بقلم : أمية جحا

أَمسكَ بيدي بقوة وسالت دمعة على خده - وكنت طَوال عهدي بزوجي الذي قارب الأربع سنوات لم أره يذرف دمعة واحدة إلا مرتين: الأولى عندما استُشهد أخوه الصغير محمد قبل عام ونصف تقريباً، والثانية عندما أخذ يسرد لي أسماء من استُشهد من رفاقه في الحرب على غزة وأسماء من سبقوه من رفاق قبل الحرب، وقال: لقد اشتقت للرباط يا أمية وفي الصفوف الأمامية كما كنت دوماً..

- قلت له: لا شك ستعود قريباً يا حبيبي وتقاتل الأعداء بسلاحك... وستلقى الله شهيداً بعد عمر طويل وحُسْن عملٍ بإذن الله؛ فأنا ما ارتضيتُ أن أتزوج إلاّ رجلاً مجاهداً في سبيل الله.
- قال بصوت ضعيف: ماذا سترسمين غداً؟ قلت: الأخبار تتحدث عن عودة جولات الحوار والمصالحة الوطنية في القاهرة. صمت... وشدّ على يدي... وأغمض عينيه ونام.
- دقائق معدودة وفتح ممرض باب الغرفة وقال: موعد الإبرة.
- فتح وائل عينيه، ورسم ابتسامة على شفتيه وقال للممرض: ألا يوجد إبرة بطعم الدجاج؟
- ضحك الممرض وقال وهو يمسح موضع الحقنة: إن شاء الله تشفى قريباً وتعود لتأكل كل أصناف الطعام. غادر الممرض الغرفة وأقفل الباب.
- قال وائل: ماذا حدث بموضوع السفر للعلاج في الخارج؟
- قلت: الإجراءات من الجانب الفلسطيني تمّت... ولم يبق سوى معبر رفح.
- ضحك متوجِّعاً: أليس هو المعبر ذاته الذي أقفل في وجهنا قبل عام ونصف وأبقانا عالقين في مصر حوالي تسعة أشهر؟!!
- ضحكتُ بمرارة وقلت: بلى.. هو ذاته!
- ثم قال بحزن: رسمتِ كثيراً عن معبر رفح, ومعاناة المرضى والمحاصرين والعالقين... ولم يدُر في خلَدك يوماً أن ينضم زوجك إلى قافلة المرضى الذين ينتظرون فتح المعبر!!!
- قلت: الحمد لله رب العالمين في السرّاء والضَّراء... قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
- صمت من جديد... وأخذ يتحسّس مكان الجرح الغائر في بطنه... ثم قال: ليتها كانت رصاصة صوّبها نحوي صهيوني وأنا أقاتل. ثم أغمض عينيه... ولكن ليس لينام هذه المرة! بل كان يجاهد, ليمنع الدموع أن تسيل! كنت أرى عراك جفنيه وارتعاشة أهدابه. بينما لم يقوَ جَفناي أن يصُدّا سيل الدموع الجارف.
كنتُ أبكي بصمت... وأنتحب بلا صوت.
- قال وهو لا يزال مغمض العينين: كلها ابتلاءات من الله يا أمية... وعسانا نكون من الصابرين والمأجورين.
ثم أمسك بيدي وشدّ عليها بقوة، ثم نام... كان متعباً جداً... وكنت حريصة على أن يحظى بقسط من النوم والراحة... وكنت أوقن بأن قُبلتي التي طبعتها على جبينه عندما هَمَمْت بالخروج من المشفى لن توقظه...
آثرتُ أن أمشي...
شوارع عدة مررت بها... كانت خطواتي سريعة بسرعة دقات قلبي الموجوع لحال زوجي.
كنت أبكي بحرقة، وكادت الدموع تُخفي عني معالم الطريق... لم يكن يهمّني مَن أنا ومن أكون... ولم يكن يهمّني إن كانت عيون المارة ترمقني... كل ما كان يهمني ولا يزال... أنّني زوجة... لا تريد أن تفقد زوجها بسبب الحصار! أليس فتح الطرق والمعابر وإنهاء الحصار وإعادة حقّنا في العيش بحرية وكرامة وحقّنا في السفر والتنقل... وحقّنا في العلاج... وحقّنا في التعليم... أَوْلى من فتح الطرق والمعابر لجولات حوار... ثَبت أنها لا تَشفي مِن سُقْم ولا تُسمن مِن جُوع؟!

- هذه مقالة كتبتها رسامة الكاريكاتير المعروفة الأخت أمية جُحا وزوجها على فراش المرض، وهو القائد القسامي المهندس وائل عبد القادر عقيلان (32 عاماً)، الذي استُشهد - بعد هذه المقالة بأيام قليلة - مساء الأحد في 8 جمادى الأولى 1430 = 3 أيار 2009، إثر صراع دامَ لأسابيع مع مرض عضال، أُصيب به بعد معركة غزة، وقد مُنع من السفر للخارج عبر معبر رفح بسبب الحصار الظالم المفروض على أهلنا في قطاع غزة الحبيب، فمضى إلى ربه بعد حياة حافلة بالعطاء والجهاد والتضحية والعمل في سبيل الله.
***

هذا وقد كتبت الدكتورة ديمة طهبوب (عمّان - الأردن) رسالة أخوة ومواساة للأخت أمية، جاء فيها:
سلام يا زوجة الشهيدين
أيا أُمَيَّتَنا:
قليلة هي ألقاب ومنازل الشرف التي تفاخر بها النساء في تاريخ أمة الإسلام، فما كمُل من النساء إلا ثلة قليلة بثبات إيمانهن في وجه الطغيان والفتن في مثال مريم ابنة عمران وآسيا امرأة فرعون، ووراثة الرسالة النبوية في مثال خديجة وفاطمة ابنة المصطفى صلى الله عليه وسلّم وزوج الإمام عليّ رضي الله عنه، وكم ضربنا مثلاً في الصبر والجلَد والإيمان، أمثلة بعيدة مثالية كنا نحفظ سيرتها ونذكرها في معرض الفخر والانتساب، والبعد بيننا وبينها كما بين الأرض والسماء.
أسماء بنت عميس زوجة جعفر بن أبي طالب، وأبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، والرسول صلى الله عليه وسلّم كان يوصيها بعد حبيبها الأول: «يا أسماء لا تقولي هُجراً ولا تضربي صدراً، يا أسماء هذا جعفر قد مرّ مع جبريل وميكائيل وعوّضه الله عن يديه جناحين يطير بهما حيث يشاء»، ثم يأتي الإكرام والجبر في أبي بكر، في {ثاني اثنين إذ هما في الغار}، لتعيش بنفسها ظلالَ {لا تحزن إن الله معنا}، ثم تغسله صابرة محتسبة مثنية عليه وعلى جعفر، إذ قالت: «ما رأيتُ شاباً خيراً من جعفر، ولا كهلاً خيراً من أبي بكر»، لتكمل مسيرة الجهاد مع عليّ بن أبي طالب الذي أصبح يفخر بها ويقول: «كذّبتكم من النساء: الخارقة، فما ثبت منهن امرأة إلا أسماء بنت عميس».
صحابة ثلاثة، سابقون ثلاثة، مبشرون ثلاثة، شفاعات ثلاث، جنان لا تُعد ولا تحصى، كلهم وكلها لامرأة واحدة... أسماء بنت عميس.
كانت رمزاً بعيد المنال، وأصبحتِ يا أمية واقعاً يعيد المثال...
أتعرفين يا أمية ماذا يحصل عندما يبكي الرجال؟
عندما يبكي الرجال ألماً وحسرة على جسد ضعُف عن الجهاد في سبيل الله، تلملم النساء حسرة القلب وتلتحم بالحب الأكبر في خندق البندقية.
عندما يبكي وائل تكفكف أمية الدموع وتمسح الحزن وتزرع الأمل حتى آخر لحظة.
عندما يُستشهد وائل تقوم أمية لتُحيي غزة وتُحيينا أملاً وصموداً وجهاداً.
شهيدان وشفاعتان والمرأة واحدة: أمية جحا.
سلام عليك يا أسماءنا، سلام على دموعك وحرقة قلبك، سلام على شموخك ورفعة رأسك، سلام على رامي ووائل، سلام على «نورك»، سلام عليك يا زوجة الشهيدين، سلام عليك وألف سلام.
سـلام عـلـى قلـب تَـعنّـى             فأزهر رغم مُرّ الحال وردا
سلام على قلب تـرجل بالمعاني     فسطر في رياض النفس سِفرا
فَـدَيْتـــك إن قضــــى ربــي بــأمــر     فليس يضيق بالأقدار صدرا
أختك ديمة طارق طهبوب

 

 

منقول عن موقع رابطة العلماء

JoomShaper