تابَعَ مأساتها خلال سنوات زواجها العجاف.. وكان يعايش قصّتها التي بدأت بقبول قريبه زوجاً لها (لأنه ملتزم) والتي انتهت عند أعتاب المحكمة الشرعية بعد خلعٍ لطالما حلمت به.. عرف تفاصيل دقيقة بحكم القرابة وكان يعلم في قرارة نفسه أنّ زوجها عنده من السلبيات والطبائع ما يجعلها غير قادرة على التعايش معه.. ومع ذلك لم تشفع لها هذه المعرفة ولم يسعفه (التزامه) لقول كلمة صدق أمام القاضي.. مع أنها لم تحتَج منه هذه الكلمة لفضّ شراكتها المتعِبة تلك.. فكان أن رافق قريبه إلى مكتب القاضي فهو “المحامي” الذي يجب أن ينصر وكيلاً بدون وكالة! وبعدما انتهت الجلسة وردّد الطرفان كلمات الخلع ووقّع القاضي خرجت من فم المحامي كلمات لو مُزِجت بماء البحر لأنتنَته! قال بكل صفاقة وجه “الغِنى غِنى الأخلاق وليس غِنى المادة” وهو يعلم جيداً – ولكنه تعامى – أنّ ما دفع هذه الأخت للخلع لم تكن المادة بأي حال من الأحوال.. ولكنه أراد أن يُعيد ماء وجهٍ جفّ عند أعتاب قرارٍ أحياها بعد أن استحالت رماداً..
لم تستطع أن تغفر له رغم مرور السنين.. وليست من النوع الذي يحقد ولكنه زرع في قلبها نبتة الكره بيديه وأكمل السقاء سنوات حين استمر في استغابتها ليبيِّض وجوهاً اسودّت ذات محنة.. كانت الواقعة عظيمة بالنسبة لها والصفعة حادّة.. لِمَ تكلَّمَ في المحكمة ولم يكن مضطراً للتفوّه بهذه الكلمات القاتلة؟! ولِم تمادى فيما بعد ليدكّ سمعتها دكاً؟! وأين خوفه من الله جل وعلا وهو لا بد واقف بين يديه يوم يفرّ فيه المرء من أخيه؟! أسئلة لم تكن تجد لها جواباً إلا تكهّن واحد: انّه كان يقوم “بعمله”! فكَم وكَم من هؤلاء المحامون يخلعون التقى على أبواب المحاكم الشرعيّة ويلبسون ثياباً سوداء كأعمالهم ثم يدخلونها “ليدافعوا” عن المظلومين (بنظرهم) – المادي – ثمّ يقتاتون من هذا الظلم هم وعيالهم وتكبر بطونهم وبيوتهم وسياراتهم على حساب “العدالة” و “الحقيقة”!
وبعد عشر سنوات من ذاك الخلع تعود إلى الذكرى من ثان.. تلتقي بأختٍ لها في الله وتسألها عن ابنتها الجميلة فتخبرها أنها قاب قوسين أو أدنى من الطلاق.. وأنّها منذ سنة ونصف تذهب وتجيء في رحلات مكوكية إلى المحكمة وكل يوم دعوى جديدة وتلفيق جديد والهدف كما يبدو تبرئة الزوج من المهر وكل مسؤولياته المادية.. ثم تُطلِق دعوةً من قلبها على ذلك المحامي الذي يبدع في الإساءة إلى ابنتها ولم يسلم حتى أبوها من لسانه السليط! وهو يسوق الزوج كغنمة شاردة خرقاء ويُملي عليه ماذا يفعل ليخرج منتصراً في الأرض ظالماً في السماء! سألَتْها: من هو هذا المحامي؟ فقالت لها: فلان! ليكون هو نفسه الذي رافق زوجها السابق في جلسة الخلع! خرقت الدعوة أعماقها وقذفتها في أتون الذكرى.. لم يتغيّر! لا زال على حاله ولم يتب! لا زال متباهياً بلسانه وقوته وجبروته! لا زال ملتحّفاً بظلمه قاصداً دنياه غافلاً عن آهاتٍ ترددها النساء اللواتي اكْتَوَيْن من ممارساته غير السويّة..
كانت قد رأته هو نفسه في الطريق منذ فترة فأزاحت بوجهها عنه لكي لا تعود إلى الماضي السحيق.. لفتتها لحيته التي أطالها لتكتمل أدوات المهنة.. فهو “ملتزم”! ويصلي في المساجد ويحرص على إظهار الأخلاق والتودد “ليسترزق”!
متى يعي هؤلاء أن الحياة أقصر من أن يهرولوا وراء إعمارها بتمزيق الأخلاق وادّعاء عكسها عند هبوب عواصف المصلحة الشخصية والمادية؟ ومتى يوقِنون أن الدنيا أحقر من أن يظلموا الآخرين لقاء حفنة من مال أو سمعة؟! ومتى يفقهون أن المحاماة هي مهنة راقية لينصروا المظلوم ويقتصّوا من الظالم وأنها ليست لعرض العضلات والذكاء على حساب قلوب وأرواح مسكينة؟!
ومتى يدركون أنّ الملك يكتب ما يُمعنون في التمادي فيه وأنّ الله جل وعلا لا يغفل ولا ينام وسيحاسبهم على كل دمعة تسببوا بها لمظلوم بات وهو يدعو عليهم جراء ما فعلوه ليربحوا قضية في الدنيا فيخسروا الآخرة!
ألا ترتجف قلوبهم من أن يضمّهم قول الله جل وعلا في كتابه العزيز “وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ”؟!! ألم يفهموا قول الله جل وعلا في الحديث القدسي إذ قال “”يا عبادي.. إنّي حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا”.. ألم يسمعوا قول الحبيب عليه الصلاة والسلام حين قال “من حقوق المسلم على المسلم نصر المظلوم” وليس الظالم! وحين قال: “اتّقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة”! ألم يتدبّروا وصية الحبيب صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين أرسله إلى اليمن فقال “اتَّقِ دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب”!
إنّ المحاماة هي من أنبل المهام التي يمكن أن توكَل إلى إنسان لأنّه سيكون على عاتقه مساعدة أهل الحق لاستعادة حقوقهم ونصرة الضعيف فكيف إن كان هذا المحامي ملتزماً بشرع الله جل وعلا مخلِصاً عمله له سبحانه باغياً رضاه؟! ألا يكون حينها ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيعطي أبهى صورة للأخ الملتزم؟! وماذا لو انعكست الصورة فكان هذا المحامي كصاحبنا؟ ألا يكون قد أساء إلى الدين حين يدّعي شيئاً ويؤتي عكسه وبذلك يعطي أسوأ مثال عن الملتزمين؟!
فلينظر كلٌّ منا إلى ما يقول ويفعل وليضع نصب عينيه أنه لا بد سيفارق هذه الحياة وليحرص على أن يكون كتابه كما يحب الله جل وعلا ويرضى ليفوز بالحسنيين.. رضا الله تعالى في الدنيا وجنّته في الآخرة..
ولنتذكر جميعاً أنّ الظلم ظلمات.. فمن ظلم -ولو بكلمة- فلا يلومنّ إلا نفسه..
سحر المصري
صحيفة المصريون