مشهدان وثّقتهما عدسات التلفزة ونقلت ما رافقهما وتلاهما من تصريحات، كان بعضها مستفزّا حتى بلغ الغضب الشعبي في تشاد مبلغه. ووسط حمأة البحث عن الخلفيات السياسية المرتبطة بالحدث، وبتشاد، وبفرنسا، وبدارفور، يبدو الاهتمام بالأطفال أنفسهم وبمصيرهم ومصير أمثالهم غائبا أو مغيّبا إلى حدّ بعيد.

المشهد الأول للرئيس التشادي إدريس ديبي وهو يعلن إدانته لطاقم طائرة أسبانية وقائدها البلجيكي وأفراد من منظمة "آرش دو زويه" الفرنسية وصحفيين، ألقي القبض عليهم أثناء محاولة نقل 103 من أطفال تشاد ولاجئي دارفور، إلى أوروبا. وظهر داخل فرنسا أن جهات رسمية فيها كانت على علم بالعملية وقدّمت تسهيلات لها، بالإضافة إلى اتهامات سودانية موجّهة إلى منظمات دولية كمفوضية شؤون اللاجئين ومنظمة رعاية الطفولة، بالتستّر على أعمال المنظمة المشبوهة. وتبدو القرائن قوية لإدانة المنظمة المشبوهة، التي تتخذ من عنوان "منظمات المجتمع المدني" و"العمل الإنساني" ستارا لممارسة أنشطتها التي تصل إلى درجة استغلال الأطفال جنسيا والتجارة بالأعضاء البشرية، علاوة على "التجارة بالبشر"، وهو منا يشير إليه شروع عائلة فرنسية في مقاضاة المنظمة لاسترجاع مبلغ (2400) أويرو كانت قد سدّدتها لها "لشراء طفلٍ للتبني".
أما المشهد الثاني فهو ظهور الرئيس الفرنسي ساركوزي على مسرح ارتكاب الجريمة في تشاد، ومرافقته لمن أُفرج عنهم من المعتقلين، وما كاد يغادر تشاد حتى بدأت تصريحاته الفجّة بشأن بقية المتهمين تثير غضب التشاديين، بينما تركّز غضب بعض وسائل الإعلام الفرنسية على ساركوزي من زاوية أخرى لا علاقة لها بالأطفال الضحايا، فقد سلّطت الضوء على استغلاله القضيةَ ليظهر بمظهر "البطل المنقذ" للصحفيين الفرنسيين والمضيفات الأسبانيات -كما صنع من قبل في قضية أطفال ليبيا وممرضات بلغاريا- فزيارته الاستعراضية تمّت بعد أن وضح أمر الأفراد السبعة الذين أطلق سراحهم، وثبت عدمُ عضويتهم في المنظمة المتهمة بعملية الاختطاف، فكان إطلاق سراحهم منتظرا دون زيارة ساركوزي لتشاد أصلا!..
وطالب ساركوزي بمحاكمة باقي المتهمين في دولة أوروبية، وكان يتحدّث كما لو أنّ تشاد ما تزال مستعمرة فرنسية، والواقع أنّ الوجود العسكري الفرنسي في تشاد وإن كان بموافقة حكومتها، لا ينتهك سيادة تشاد فحسب، بل هو أيضا شكل آخر من أشكال الاستعمار، وإن أصبح يعتمد أساليب حديثة في الإخراج لتحقيق أغراضه القديمة القبيحة نفسها، وهنا يبدو الموقف الاستعراضي من جانب الرئيس التشادي في المشهد الأول مثيرا للريبة، لا سيما وسط الاعتماد على تشاد فيما يراد صنعه تحت عنوان مهمة دولية لمعالجة أزمة دارفور السودانية.
المشهد الأول يطرح ما لا يكاد يمكن تصديقه، أن يوجد من البشر من يصنع بالأطفال ما يصنع على هذا النحو، إنّما لا بدّ من تصديقه مع الإقرار بأنّه جزء من المشهد الأكبر في الغرب، القائم على تغييب مفعول العقيدة والقيم والأخلاق، لحساب غرائز شهوانية وكسب مادي، وهنا تظهر المشكلة ومدى تفرّعها، ويكفي مثالاً التنويه بأن "أبطال هذه الحادثة"، يتاجرون بأجساد بشرية من غير قومهم وبلدهم، ولكن في بلدهم ما هو أشدّ قسوة وإجراما، فالمصادر الرسمية تقول مثلا إنّ ما يناهز 95 في المائة من حالات الاعتداء الجنسي على الأطفال، تقع داخل نطاق العائلة، فبات الصغار والناشئة عرضة لجرائم الأكبر سنا من الأقارب.
والمشهد الثاني لا يُصدّق أيضا، لِما يكمن فيه من آثار سيطرة العنصرية على الفكر والسلوك، وهذا ما لا يقف عند حدود التعامل السياسي مع الضحايا من الأطفال.
من جهة بدأت التساؤلات بحقّ عن مواقف منظمات إنسانية وخيرية ومنظمات المجتمع المدني عموما في فرنسا وأسباب صمتها تجاه أنشطة منظمة مشبوهة وإساءتها لسمعة الجميع، وهو ما يعود على الأرجح إلى الخشية من تعرّض من يعترض أن يُدين إلى ضغوط سياسية وتقلّص حجم التبرعات الطوعية الفرنسية، كما سبق أن قيل عن صمت مشابه عند تعرّض جمعيات خيرية إسلامية للمحاصرة والتضييق.
ومن جهة أخرى لم يجد الحدث نفسه طريقه إلى وسائل الإعلام الغربية إلاّ هامشيا، ومن زاوية رئيسية هي متابعة مصير أعضاء المنظمة التي ارتكبت العملية وأعوانها، أمّا 103 من الأطفال الأفارقة، فلا يستحقون اهتماما إعلاميا ولا إحساسا بالمسؤولية السياسية، هذا مع التأكيد أنّ هذه العملية قد انكشف أمرها فلفتت الأنظار نسبيا، ولكن يوجد مثلها الكثير ممّا لا ينكشف أمره، ولا تكاد تُبذل جهود حقيقية للحيلولة دون وقوعه، فالقضية قضية ما لا يُحصى من الأطفال، والناشئة، والنساء، من إفريقية وجنوب شرق آسيا في الدرجة الأولى، هم ضحايا التجارة بالبشر، وضحايا المسؤولين السياسيين الذين يظهرون في "أوج نشاطهم" عندما يتعلّق الأمر بتخليص مواطني بلادهم، من قبضة العدالة في أي مكان من العالم.

نبيل شبيب

 

JoomShaper