عمر الخذراوي*
موضوع حديثنا اليوم بإذن الله تعالى سيكون عن أدب الحديث وحفظ اللسان. فاتقوا الله عباد الله في كل ما تقولون و تفعلون ( واتقوا يوما تُرجعون فيه إلى الله ثم تُوفى كل نفس ما كسبت و هم لا يُظلمون) البقرة 281 .
عباد الله: إن ديننا الإسلامي دين عظيم كامل في أحكامه ، شامل في تشريعاته ، اعتنى بتكوين الفرد المسلم عقيدة وشريعة و سلوكا وآدابا وأخلاقا . هدى الله بهذا الدين إلى أرقى الأخلاق ، وأرشد إلى أكمل الآداب، و نهى عن السيئ من الأفعال و القبيح من الأقوال ، وإن مما دعا ووجه إليه الإسلام من الفضائل و الآداب العناية بأدب الحديث، وحسن المنطق و حفظ اللسان عن اللغو و فضول الكلام .
فمن نعم الله العظيمة علينا ، نعمة اللسان ، الذي به فضلنا على جميع مخلوقاته فصرنا قادرين على التوضيح و البيان ، وامتن الله علينا بذلك فقال : ( ألم نجعل له عينين . و لسانا و شفتين ) البد 8 ـ 9 . و قال عز من قائل : (( أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نُطفة فإذا هو خصيم مبين )) يس77 . فهذه النعمة حقها أن تُشكر لا أن تُكفر وأن يُراعى فيها حق الله تعالى و ما يجب له فيها من حفظ عن الحرام ، و صيانة عن اللغو و الآثام ، فاللسان أيها الإخوة من أعظم الجوارح أثرا وأكثرها خطرا ، فإن استُعمِل فيما يُرضي اللهَ و ينفع العباد كان سببا في السعادة و التوفيق لصاحبه في الدنيا و الآخرة ، و إن استُعمِلَ في معصية الله و الإضرار بالعباد كان سببا للهلاك في الدنيا و الآخرة .
لذلك عباد الله كانت عناية الإسلام بأمر اللسان فحث ربنا سبحانه و تعالى في مُحكم التنزيل وعلى لسان نبيه الصادق الأمين على حفظ اللسان و صيانته فقال عز شأنه : (( و قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن . إن الشيطان ينزغ بينهم . إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا)) الإسراء 53. ففي هذه الآية يأمر الله سبحانه و تعالى عباده المؤمنين أن يقولوا التي هي أحسن على كل حال و في كل مجال ، فيختاروا أحسن مايُقال ليقولوه .. بذلك يتقون أن يُفسد الشيطان ما بينهم من مودة و ألفة . فالشيطان ينزغ بين الأخوة بالكلمة الخشنة تنفلت من اللسان ، وبالرد الذي يتلوها ، فإذا جو الود و المحبة و الوفاق مشوب بالخلاف ثم بالجفوة ثم بالعداء ، و الكلمة الطيبة تأسوا جراح القلوب تندي جفافها ، و تجمعه على المحبة و الود الكريم . فالكلمة الطيبة تسد على الشيطان الثغرات، وتقطع عليه الطريق و تحفظ حرم الأخوة آمنا من نزغاته و نفثاثه. فإن المؤمن من صفاته أنه ينتقي أطايب الكلام كما يُنتقى أطايب الثمار. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما وعظ الناس: ((يأتي العبد يوم القيامة فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة)) فحث على الكلمة الطيبة.
ووصف الله ذوي الإيمان و أرباب التُقى و الإحسان بالإعراض عن اللغو و مجانبة الباطل من القول فقال جل و علا : (( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون . و الذين هم عن اللغو مُعرضون )) المؤمنون 1ـ3 . و قال سبحانه : (( و إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه و قالوا لنا أعمالنا و لكم أعمالكم . سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين )) القصص :55. فحفظ اللسان عن الحرام عنوان على استقامة الدين ، و كمال الإيمان ، و اتزان الأخلاق ففي الحديث الذي عند أحمد و غيره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه " بل و لأهمية اللسان وارتباط الجوارح به في الإستقامة و الإعوجاج استمعوا معي لهذا الحديث العظيم فعن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا أصبح إبن آدم فإن الأعضاء كلها تُكفِّرُ اللسان ، تقول : اتق الله فينا ، فإنما نحن بك ، فإن استقمت استقمنا ، وإن اعوججتِ ، اعوججنا" رواه الترمذي . قال الإمام النووي رحمه الله : " معنى (( تُكفِّرُ اللسان)) : أي تذل له و تخضع" .
فحفظ اللسان دليل على نفاسة المعدن ، وقلة الكلام عنوان الأدب ، ورفعة النفس ، ورجحان العقل وكما قيل في الحكم : " إذا تم العقل نقص الكلام " وقال بعض الحكماء : " كلام المرء بيان فضله ، وتُرجمان عقله ، فاقصره على الجميل ، واقتصر منه على القليل " .
وزن الكلام إذا نطقت فإنما يبدي عيوب ذوي العيوب المنطق
إن المسلم الواعي يحمله عقله و يدفعه إيمانه إلى الإعتناء بحُسن اللفظ و جميل المنطق ، فهو لا يتكلم إلا بخير ولا يتحدث إلا بمعروف فإذا رأى المُقام يدعو إلى الكلام تكلم ، وإلا آثر الصمت و كف لسانه طلبا للسلامة و طمعا في الأجر من الله سبحانه و تعالى ، عملا بوصية النبي صلوات الله و سلامه عليه عندما قال : " من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " متفق عليه .
وحُسن التعبير خُلق و أدب دعا الله إليه أهل الديانات السابقة و أخذ عليهم به العهد و الميثاق فقال عز وجل : (((وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله و بالوالدين إحسانا وذي القربى و اليتامى و المساكين و قولوا للناس حُسنا) البقرة 83 . فالناس كل الناس يحتاجون إلى الرفق و لين القول، وإن الطيب من القول ليجمل و يحسن مع كل أحد من الناس بلا استثناءِ سواء كانوا أعداء أو أصدقاء، فالكلام الحسن مع الأصدقاء سبب لاستدامة المحبة و الألفة ، وأما حسن الكلام مع الأعداء فإنه كما قيل : " يُذهب وحر الصدور ، و يسل السخائم و الضغائن ، ويُطفئ الخصومات" .، و إن المتتبع للكثير من المشاكل الخطيرة التي تنشأ في محيط الأسرة و المجتمع يرى أن مصدرها في كثير من الأحيان الكلام السيء الذي يصدر عن المرء بدون روية ولا تفكير فيقع عند الغير موقع الإستهجان و الكره لصاحبه .. وكثيرا ما يولِّدُ منازعات و عداوات كان في غنى عنها. فالشيطان متربص بالبشر يريد أن يُوقع العداوة و البغضاء ، و أن يجعل من النزاع التافه عراكا داميا و لن يسد الطريق أمامه كالقول الجميل و الكلمة الطيبة كما قال سبحانه و تعالى : (( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه و لي حميم . وما يُلقِّاها إلا الذين صبروا و مايُلقَّاها إلا ذو حظ عظيم)) فصلت 34ـ 35 .
أن للسان آفات عظيمة و آثار ومساوئ كثيرة فالواجب على المسلم أن يحترز في كلامه و أن يُحاسب على منطقه فيعيش في حذر دائم من فلتات لسانه فيجعل عمله كثيراً، وكلامه قليلاً، وذلك خيرٌ له، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " من كثر كلامه كثر سقطه ، و من كثر سقطه قل حياؤه ، ومن قل حياؤه قل ورعه ، ومن قل ورعه مات قلبه " ، وقال بعض السلف: " أطول الناس شقاء و أعظمهم بلاء من ابتُلي بلسان منطلق و فؤاد منطبق" فكثير الكلام يندم على كثرة كلامه، ولن يندم صامت على صمته في الغالب، فالعمل يكثر أو يقل بمقدار كثرة الكلام أو قلته، فكثير الكلام قليل العمل، وقليل الكلام كثير العمل، فعلى المؤمن إن تكلم أن يتكلم بما يعود بالفائدة عليه في دينه و دنياه ، قال لقمان لابنه: ((يا بني إذا افتخر الناس بحسن كلامهم، فافتخر أنت بحسن صمتك))، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((رحم الله من قال خيراً فغنم، أو سكت فَسَلِم)). إن الكلام التافه أيها الأخوة مضيعة للعمر، وهدرٌ للوقت، في غير ما خلق الإنسان له من جِدٍ وإنتاج، روي أن أعرابياً تكلم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وطوَّل، فقال: ((كم دون لسانك من حجاب؟ قال: شفتاي وأسناني، قال: فإن الله عز وجل يكره الإنبعاق في الكلام -أي الانصباب فيه بشدة- فنضَّر الله وجه امرئ أوجز في كلامه، فاقتصر على حاجته))، فمن الحكمة و الرشاد اجتناب فضول الكلام ، وحفظ اللسان عن كل ما لا ينفع في أمر دين او دنيا، و بهذا وصى النبي الأكرم صلوات الله و سلامه عليه أمته فقال في الحديث الذي يرويه الترمذي في سننه من حديث معاذ رضي الله عنه أنه سال النبي صلى الله عليه و سلم عن عمل يُقربه من الجنة و يُبعده عن النار فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم براس الأمر وعموده و ذروة سنامه، ثم قال : " ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ " قلت بلى يانبي الله ، قال : فأخذ بلسانه و قال : " كُف عليك هذا " فقلت: يانبي الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : " ثكلتك أمك يا مُعاذ ، و هل يكب الناس في النار على و جوههم ـ أو على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم" و قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. فانظروا إلى عظيم جناية اللسان على صاحبه إن جنايات اللسان ، من غيبة و نميمة ، و كذب و بهتان ، و فظاظة و سوء خلق كل ذلك يكون سببا في دخول النار ، و سخط الجبار : ولله در القائل :
احفـــــظ لسانك أيها الإنسان **** لا يلدغنك إنــــــــــه ثُعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه **** كانت تهاب لقـانه الشجعان
و يقول الأخر :
احفظ لسانك لا تقول فتُبتلى **** إن البلاء موكل بالمنطق
ولقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم و خيار هذه الأمة يخشون خطر اللسان ، و يحذرونه غاية الحذر ، فهذا ابوبكر الصديق يُخرج لسانه و يقول : " هذا الذي أوردني شر الموارد" و قال عبدالله بن مسعود : " و الله الذي لا إله غيره ، ما على ظهر الأرض شيئ أحوج إلى طول سجن من لسان" . وقال الحسن: [ اعقل لسانك إلا عن حق تقيمه، أو باطل تدحضه، أو حكمة تنشرها، أو نعمة تذكرها ] فعل المؤمن أن يُلجم لسانه بلجام التقوى ، ولا يُطلق له العنان ، فإنه يورده موارد الهلاك ، و يوقعه في كبائرالإثم و الموبقات ، من غيبة ، و نميمة، و فُحش، وكذب وافتراء، وخوض في أعراض الناس ، بالإستهزاء ، والإزدراء ، و ذكر المعايب ، وتلفيق التُهم ، و ترويج الإشاعات و الأكاذيب من غير رادع من دين ولا واعز من ضمير، متناسيا قوله تعالى : (( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد )) ق: 18. و قول النبي صلى الله عليه و سلم : " ليس المؤمن بالطعان و لا اللعان ، ولا الفاحش البذئ" رواه الترمذي و حسنه. و قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي يرويه البخاري في صحيحه : " إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالا يهوي بها في جهنم" .
فاتقوا الله عباد الله ، و احفظوا ألسنتكم عما حرم الله تعالى عليكم ، و تذكروا قول الله تعالى : ( يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا يُصلح لكم أعمالكم و يغفر لكم ذنوبكم و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزا عظيما ) الأحزاب 70 ـ 71 .
نفعني الله و إياكم بالقرآن الكريم، و بهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
عمر الخذراوي*
امام وخطيب مسجد تالا
خطبة الجمعة يوم 31 ديسمبر 2010م\
حفظ اللسان عن اللغو والآثام
- التفاصيل