بلال وهب
لم تدم حضارة عريقة النسب ضاربة في جذور الدنيا كما قامت حضارة العرب المسلمين..
وما استطاعت حضارة أن تنكح المادة من الروح وتقيم بينهما أواصر المودة والألفة كما علّم الأمة هذا الكتاب المعجز..!
وقد ألهبها بحماس العلم حين ألزمها بكلمة التقوى, وأمرها بتلاوة كتاب مسطور والسعي في كونٍ منظورٍ لا يثنيها سبحات المحاريب عن فجاج الأرض وطبقات السماء..
وقد فهم سلفنا هذه الرسالة المكتملة ورعوها حق رعايتها, وقامت على أكتافهم هذه الحضارة السامقة تناولها ولد صالح عن أب مستقيم عن جدٍ ورِعٍ بفهمٍ مستقيم, فانساحت هذه الفكرة في نواحي الأرض, كلما أتت على تربة ميتة نفثت فيها الحياة وأقامت معها الروح..
تأمَّلتُ كثيرا في التركة التي تلقَّيناها من هؤلاء العدول.. وكنت أتنزَّه كل حين في قصص الحضارة ناظرًا بتأمّل, أو فاهمًا بتدبر, أو معترضًا باندهاش..! إنَّ تاريخ الزمن طويل – أكثر من ألف سنة – وجغرافية الأرض واسعة – من حدود بلاد السند والهند وما وراء النهر إلى أقاصي أوروبا – فهل هذه هي التركة التي وصلتنا..؟!
وهل هذا فقط ما قدَّمته الحضارة الإسلاميَّة على مدار حقب التاريخ وتعاقب الدول والأفكار ونشأة التيَّارات المتصارعة والمتغالبة..؟!
أين بقيَّة الإرث القديم عن الأجداد..؟!
إنَّ كُتب التاريخ تحكي لي أنَّ أجدادي كانوا صُنّاع مهرة.. وفلكيين مجيدين.. ومخترعين كبار.. وفقهاء عظام.. ومعماريين جمّلوا وجه الأرض..! وأنَّ عصر الإنسان الموسوعي قد أثمر ثمرًا شهيًّا في عهودٍ مضت وانقضت في ظلّ حضارتنا..!!
لكن ما الذي بقي لنا من هذه الموسوعات..؟!
إنَّ ابن النفيس وهو من مفخرة علماء القرن السابع كان رجلاً عبقريًّا فَهم الإسلام فهمًا صحيحًا.. وقدَّم للعالم الدورة الدمويَّة الصغرى ثم رحل في صمتٍ عجيب.. وظلَّ الأمر مدفونًا حتى اكتشف أحد العلماء في مكتبة برلين شرحًا له..!!
دعك من هذا الجفاء.. وتساءل معي عن بقيَّة علم ابن النفيس.. لقد كان الرجل فقيهًا أديبًا فيلسوفًا مُحدّثًا قارئًا للقرآن.. وله في كل علمٍ بحث عميق, فأين ما تركه ابن النفيس..؟! بعضه سرقه العجم والآخر أهانه العرب..!!
وابن النفيس رمز لعلماء كُثر نهجوا نهجه وتابعوه أو سبقوه لهذه المؤسسية العلمية المتنوعة الفذة.. وقدموا للإنسانيَّة ما يزيد عمرانها في الأرض وما يقربها من السماء..!
فأين التركة التي تلقّفها الخلف عن السلف..؟؟!
سأغمض العين – مكلومًا – عن الكتب التي ألقاها التتر المغول في نهر الفرات.. وسأغض الطرف – حسيرًا – عن حز الرؤوس التي قطعها همج الصليب في الشام.. وسأشيح – حزينًا – عن جبروت بعض ملوك الطوائف في الأندلس وقتلهم العلماء بغير حق, ومع ذاك أتوارى – خجلاً – من عصور الانهزام والتخلف وقلة الحيلة من الحكام والمحكومين على السواء..!
لنتحاكم إلى عصور القوة والازدهار على مدار تاريخنا..
كَتَبَ الأستاذ مصطفى السباعي كتابه الشهير من روائع حضارتنا وفيه ضرب الأمثال عن تلك الحضارة التي وسعت الأرض بتنوعها وشمولها وما خلفه العظماء فيها من مؤسسات خيرية ومدارس ومعاهد ومستشفيات ومكتبات خاصة وعامة وملاعب ومحاريب ومجالس وندوات وعمارة وبنيان و…
وقد كنت أقرأه مشدوهًا ثم أقلب النظر فيما بقي من هذا الزخم.. فيرتد لي خائبًا وهو حسير..!!
إنَّ الورثة نقلوا الفقه وتركوا ما لأجله كان الفقه..! نقلوا علوم الدين حيث فهموه أنّه دين, وأهملوا علوم الدنيا التي تقام بها الدين..! ومُلئت آلاف الصحائف بملايين المسائل من كل حدب وصوب وقدّمت فروع الفقه على أنها أساس الدين وقوام الحضارة وعلم الله أن الفقه وحيدًا لا يقيم حضارة ولا يبني أمة..!!
وحتى علوم الفقه لم تسلم من ذاك الغبش المرير..!!
لقد أصابه الوهن والضعف وسوء التلقي, واندثرت أنواع من الفقه قيمة على حساب أنواع أخرى أقل قيمة وأضعف أثرًا.., فأين أثر الفقه الإداري الذي برع فيه أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة..؟ لقد بقي حبيس الورق..! وأين بقيّة الفقه الدولي الذي برع فيه محمد بن الحسن الشيباني..؟! لقد ظلمه الأعقاب وقدموا عليه فروعًا في الطهارة والماء.. وأين تراث العز بن عبد السلام في فقه الدولة..؟! لقد انشغل كثير منهم عنه بمسائل المسبحة ومسح الوجه بعد الدعاء ولربما سمعت له نحيبًا حين يتكلم به..!
قد كان أبقى عند الله وأنفع للناس لو قامت ثلّة ناهضة تركت هذه الفروع إلى علوم الفلك والحساب والطب والعمارة فألفت فيه المتون وأقامت عليه الاستدراكات وكتبت له الحواشي وصححت فيه المرويات..!
أفئن فعلت ذلك – خالصًا لوجه الله – كان قد نقص من إيمانها شيئًا..؟ حاشا وكلا..
إنَّ الإنشغال بما لا يحبه الله من علامات المقت, والهذر في كل موضع أمر معيب, وإشغال جماهير الأمة عن مقومات حياتها وما يدخلها على الله من غير عنت أمر يحسنه كل بليد الطبع ضعيف الإيمان..!
وحتى مع ذاك الغلو في هذه العلوم لم نسلم..! فلكم دخلت عليه فواجع بدلت المراتب وشوهت الوجه الناصع وأبقت بضع مسائل لم يسلم فيها التلامذة من الخوض فيها منصرفين عن عظائمها بأهونها وأخفها..!!
أما كان أبقى للناس لو صرف صاحب متن شهير سلاطة لسانه عن فريق من المسلمين خالفوه الرأي وانكب على علم يبقى ما بقيت الدنيا وتطورت الحياة..؟!
أوليس أنفع للأجيال المتلاحقة لو كان فريق أقام هذه العلوم في مقام البر ودفع عنها العقوق الذي مارسته معها جماهير غفيرة من الأمة بعضها على حساب بعض..؟!
إن ميراثنا قيّم.. وهو غني وفير.. لكن الورثة كسالى حينا وغافلين أحايين..! ومتى ظلت تقدمة الضعيف على القوي والمهم على الأهم ومتى بقيت الجرأة على تبديد الموروث وإهانته بما لا يليق ومتى ظلت علوم الإنسانية معقوقة مهجورة فإن وضع الحضارة الإسلامية سيظل مأزوما وستبقى الحيرة راكبة في الرؤوس ومشاهد التخلف لن تزول عن هذه الأمة ولو غربت عليها الشمس كل يوم..!!

JoomShaper