إسلام العدل – يقظة فكر
منذ البداية ونحن نتحدث من خلال مسار التراكم وهو يعني المبادرات الفرديَّة ونقصد بالفرديَّة ما دون الدولة ابتداءً من الفرد مرورًا, بالأسرة والمجموعات الصغيرة, وصولاً إلي المؤسسات العملاقة.
لذلك نجد أنَّ الحديث عن الفعاليَّة الحضاريَّة لابد أن ينقسم إلي قسمين:
1. الفعاليَّة الحضاريَّة الشخصيَّة.
2. الفعاليَّة الحضاريَّة الجمعيَّة.
الأُوُلى لأننا نتحدث عن فرديَّة الإنجاز, والثانية لأنَّنا لا نغفل للحظةٍ واحدة شموليَّة الرؤيَة وبالتالي سينبغي أن نوضّح كلا منهما والعلاقة بينهما ونبدأ الآن بالفعاليَّة الحضاريَّة الشخصيَّة.
الفعاليَّة الحضاريَّة الشخصيَّة
هي عمليَّة تحويل طاقات الإنسان المكدَّسة – ابتداءً – إلى عملٍ نافعٍ بناسب الوسائل في عصره, وذلك أثناء تفاعله مع الأحداث ولا يتوقع أن تصل إلي نسبة الـ100%.
وعمليَّة التحويل هي عمليَّة الانتقال من حالٍ إلى حال, وهذا الانتقال لابد له من تصوّر قبل حدوثه, فصحة الحركة مرتبطة بصحة التصوّر الذي سبقها, وهذا التحوّل لا يحدث من فراغ, بل لابد له من دافعيَّة تثير رغبة الإنسان في تفعيل قدرته, فتحدث عملية التحويل بعدها وهذه العملية تعتبر النقلة من عالم السكون إلى الحركة, ومن النظريَّة إلى التطبيق, ومن التكديس إلى الفعاليَّة.
أمَّا عن طاقات الإنسان فلكل إنسان سعة, وهي عبارة عن محصّلة الطاقات المكدّسة – ابتداءً – لديه هذه الطاقة عبارة عن قدرة الإنسان على بذل الجهد أو القدرة علي الفعل وهذه الطاقة هي التي تتم عليها عمليات التحويل إلى عمل بالإيجاب أو السلب, وفيما أعتقد إنَّ هذه الطاقة ليس لها حد أقصى لأنَّ حدَّها الأقصى هو بلوغ الكمال المطلق, وهو مالا يتأتى لبشر, وتحضرني الآية الكريمة: “هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً”.
وإذا ما بحثنا في أنواع تلك الطاقة سنجد أنَّ لدينا نوعين رئيسين منها:
• الأوَّل: غير المستهلكة:
وهي طاقة مكدسة خاملة لا يتم الاستفادة منها وأحيانًا يعتقد البعض أنها أفضل من السلبيَّة, بينما الحقيقة أنَّ هذه الطاقة تزيد مع التحديَّات وعوامل الشحن, وفي لحظة من اللحظات إذا لم يتم استغلالها ستؤدي إلى انفجار يُسمى “التطرّف” في أي جانب لا فارق وقتها.
• الثاني: المستهلكة:
وهي تنقسم إلى اتجاهين:
1. الايجابي: وهي طاقة مستغلة بناء على تصور سليم وباستخدام أدوات سليمة, ولكنها لا تخلو من حالة سلبيَّة وهي الظن بأنها أفضل ما يكون, وأنْ ليس في الإبداع أفضل مما كان, بينما الحقيقة أنَّ الوسائل تتغيّر مع مرور الزمن وتظهر وسائل أكثر فعاليَّة والتصورات لا تنشأ كاملة, بل يتم تقويمها يومًا يعد يوم بالتجربة والخطأ.
2. السلبي: وهو الذي يبنى من الأساس على تصوّرات خاطئة, وهي طاقة مهدرة بل الأسوأ أنَّها تضر المجتمع ككل وتؤثر في طاقات الآخرين.
نخلص من هذه النقطة:
إننا نواجه ثلاث حالات, ولكي نستطيع تفعيل أنفسنا حضاريًّا فلابد لنا من تفعيل طاقاتنا غير المستهلكة, وتقويم المهدرة, وتطوير آليَّات المستهلكة, ولا يتأتَّى ذلك إلا بالتركيز بداية على التصورات المسبقة, أي عالم الأفكار أولاً.
ولفهم كيفية التفعيل فلابد من إيضاح العوامل المؤثرة في عملية التحويل تلك, وذلك من خلال معادلة الفعاليَّة الحضاريَّة, وهي بالمناسبة مشتقة من المعادلة الفيزيائيَّة التي تقول: “السعة تساوي الشحنة مقسومة علي فرق الجهد”:
C = Q \ V
وكذلك بشكل أو بآخر يمكننا القول أنَّ:
الفعاليَّة الشخصيَّة (محصلة الطاقة التي تم تحويلها) تساوي الشحنة الدافعة (الدافعيَّة) مقسومة على فرق الجهد.
طاقة محولة = (قوة التحدي + الشحنة الإيمانيَّة)/ (1 – نسبة الجهد المبذول)
حيث الدافعية عبارة عن مجموع قوة التحدي (وهو يمثل الحاجة إلى رد فعل عقلاني), والشحنة الإيمانيَّة الروحانيَّة (وهي تمثل التجاوز), وكلاهما يتحكم فيه مجموعة كبيرة من المتغيرات ربما نتحدث عنها في مقال لاحق.
ولفهم مصطلح قوَّة التحدي لابد من معرفة نظريَّة التحدي والاستجابة لأرنولد تويني والتي تقول أنَّ “بناء الحضارات ينشأ نتيجة استجابة من الفئة المبدعة تجاه التحديات المحيطة بها, وهناك أنواع للتحدي لكن ما يهمنا هنا أنَّ هذه التحديات إذا كانت كبيرة في لحظة النشوء فهي تقل في أوج الحضارة للدرجة التي يمكن إهمالها من المعادلة وبالتالي تصبح الأهمية للشحنة الإيمانية الروحانية والتي بدورها تزيد وتنقص فتكون تارة بالإيجاب وتارة بالسلب.
أما فرق الجهد فيكون بين الحد الأقصى له وهو الواحد الصحيح والجهد المبذول وهو نسبة مئوية لا تصل في لحظة من اللحظات إلى الواحد الصحيح, وهذا الجهد مرتبط بالوسائل المعاصرة كذلك, حيث يمكن تطويره باستغلال الوسائل والممكنات المحيطة وبتطوير المهارات فعلي سبيل المثال:
لو أنَّ فردًا يبذل جهدًا بنسبة 50% من طاقته, فلو استخدم وسيلة جديدة يقل الجهد المبذول وبالتالي يصبح مثلا 40%, ويكون هناك 10% تم توفيرها لتعاد توجيهها في مجال آخر, فيصبح معدل الإنجاز أكبر, على الرغم من ثبات معدل الطاقة, ولو بذل مزيدًا من الجهد بمقدار 5% لتعلم مهارة جديدة سيقل الجهد المبذول بنسبة مضاعفة, وبالتالي يقل الجهد بنسبة 25 % فتصبح المحصلة 30%, وبالتالي يصبح هناك أمامه مساحة أكبر من الجهد الذي يستطيع تقديمه في مجال آخر, وهكذا يظل يدور في دائرة تطوير الوسائل والمهارات ولا يصل الجهد أبدًا إلى حالة ثابتة من الكمال, وهذه هي الحكمة من قوله تعالي “أيكم أحسن عملا”.
ولتكون هذه المعادلة فاعلة لابد أنْ يكون هذا الجهد المبذول في سبيل إنجاز عمل نافع, والعمل النافع الذي نقصده هنا هو الذي تحدثنا عنه في مقال سابق تحت عنوان فلسفة الإنجاز المتجاوز.
وسيزداد فهم هذه المعادلة ووضوح أثرها الحقيقي حينما نسقطها على المنحنى الحضاري, وذلك في المقال التالي تحت عنوان الفعاليَّة الحضاريَّة الجمعيَّة, أو المجتمعيَّة بإذن الله.
الفعاليَّة الحضاريَّة
- التفاصيل