتت المخيمات من مصادر "التموين" الرئيسية لسوق عمليات "تهريب البشر" التي تشمل الأطفال دون أقارب، وأطفالا يبيعهم أهاليهم بيعا لعجزهم عن تأمين الطعام والشراب والدواء لهم، فتتاجر بهم عصابات متخصصة، لا سيما في تأمين هذه "البضاعة" للراغبين في تبني الأطفال في البلدان الغربية دون تحمّل "عبء الإنجاب" أو نتيجة العقم، ويجري بعض ذلك "رسميا" تحت عناوين الرعاية في دور حضانة كنسية أو تأمين "أسر" لأيتام الحروب والنزاعات والكوارث.
4 - نسبة كبيرة من الأطفال المشرّدين داخل البلدان الغربية نتيجة الفقر، يجدون أنفسهم خلال فترة وجيزة ضحية للمخدرات والاعتداء الجنسي وارتكاب الجريمة، بنسب مئوية متصاعدة عاما بعد عام، مقابل هبوط وسطي أعمار الأطفال والناشئة في هذه الميادين عاما بعد عام أيضا.
5 - ثلث السياحة الغربية إلى بلدان سياحية معروفة، مثل تايلاندا والفيليبين وكينيا وغيرها، بات يوصف بالسياحة الجنسية، والفئة المستهدفة هي في الدرجة الأولى من الأطفال والناشئة، وباتت حياة التشريد وأشكال الفقر الأخرى من الدوافع الرئيسية لاشتغالهم أو تشغيلهم في الدعارة في أوطانهم الأم.
أمام هذه المعطيات التي تتحدّث عنها المنظمات العالمية والمؤتمرات الدولية لا بدّ من استغراب ظاهرتين اثنتين انتشرتا في السنوات الأخيرة على نطاق واسع:
أولاهما أن الحملة الدولية الأكبر مركزة على أصناف أخرى من الاعتداء على الطفولة (ولا ننفي ضرورة الاهتمام بها أيضا) مثل تجنيد الأطفال في النزاعات والحروب ولا سيما في القارة الافريقية، أو كمثال آخر تشغيل الأطفال في البلدان النامية، علما بأنّ هذه الظاهرة منتشرة في البلدان الصناعية أيضا بنسب أدنى قليلا، وميادين عمل أسوأ بكثير، ولا يجد ذلك اهتماما مماثلا.
والظاهرة الثانية أنّ كثيرا من المؤتمرات الدولية برعاية الأمم المتحدة وتوجيه القوى صاحبة النفوذ في الدول الصناعية، تنشر الداء بدلا من مكافحته، إذ لم تعد تطرح مشروعا من المشاريع إلا ويتضمّن تخصيص القسط الأعظم من الجهود والتمويل لإجراءات من شأنها تفكيك عرى الأسرة، بدلا من العمل على إحياء وجودها وتماسكها في الغرب من جديد وحمايتها من مزيد من التفكك والانهيار في البلدان النامية ولا سيما الإسلامية.
إنّ مأساة التشريد -وإن كان لها وجوه عديدة- فإن آثارها الأخطر والأشدّ إيلاما هي تلك التي تصيب الأطفال، وتضاعف في الوقت نفسه معاناة النساء في حياة التشريد أكثر من سواهنّ، وقد لا يستطيع الفرد أن يصنع لمواجهة المأساة أكثر من الدعاء وربما بعض التبرعات، ولكن لا ريب أنّ في مقدّمة الواجبات لمواجهة المأساة على المدى البعيد، ما يتمثّل في العمل الدائب على بناء مجتمع متماسك، لا تضيع القيم الإنسانية فيه، فضياعها هو في مقدمة ما يجعل العالم المعاصر ينقسم اليوم إلى فئات محدودة العدد تملك المأوى والطاقات المادية الكبرى وإن فقدت أسباب السعادة الحقيقية والاستقرار، وأخرى فقدت المأوى وأسباب السعادة والاستقرار على السواء، وبين هؤلاء وهؤلاء غالبية كبيرة من البشر، تعيش وكأنّه لا دور لها في الحياة البشرية تجاه الإنسان وكرامته وحقوقه الأصيلة، ولا تجاه جيل المستقبل من أبنائنا وبناتنا الذين نقول إنهم فلذات أكبادنا.
نبيل شبيب
موقع مداد القلم