تشكو حال ابنتها المراهِقة.. أكلٌ وشربٌ ونومٌ وتلفازٌ وانترنت! مع أنّ المحيط ملتزم والأهل دائمو التوجيه والإرشاد: دون جدوى! وضع ابنتها هذه يُصيبها في مقتل وتجترع الأسى كلما نظرت إليها لتجدها في حالٍ من السلبية وعدم الاكتراث أو الانتاج لا لدنيا ولا لِدين! دائماً ما تناقشها في مآل الأمور والحال.. فتُصرِّح البنت أنها ضعيفة وسهلة الانقياد لأهوائها ورغباتها “وشيطانها قوي” وتتأثّر بسرعة بما حولها حتى وإن كان سيئاً.. على الرغم من التزامها بالفرائض من صلاة وصيام وأذكار وغيرها..

ثم رفعت صديقتي صوتها وقالت: بعد سنتين تتخرج من المدرسة وإلى البيت مباشرة! ليس عندي بنات يدخلن الجامعات! الدِّين عندي أهَم من العلم!

كنتُ أسمعها وأتحسّس حرقتها وحزنها الشديد على ابنتها وأناقشها بضرورة تقرّبها من ابنتها واحتوائها لها وإرشادها بالحسنى وأُداري جرحها حتى إذا ما نطقت بجملتها الأخيرة أردَت استيعابي قتيلاً!

أتفهّم تماماً الخوف الذي يعترينا جميعاً على فلذات أكبادنا وكلنا يهمّه الدِّين قبل أي شيء ولكن أن نمنع بناتنا من دخول الجامعة بحجّة الخوف عليهنّ من الانفلات فهذا ما لا أتفهّمه!

لِم يكون دائماً المطروح طرفَي نقيض فإمّا أن نطلق العنان وإمّا أن نُمعِن الخناق؟ لِم يكون الحل أبتراً فبدل من أن نفكّر كيف يمكننا تقوية الإيمان وزرع مخافة الله جل وعلا والتقوى في نفوس بناتنا ليواجِهن الحياة نُقعِدهنّ في البيت بدون تعليم ونوهِم أنفسنا أنه الحل الأمثل! لِم لا نغذّي شعلة الطموح والانشغال بالدعوة وخدمة المجتمع في أولادنا وفكرة أنهم مصابيح الهدى في عصر الضلال والفواحش بدلاً من طمس مهاراتهم وطاقاتهم بحجة الخوف عليهم؟!

ما الذي ينتظر الفتاة حين تُستَبْعَد عن التعليم في عصر التكنولوجيا والثورة العلمية في كل ميدان؟ وإن تركت بناتنا الساحة للشيوعيات والعلمانيات والمُلحِدات ليبرزن ويتسلّمن زمام الأمور في المجتمع فمَن سيربّي الجيل في المدارس والجامعات؟ ومَن سيتولّى طبابة النساء وتمريضهنّ؟ ومَن سيدعوهنّ على بصيرةٍ ويُفتيهنّ في أمورهنّ؟ وما مآل الجيل القادم في كنف نساء غير متعلمات ولا مثقفات سِعة أفقهنّ محدودة ومدارِكهنّ متواضعة؟! حتى حسن التبعل يحتاج امراة متعلمة مثقفة تتعامل مع زوجها بحب وانفتاح ومودة وتعرف كيف تراعيه وتحفظ بيته بحكمة ووعي..

ألن يؤدِّي هذا التقوقع إلى تهميش المرأة وتحجيم دورها وشلّ حركتها ما قد يؤدّي إلى أن تفقد الثقة بنفسها وبقدراتها وتضعف أكثر مما لو تعلّمت وتنوّرت؟! ما سيكون صدى تعلّم صديقاتها وتميّزهنّ على نفسيّتها فيما بعد؟ ألن يقتلها ذلك خاصة إن كان لديها الرغبة لتكملة مسيرتها التعليمية؟! ألا يمكن أن تحقد على أهلها لأنهم اختاروا لها أن تقعد مع القاعدين وربما تنقم على دينها لأنه السبب بزعمهم؟! أولن يكون في جلوس المرأة في البيت استمرار لحالة اللامبالاة والاستسلام لأهواء النفس دون قيد فتعود إلى الأكل والنوم والتلفاز لأن تكاليفها الحياتية محدودة ولا طموح لديها!!

ولا بد من إيضاح نقطة مهمة جداً وهي أنّني لا أدعو في هذا السياق المرأة إلى الثورة على القِيَم الإسلامية وإنما أدعوها إلى الالتزام الشديد بالإسلام على أن لا تبخس حق نفسها في العلم في زمنٍ باتت الشهادات الجامعية حاجة مُلِحّة وأساسيّة لتأمين لقمة العيش إن عضّ المرأة ناب الفقر أو الطلاق! واليد العليا خيرٌ من اليد السفلى..

القرار في البيت أمرٌ عظيم ومطلب كلّ أنثى وَعَت تماماً مخاطر الاختلاط والتعب في المجتمع الوظيفي وهو الأولى لها لتربية أولادها ومراعاة بيتها واستقراره ولكن أن تبقى في البيت وهي عزيزة قوية خيرٌ لها من أن تلزمه وهي ضعيفة منطوية!

وهذا التوجّه من إبقاء الفتاة دون تعليم بحجّة حمايتها من المجتمع هو محض توهّم.. وربما يكون الحل الأسهل كي لا يتكبّد الأهل أمر المراقبة الدقيقة والمتابعة المباشرة كما والسهر على التوعية والتحصين النفسي..

الجامعة جزء من المجتمع تضمّ الصالح والطالح.. والمؤمن والمفسد.. فبصحبةٍ صالحةٍ وتوصية بالحق ومتابعة حثيثة وإزكاء روح الدعوة والعزة بالإسلام والاحتواء الكامل وكثير دعاء نؤمِّن اللبنة الأولى التي ستحمي بناتنا من الضياع بإذن الله تعالى.. وإن منعناهنّ من الجامعة فهل سنحبسهنّ في قمقم ونعزلهنّ عن المجتمع كاملاً؟!!

إذاً فدور الأهل يتجسّد في غرس القِيَم وتوصيف الصح والخطأ وتعزيز الثقة بالله ثم بالنفس وإعطاء لقاحات المناعة الإيمانية والتوعية لمواجهة الحياة ثم الإعانة على جهاد النفس لينتقلن بعدها إلى جهاد المجتمع بل وتغييره إلى الأفضل وهذه رسالتنا حين خُلِقنا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعبادة الله جل وعلا..

فاسمحي لي يا صديقتي أن أُعارِضَك رأفةً بابنتك وبجيلٍ عريض يحتاج إلى كل فِكر وقلب لبناء مجتمع اسلامي نتوق فيه إلى الرواحل..

واعلمي أن الدِّين يأمرك بتعليم أبنائك وبناتك ليس فقط العلم الديني والذي هو أساس لمعرفة الله جل وعلا وتطبيق شرعه في حياةٍ نريدها كاملة له جل وعلا ولكن أيضاً تعليمهم العلم الدنيوي لرِفعتهم وتقدّم المجتمع المسلم وعمارة الأرض وإقامة العبودية لله جل وعلا..

إنّه زمن العلم يا صديقتي.. وما قيمة الإنسان بدون إيمانه وعلمه؟ ونحن نعيش في واقعٍ معيّن يحتِّم علينا أن نثبت وجودنا كمسلمين لا أن نكون من العوام الذين ينتظرون ما يُرمى إليهم من الآخرين دون ابداع وعطاء وابتكار..

مهينٌ أن نبقى في أواخر الركب ونحن ندّعي أننا نحافظ على ديننا فقط! بل نقوّي إيماننا ونتقرّب من ربنا جل وعلا ونثبت على الطاعات وإذ ما تحصّنّا بقوة لا تتزعزع –بإذنه- ننطلق في مجتمعاتنا مؤثّرين لا متأثّرين.. إيجابيين لا سلبيين.. مؤمنين أعزاء لا رعاع أذلاّء!

 

سحر المصري

صحيفة المصريون

JoomShaper