د. أيمن أسعد عبده
لنتأمل معظم الإبداعات التي انبهرت بها البشرية على مر العصور، لنتأمل مثلا أجمل اللوحات التي أبدعتها أنامل أروع رسامي العالم، لنقرأ أجمل الروايات التي كتبت في عالم الأدب، لنراجع أفضل الاختراعات العلمية التي نستظل بعبقريتها كل يوم، لنتابع حتى أجمل أهداف الكرة التي سجلها أفضل لاعبو العالم، ستجد خيطا خفيا واحدا نسج جميع هذه الإبداعات، إنها الحرية في الأداء.
الحرية الفكرية وفتح المجال واسعا للتجربة والتعلم والتطوير والإبداع والاختراع هو الشرط الذي لا يمكن أن يكون هناك إبداع حقيقي بدونه. الحرية في التفكير والتأمل والتجربة وتحدي السائد. لا أكاد أحصي المواقف التي مرت بي شخصيا والتي ظننت فيها أنني أستطيع أن أنجز عملا بطريقة كنت أظنها أفضل الطرق ثم جاء من فعل ذلك بطريقة أفضل وأروع وأبدع مما كنت أتخيل، وكم مرة أرى أمامي مهمات ووظائف أعلم يقينا أنني أستطيع أن أوديها أفضل مما تؤدى به الآن من غيري، وكم من المهام والأعمال التي أديتها وأنا أعلم علم اليقين أنني أستطيع أن أؤديها بشكل أفضل لو كان الخيار لي في أن أستخدم طريقة أخرى أو أسلوبا جديدا.
ولكن ومع بالغ الأسف، لا تزال الكثير من مؤسساتنا العامة والخاصة عبارة عن محاضر توقيع وانصراف، وسجلات إثبات حضور، وأنظمة تفرض على الموظفين تقتل الإبداع وتجمد العقول.
ومن أبرز مجالات فتح باب الحرية للموظف في المؤسسة أو العامل في الشركة أو الابن والابنة في البيت أو مع أي أحد كان هو التفويض. ولكن التفويض لا يعني رمي الحمل أو قذف المسؤولية على الآخرين مع إلزامهم بكل تفاصيل طريقتنا في التفكير وحرفيات أسلوبنا في العمل. ليس من التفويض أن تطلب من الموظف أو العامل أو أحد أفراد الأسرة عمل مهمة ما وأنت لم تعطه أي مجال للإبداع في أدائها ولم تتح له الفرصة لعملها بطريقة مختلفة. التفويض الصحيح له عناصر كثيرة، من أهمها:
1. أن تفوّض الشخص في طريقة الوصول للهدف. أنت واجبك أن تحدد الهدف بوضوح وتحدد مواصفاته بشكل محدد ثم تترك للشخص المجال للاجتهاد في طريقة الوصول لهذا الهدف. كل المبدعين الذين ذكرنا أمثلة لهم أعلاه لم يلزمهم أحد بالشكل النهائي للهدف وطريقة الوصول إليه. طلب الناس من الفنان لوحة رائعة تعبر عن مشاعر الملايين وطلب الوسط الأدبي من الروائي قصة تحس به وتوثق تحولاته وطلب الفريق من اللاعب هدفا يحرك قلوب الناس قبل الشباك، ولكن أحدا لم يفرض على أي منهم تفاصيل الطريقة التي توصل إلى هذا الهدف وإلا قتل إبداعه ودافعه الذاتي.
2. أن تترك المجال للشخص في اختيار الوقت الذي يقوم به بهذا العمل طالما أنه التزم بتاريخ التسليم. هناك أشخاص يفضلون العمل مساء وآخرون صباحا وهكذا. تشير الكثير من الدراسات إلى أن العديد من الشركات الأمريكية تحرص على أن 30 في المائة من الموظفين (خاصة الذين يعطون مسؤوليات تحتاج إلى إبداع) لا يكون لهم أي ساعات دوام رسمية، وإنما يعملون في أي وقت ويوم يشاؤون؛ بشرط أن ينجزوا الأعمال بجودة معينة وفي وقت محدد. كما وجدت بعض شركات خدمة العملاء على الهاتف أن أفضل الموظفين أداء وأكثرهم قدرة على الاستجابة لطلبات العميل هم الموظفون الذين يعملون من منازلهم وليس الذين يعملون في المكتب. طبعا الموظفون الذين يواجهون الناس ويعملون في عمل ميداني لا بد من أن يكون لهم دوام محدد، ولا بد أن يلزموا به ويراقبوا عليه ويعاقبوا لو قصروا في الحضور أو الانصراف، لكننا نتحدث هنا عن الموظفين الذين ليس لهم ارتباط مباشر بالجمهور ولديهم أعمال ومشاريع محددة واضحة النتيجة أو الذين يكلفون بحل مشكلات أو القيام بأعمال إبداعية.
3. أن تترك المجال للشخص أن يختار الفريق الذي يعمل معه. وقد عمدت الآن عدد من الشركات الكندية مثلا إلى إناطة مسؤولية تعيين الموظفين إلى نفس موظفي القسم بحيث يختار نفس موظفي القسم الموظفين الجدد الذين سيعملون معهم من غير تدخل من الإدارة مطلقا.
4. أن تقدم الدعم اللازم والإمكانيات الأساسية لإنجاز العمل. فليس من التفويض أن تطلب من شخص ما عمل مهمة ثم تحرمه من أبسط الأساسيات التي يحتاجها لإنجاز المهمة مثل المعلومات اللازمة أو الأسباب المادية والبشرية الضرورية لتحقيقها.
5. أن تكون متواجدا في حالة حاجة المفوض لك وأن توضح له الوقت والشيء الذي ينبغي له أن يخبرك به في حينه والشيء الذي لا تحتاج أن تعرف عنه بالضرورة.
في شركة أتلاسيان العالمية، عمد مؤسسو الشركة منذ إنشائها إلى إعطاء يوم في الأسبوع لجميع الموظفين يسمى اليوم الحر. في هذا اليوم يتاح لجميع الموظفين العمل في أي شيء أو حل أي مشكلة أو دراسة أي قضية حتى ولو لم تكن من اختصاص قسمهم أو من مجالهم المهني أو تكون مطلوبة منهم أصلا بشرط أن تخدم الشركة في النهاية. هذا اليوم حر تماما وليس عليه أي قيود وقتية أو مكانية ولكن على الموظف أن يبين الشيء الذي قضى فيه هذا اليوم وماذا كانت ثمرته. وقد أثبتت هذه الطريقة نتائج مذهلة أدت إلى نمو الشركة من شركة صغيرة اضطر منشئوها إلى اقتراض عشرة آلاف دولار لإنشائها إلى واحدة من كبرى شركات الكمبيوتر في العالم. والقصص والوقائع في أمثال هذه القصص أكثر من أن تحصى. وغني عن الذكر هنا أننا لا نعني بهذا الكلام التشجيع على التفلت والفوضى وترك ساعات العمل الرسمي (فحتى هؤلاء الغربيين مثلا هم من أكثر الناس التزاما بساعات العمل ومهنيته)، وإنما نعني إعطاء مجال حرية ضمن أنظمة العمل وضمن القواعد العامة وضمن ثوابت المجتمع للعمل بحرية وتحرر، وسنكتشف أنه حتى في بيئات عمل قليلة المرونة مثل بيئتنا وحتى داخل منظومتنا الإدارية المقيدة فالدائرة أوسع بكثير مما كنا نظن، فما بالك لو حاولنا توسيع الدائرة أكثر.
هذا الكائن البشري يعمل في أفضل حالاته عندما يتحرر من العقد والضغوط والقيود وعندما تتاح له الفرصة للعمل في جو مشجع محفز حر ضمن خطوط العمل العامة وضمن الهدف العام للمؤسسة والقطاع.
في المرة القادمة التي تفوض موظفا أو عاملا أو صديقا أو ابنا أو بنتا أو قريبا أو أي أحد كان بمهمة ما، تذكّر وضّح له النتيجة النهائية التي تريد واترك له الحرية في اختيار الطريقة، الزمان، المكان، الأشخاص، وجميع التفاصيل الأخرى. مهمتك أنت أن تساعده إذا احتاج وتوفر له الضروريات.
قبل سنوات حضرت دورة في كندا في الإدارة، وقال لنا المدرب العالمي الشهير في أول خمس دقائق من الدورة: "أنتم لا تحتاجون إلى دورة في الإدارة، الإدارة باختصار: ابحث عن الأشخاص المناسبين للعمل، ضعهم في المكان المناسب، وفر لهم ما يحتاجون، حفزهم وشجعهم باستمرار، ثم ابعد عن طريقهم! هذه هي الإدارة".
فوّض .. بذكاء
- التفاصيل