“الذوبان الزوجي” تعبير دقيق عن حالة قد يعيشها العديد من الأزواج أو الزوجات ولها آثار سلبية على الحياة الزوجية واستقرارها..
والذوبان الزوجي هو ذوبان أحد الزوجين في الآخر وبذلك يتم إلغاءه وتهميشه وعدم السماح له بالمشاركة الفعلية في اتّخاذ القرارات أو حتى إبداء الرأي فيتحوَّل بذلك إلى “أداة” تتحرك وِفقَ رغبة الشريك دون أدنى تعبير أو إثبات للوجود..والذوبان يكون للرجل كما للمرأة.. وفي مجتمعاتنا الشرقية فإنّ ذوبان المرأة يكون بنسبة أكبر نتيجة التربية والمفاهيم المنتشرة.. فللرجل القوامة وعلى المرأة الطاعة!..
وعلى الرغم من فداحة هذا الأمر في كلتا الحالتين إلا أن ذوبان الرجل في المرأة مرفوض أكثر ولا يمكن تقبّله ويجعل الرجل محط استهزاء وسخرية.. فلا يستسيغ المرء رؤية رجل ضعيف خاضع للزوجة أو لغيرها فصورة الرجل التي تشكّلت في أذهان الناس أنه قوي قادر على حماية العائلة واتخاذ القرارات فتشويه صورة الرجل بالذوبان تقزِّم هذه المعاني للرجولة..
وقد فرَّق المهتمون بأمور الأسرة بين الذوبان “الكلّي” والذوبان “الجزئي”.. ففي حين ذمّوا الذوبان الكلي إلا أنهم وجدوا أنه في بعض الأحيان لا بد أن يمارس أحد الطرفين الذوبان “الجزئي” للحفاظ على الأسرة.. وعادة ما تلجأ الزوجة إلى هذا الأسلوب لتجنّب الاصطدام مع الزوج خاصة إن كان غير متفهِّم ولا يراعي الحوار والتقدير والشورى الواجب احترامهم كأسس للعلاقة الزوجية..
وقد نجد بعض النساء اللواتي تربّين على أن الرجل هو السيد الآمر يتقبّلن فكرة الذوبان الكلي ويجدنه طبيعياً ودليل عافية للأسرة.. وتبقى المشكلة مع النساء اللواتي استقلّين وتعبن على تعليم وتثقيف أنفسهنّ فهؤلاء لا يمكنهنّ تصور وجودهنّ زوجات يتحركنَ كدمى في يد الرجل.. على الرغم من تقبّلهنّ ربما لفكرة القوامة ولكن بمفهومها السليم وليس التقليدي..
وفئة أُخرى تدفعها الحب والعشرة الطيّبة بينها وبين الزوج إلى قبول الذوبان الجزئي نتيجة مكنون العواطف تجاه الشريك..
أما عن الأسباب المؤدّية إلى الذوبان الزوجي فهي:
o المواريث الخاطئة المكتسبة في مفاهيم الطاعة والقوامة والرجولة
o القصور في فهم عوامل استقرار الأسرة
o تقليد الآباء والأمّهات في مسار الحياة الزوجية
وأسباب خاصة بالشخص المُذَاب:
o الشخصية الضعيفة غير القادرة على اتخاذ القرارات
o ضعف الثقة بالنفس والشعور بالدونيّة
o الحب الكبير المؤدّي إلى الخضوع التام
وأسباب خاصة بالشخص المُذِيب:
o محاولة إخفاء النقص في الشخصيّة بالسيطرة
o الشعور باللذة والارتياح نتيجة إحكام الأمور في قبضة اليد
o الغيرة من إمكانيات الطرف الآخر والخوف من التسلط
o الخوف من بروز وتفوّق الطرف الآخر فيكون الطمس
أما عن مظاهر الذوبان الزوجي فمنها:
o إلغاء الطرف الآخر
o تجاهل آراءه ووجوده وعدم اعتباره
o عدم استشارته في أي أمر حتى لو كان يخصّه
o عدم إشراكه في أمور البيت والأولاد
o عدم تشجيعه على تطوير نفسه ولا دعمه معنوياً
وبالحديث عن نتائج الذوبان الزوجي..
* كبت مزمن
* طلاق صامت، فعلي أو عاطفي
* إحباط ويأس
* تبلّد وسلبيّة
* فقدان الأمان
والذوبان الزوجي لا شك أمر خطير في الزواج إذ أن الزواج في الأصل هو شراكة حياة بين الزوج والزوجة وليست شراكة بيت فقط.. فالزوج والزوجة يكملان بعضهما البعض ويتعاونان على خدمة هذه العائلة.. ولكلٍّ مسؤولياته التي يرعاها وحاجاته التي يجب توفيرها وإلا اهتزّت أعمدة الاستقرار في العائلة وانتهت إن لطلاق فعلي أو لطلاق صامت.. فهذه “المؤسّسة” التي يديرها الزوجان لا يمكن أن تزدهر وتستمر “رابحة” إلا إن توفّرت مقوّمات النجاح لها وأساسها شعور الزوجين أنها شراكة فعليّة بينهما ولكلٍّ منهما دوره ووجوده.. وقد قال الحبيب عليه الصلاة والسلام: “كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ “..
وتتلخّص مقومات نجاح الشراكة بالآتي:
- صياغة دستور مشترك يحدِّد وظائف وأدوار كلٍّ منهما بشكل واضح
- التعاون في حل المشكلات الأُسرية
- التشاور في كل أمور العائلة وأدق التفاصيل فيها
- أخذ الرأي حتى في الأمور اليوميّة
- الإتّفاق على كيفيّة تربية الأولاد والإنجاب وغيرها من الأمور المصيريّة
- التقريب في وجهات النظر في حال الخلاف
- وضع دستور في بداية الحياة الزوجيّة عن كيفيّة التعاطي مع بعضهما البعض
- المشاركة في وضع الأهداف الاستراتيجيّة والتكتيكيّة للعائلة
- الحرص على احترام أفكار الطرف الآخر والاهتمام بوجهة نظره
وفي استبيانٍ وُزِّع على عيّنةٍ عشوائية تشمل مئتي زوج ومئتي زوجة ونشرت نتائجه مجلة “أُسْرتي” تبيَّن أن هناك أولويات مشتركة بينهما كزوجين ولعلّ أهمها كان: “الاحترام المتبادل الشامل”.. وانعدام الاحترام لا يتمثَّل فقط بالضرب والشتيمة والسباب بل إن مجرّد التجاهل وعدم أخذ الرأي والمشاركة بالقرار وتسفيه الأعمال والأقوال هو أشد مظاهر فقدان الاحترام الذي يؤذي معنوياً إلى درجة كبيرة ويحدِث تباعداً بين الزوجين فتنتفي روح المودّة والرحمة والسكينة وهي ركائز الزواج الأساسيّة كما جاء في القرآن الكريم حيث قال الله جل وعلا “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون”.
يقول الدكتور مأمون مبيض: “… إنّ المشاركة في السلطة ليس خسارة لأحد الطرفين وإنّما دعم وقوة للمجموع. وقد أصبح الأصل في العلاقة الزوجيّة التكافؤ والصداقة والاحترام، وعلى كل طرف ليس فقط تجنّب ما يزعج الآخر، وإنما أن يسعى أيضاً للقيام بما ينفع الشريك الآخر، إنهما معاً على أرض واحدة، كشريكين مسؤولَيْن متعاونَيْن في إتجاه واحد…”
ويضيف: “وعلينا أن نضع نصب أعيننا أن الزوج ليس ندًا أو عدواً أو منافساً يجب أن نواجهه ونتحداه، وأن الحياة الزوجيّة ليست معركة علينا أن نخوض غمارها وننتصر فيها. ولا بد لنا أن نقف عند نقطة هامة وجوهريّة ونَعي أنّه ليس المهم مَن بيده سلطة اتخاذ القرار بقدر ما هو مهم أن يكون القرار المتَّخَذ والمعمول به قراراً سليماً وفي صالح الحياة الزوجيّة.”
الطاعة والقوامة..
جعل الله جل وعلا للأسرة رئيساً واحداً وأعطاه القوامة فقال عز وجل “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ” .. ولكن هذه القوامة ليست تسلطاً ولا دكتاتورية ولا تحقير وإنما تهذيب ورعاية.. وهو تكليف وليس تشريف للرجل.. وقد أعجبني توصيف للقوامة كتبته الدكتورة فاطمة نصيف حيث قالت: “والقوامة لا تلغي المساواة، وإنَّما هي مساواة الشقين المتمايزين، لا النّدين المتماثلين، فيكون معناها التكامل لا التنافر”
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسيره: “أي: قوَّامون عليهن بإلزامهنّ حقوق الله تعالى، من المحافظة على فرائضه، وكفهنّ عن المفاسد، والرجال عليهم أن يلزموهم بذلك، وقوَّامون عليهنّ يضاً، بالإنفاق عليهنّ، والكسوة، والمسكن”
ويستفيض سيد قطب رحمه الله تعالى في هذه النقطة فيقول: “ينبغي أن نقول: إنَّ هذه القوامة ليس من شأنها إلغاء شخصية المرأة في البيت ولا في المجتمع الإنساني، ولا إلغاء وضعها المدني. وإنَّما هي وظيفة داخل كيان الأسرة لإدارة هذه المؤسسة الخطيرة، وصيانتها وحمايتها، ووجود القَيِّم في مؤسسة ما لا يلغي وجود ولا شخصية ولا حقوق الشركاء فيها، والعاملين في وظائفها، فقد حدَّد الإسلام في مواضع أخرى صفة قوامة الرجل وما يصاحبها من عطف ورعاية وصيانة وحماية، وتكاليف في نفسه وماله، وآداب في سلوكه مع زوجه وعياله”.
وفي المقابل فإنّ طاعة المرأة لزوجها واجب عليها وقد قال الحبيب عليه الصلاة والسلام “إذا صلّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصّنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت” فغنما هو جنّتها ونارها..
ولكن.. هذه الطاعة التي يجب أن تكون في معروف هي ليست اتّباع أعمى وانعدام لشخصية المرأة.. وإنّما فرضها الله تعالى على المرأة لضمان استقرار الأسرة ولمصلحة جميع أفرادها فحين تطيع المراة زوجها ويستشعر زوجها منها هذه الطاعة النابعة من قلبٍ راضٍ ومُحِب فهذا سيورِث الأسرة من السعادة والاستقرار ما يقرِّب بين أفرادها..
نقطة على حرف
مهما عظُمَ إدراك ووعي وانشغال الرجل فلن يصل إلى ما وصل إليه الحبيب صلى الله عليه وسلّم.. فلا يحتَجنَّ أحدٌ من الرجال أنه من العظمة بمكان تؤهّله لإلغاء زوجته.. بل إني أراها منقصة فيه أن لا يعرف كيف يحتوي زوجته ويحترم آراءها وطروحاتها حتى لو لم تكن بالمستوى المطلوب..
فهذا الحبيب عليه الصلاة والسلام وقد كان مشغولاً بإدارة أمّة بأسرها ونشر تعاليم الدين في مجتمع جاهلي إلا أنه لم يتوانَ عن أخذ مشورة نسائه ومشاركتهنّ الآراء والمسؤولية ليس فقط في أمور البيت بل فيما يخصّ أمور الأمّة جمعاء! فكان يفضي إلى أهله بما يستره عن غيرهم.. وفي أمور العامّة! وخاصة أمّنا عائشة رضي الله تعالى عنها إذ كانت موطن سرّه..
وأضرب في هذا السياق أمثلة لو تعمّق الأزواج فيها لعرفوا عظمة هذا الإسلام الذي رفع من قيمة المرأة وجعلها شريكة للرجل وليست تبعاً له وترجم هذه المعاني الراقية على أفضل وجه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لنقتدي..
فهذه أمّنا خديجة يلتجئ إليها الحبيب ويشركها فيما أهمّه حين نزل عليه الوحي فخشي على نفسه.. فآزرته وزمّلته..
وهذه أمّ سلمة يدخل عليها الحبيب عليه الصلاة والسلام ويطلب مساعدتها يوم الحديبية فتشير عليه بحكمتها أن يخرج لينحر ويحلق فيتبعه أصحابه وهكذا كان.. وفرَّجت أزمة الحبيب عليه الصلاة والسلام الذي أعطى بدوره صورة مشرقة عن احترام وتقدير رأي الزوجة.. وقد استشار زوجاته أيضاً في أمر تسريحهنّ أو بقائهنّ معه.. وغيرها الكثير من المواقف التي لا حصر لها..
همسة إلى الرجل..
إنّ الدِّين القويم هو أحقّ بالإتّباع من عاداتٍ محكَمَة.. فادرس معاني القوامة والسلطة ورئاسة الأسرة من منطلقٍ شرعيّ وليس من مفاهيم ورثتها عن أهلك.. فالقوامة لا يعني تكبيل المرأة وتسييرها على هواك وهي ليست سلطة مطلقة لك على أمَةٍ عندك تتصرف كيف تشاء دون حسيب أو رقيب! وكفى بالله حسيبا! بل هي التزام وقيام بشؤون الأسرة والإنفاق عليها!..
والمرأة - خاصة إن كانت متعلمة ومثقفة ومُنتِجة - تستحق المشاركة في القرار.. ولكَ في الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة.. وهو يقول: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله” وقال أيضاً “استوصوا بالنساء خيراً”.. فاتّبِع!
وأُخرى إلى المرأة..
قد تشعرين أن زوجك لا يتمتّع بمقوِّمات تؤهِّله ليكون قوّاماً عليكِ.. إيّاكِ أن تُشعريه بذلك.. واستخدمي ذكاءكِ لتديري دفّة القيادة من دون إهانة ولا سيطرة ولا سخرية.. حاوريه واطرحي ما ترغبين بطريقة ذكية دون الإكثار من النصح وادفعيه إلى أن يأخذ برأيك دون إصرار منك.. تقرّبي منه وتتبّعي حسناته وأبدي له الإعجاب والاحترام.. اتّقي الله جلّ وعلا فيه وادعيه سبحانه أن يعينكِ على مسك زمام الأمور بحكمة ووعي.. أمّا إن كان أهلاً للقوامة ولكنّ “الكبرياء” يمنعك من الخضوع له فراجعي نفسك قبل أن تغرق السفين وهيهات من ندم! واعلمي أنّ الرجل خلقه الله جل وعلا بخصائص جسديّة ونفسيّة تتوافق مع هذه القوامة كما أخصّكِ بمميّزات - أهمها العاطفة - تعينك على تربية النشء وحضانة الأولاد وأمور المنزل..إنّ هذه الرابطة الزوجية قد عبَّر عنها القرآن الكريم بلفظ “الميثاق الغليظ” لأهميتها في استقرار النفوس والقلوب.. وأرسى الإسلام لها قواعد وضمانات وتوسّعَ في تبيان الأسس التي على الزوجين أن يلتزما بها للوصول إلى لبنة متينة في مجتمعٍ إسلامي مستقر ينشده الجميع ويتوق إليه.. وما علينا إلا الاتّباع لنصل إلى الإستقرار والسكينة.. لننال سعادَتَي الدنيا والآخرة..
سحر المصري
مدونة ظلال وارفة