لطالما ترددت عبارةٌ على أسماعي تقول: كيف تعيشين بلا أم؟! كنت أسمع الكلام وأبتسم ابتسامةً باردة لا تُظهر أي تأثر أو اهتمام، ومن ثمَّ أضيف للسائل أو السائلة: "أعيش كغيري من البشر والحمد لله".
لطالما أقنعت نفسي أنه لا أهمية لوجود أمٍّ في حياة الفتاة، بل على العكس كنت أنظر إلى حقيقة أن تكون أمي بعيدة عني على أنه أمر ذو إيجابية، متناسية السلبيات الكثيرة والعوائق المتعددة، والإحساسات المتخبطة والمتضاربة التي قد تشعر بها فتاة تعيش بلا أمّ!
أن تعيشي بلا أم يعني أن تكتشفي بعد سنين كثيرة -خاصة قي سنِّ الصبا- أهمية الأم وأثر الأم في حياتكِ.
أن تعيشي بلا أم يعني ألاّ تشعري بالحنان والعطف عندما تكونين بأمسِّ الحاجة لتلك الجرعة اللازمة لتخفيف آلام الحياة.
أن تعيشي بلا أم يعني ألاّ تُدركي طعم الاستشارة، وألا تجدي من يجيبك عن كثير من الأسئلة التي تقذفها حياتكِ اليومية في مخيلتك وعقلكِ. فتبدئين مسيرة حياةٍ صعبةٍ، خاصة على الصعيد النفسي. ففي حين تحتاجين لمن يصوِّبُ أفعالكِ ويراقب حركاتك وسكناتك، ويقوِّم اعوجاج تفكيرك، تجدين نفسكِ وحدكِ في خضمِّ ما يجول ببالك، ويتطور في نفسك، وحول ما تسمعينه من هنا وهناك.
أن تعيشي بلا أم يعني أن تتعلمي -ومنذ نعومة أظفارك ورقّة عودك وضعف خبرتك- معنى المسؤوليّة والجديّة.
أن تعيشي بلا أم يعني أن تدركي عِظَمَ نعمةٍ "أنْ يكونَ لك أم"، تربِّت على كتفكِ عند الضيق، وتغمرك بحبها وحنانها في الحزن والألم، وتقف إلى جانبك في أول إنجازٍ لكِ في الحياة، وفي كل خطوةٍ تخطينها على سلَّم النجاح.
فمن المحزن ألا تجدي تلك الأنثى الحنون حولكِ، فمن سيشجعكِ على النجاح؟!
ومن سيؤازرك في الشدة؟!
ومن سينصحك في الأزمة؟ ومن سيعينك على سلوك طريق الحق والهدى؟ ومَن سيمنعكِ عن رفيقات السوء والباطل؟!
هل تعلمين أنك إذا استشعرت نعمة وجود أمكِ إلى جانبك لكفتك هذه النعمة من الله عز وجل؟
• • • •
من الصعب أن تعيشي وحدكِ بلا أمٍّ: نعم.
ومن الصعب أن تربّي نفسك على الخير: نعم.
ولكن أصعب من هذا وذاك أن تعلمي أن أمّكِ هناك لم تمُتْ بل حيةٌ مع الأحياء، تُمارس حياتها بهدوءٍ وسكينة وراحة، ولكنها بعيدةٌ كل البعد عنك، بُعداً جسدياً وروحياً ونفسياً وفكريّاً.
بعيدةٌ هي؛ لأنها مشيئة الله، ولأنَّ الله وضعك في محنة قد تنقلب إلى منحة. قد تسألين كيف تنقلب هذه المحنة -وما أصعبها من محنة- إلى منحة؟!
أجيبك بأنَّ حقيقة أن تعيشي بلا أم يعني أن تخرجي للعالم بحلّة مختلفة، وأن يكون هذا العالمُ في ناظريكِ بعيداً كل البعد عن السطحية التي قد تعانيها غيركِ من الفتيات؛ فتبدئين في اكتشاف هذا العالم وحدكِ، فتكونين ممن يريد أن ينجو بنفسه من أسى قد عايشه، أو من حيرة انتابته.
ويعني أيضاً أن تعيشي سناً أكبر من سنِّك، وهذا كثيراً ما يميزك عن غيركِ.
فقد كنتِ صغيرةً عندما تعودت المحنة، وهذه المحنة لا بد وأنها روّضت نفسكِ البشرية على المحن، فجهزتك لخوض الصعاب، فأعددتِ عُدّتَكِ وتحصَّنت بحصونٍ تحميكِ وتذبُّ عنكِ الرّدى، فانقلبت إلى منحةٍ عظيمة.
• • • •
هذه رسالتي لكِ يا من تعيشين بلا أم.
أما رسالتي لكِ يا من منَّ الله عليكِ بأمٍّ حنون، فأن تَبرّيها وتُحسني إليها، وأن تقفي عند إرضائها وخدمتها، وملاطفتها بالكلام الكريم الطيّب؛ مهما كَبِرْتِ في السنّ، ومهما بلغتِ من العلم، ومهما تبوأتِ من المراكز العالية في مجتمعكِ، فمردُّها إلى توفيق الله عزّ وجلّ لكِ، ثم مردُّها إلى دعاءِ أمُّكِ لك الصاعد إلى الله جلّ وعلا، الذي لا يردُّ سائلاً صادقاً.
كوني وفيّة لمن حملتكِ ثمّ وضعتكِ ثمّ ربّتكِ وأنشأتكِ نشأةً صالحة...
كوني لها عوناً على مشاقِّ الحياة، ظهراً وسنداً...
كوني لها زاداً لمسيرها تستزيدُ به من العطف والحبِّ والرحمة...
كوني لها سبيلاً تسلكه نحو الجنة... بتُقاكِ وإيمانكِ، وبحجابكِ وعفّتُك... كوني لها كذلك يرضى الله عنك سبحانه وتعالى... اللهم اجعلنا بارّين بآبائنا وأمّهاتنا أبداً ما حَيينا...
ريما حلواني
موقع رابطة علماء سورية المستقبل